الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 112 ] فصل منزلة التوكل

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة التوكل .

قال الله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ، وقال : ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) ، وقال : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ، وقال عن أوليائه : ( ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ) ، وقال لرسوله : ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ) ، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين ) ، وقال له : ( وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ) ، وقال له : ( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ) ، وقال له : ( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ) ، وقال عن أنبيائه ورسله : ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) ، وقال عن أصحاب نبيه : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) ، وقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) .

والقرآن مملوء من ذلك .

وفي الصحيحين - في حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب - هم [ ص: 113 ] الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون .

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حسبنا الله ونعم الوكيل . قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، حين ألقي في النار . وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له : ( : ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) ) .

وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللهم لك أسلمت وبك آمنت . وعليك توكلت . وإليك أنبت . وبك خاصمت . اللهم إني أعوذ بعزتك ، لا إله إلا أنت أن تضلني . أنت الحي الذي لا يموت . والجن والإنس يموتون .

وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعا : لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا .

وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله ، توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : هديت ووقيت وكفيت . فيقول الشيطان لشيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ؟ .

التوكل نصف الدين . والنصف الثاني الإنابة ، فإن الدين استعانة وعبادة . [ ص: 114 ] فالتوكل هو الاستعانة ، والإنابة هي العبادة .

ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها . ولا تزال معمورة بالنازلين ، لسعة متعلق التوكل ، وكثرة حوائج العالمين ، وعموم التوكل ، ووقوعه من المؤمنين والكفار ، والأبرار والفجار ، والطير والوحش والبهائم . فأهل السماوات والأرض - المكلفون وغيرهم - في مقام التوكل ، وإن تباين متعلق توكلهم . فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ، ونصرة دينه ، وإعلاء كلمته ، وجهاد أعدائه ، وفي محابه وتنفيذ أوامره .

ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه ، وحفظ حاله مع الله ، فارغا عن الناس .

ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه . من رزق أو عافية . أو نصر على عدو ، أو زوجة أو ولد ، ونحو ذلك .

ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش . فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله . وتوكلهم عليه ، بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات . ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك ، معتمدين على الله أن يسلمهم ، ويظفرهم بمطالبهم .

فأفضل التوكل ، التوكل في الواجب - أعني واجب الحق ، وواجب الخلق ، وواجب النفس - وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية . أو في دفع مفسدة دينية ، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ، ودفع فساد المفسدين في الأرض ، وهذا توكل ورثتهم . ثم الناس بعد في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم ، فمن متوكل على الله في حصول الملك ، ومن متوكل في حصول رغيف .

ومن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله . فإن كان محبوبا له مرضيا كانت له فيه العاقبة المحمودة ، وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه ، وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه . إن لم يستعن به على طاعاته . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية