الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قوله : فإن التوكل بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده .

يعني بالسبب : الاكتساب . فالمفوض قد فوض أمره إلى الله قبل اكتسابه وبعده . والمتوكل قد قام بالسبب . وتوكل فيه على الله . فصار التفويض أوسع .

فيقال : والتوكل قد يكون قبل السبب ومعه وبعده . فيتوكل على الله أن يقيمه في سبب يوصله إلى مطلوبه . فإذا قام به توكل على الله حال مباشرته . فإذا أتمه توكل على الله في حصول ثمراته . فيتوكل على الله قبله ، ومعه ، وبعده .

فعلى هذا : هو أوسع من التفويض على ما ذكر .

قوله : وهو عين الاستسلام ؛ أي التفويض عين الانقياد بالكلية إلى الحق سبحانه . ولا يبالي أكان ما يقضي له الخير . أم خلافه ؟ والمتوكل يتوكل على الله في مصالحه .

وهذا القدر هو الذي لحظه القوم في هضم مقام التوكل ، ورفع مقام التفويض عليه .

وجوابه من وجهين .

أحدهما : أن المفوض لا يفوض أمره إلى الله إلا لإرادته أن يقضي له ما هو خير له في معاشه ومعاده . وإن كان المقضي له خلاف ما يظنه خيرا . فهو راض به ؛ لأنه يعلم أنه خير له . وإن خفيت عليه جهة المصلحة فيه . وهكذا حال المتوكل سواء ، بل هو أرفع من المفوض ؛ لأن معه من عمل القلب ما ليس مع المفوض . فإن المتوكل مفوض وزيادة . فلا يستقيم مقام التوكل إلا بالتفويض . فإنه إذا فوض أمره إليه اعتمد بقلبه كله عليه بعد تفويضه .

ونظير هذا : أن من فوض أمره إلى رجل ، وجعله إليه . فإنه يجد من نفسه - بعد تفويضه - اعتمادا خاصا ، وسكونا وطمأنينة إلى المفوض إليه أكثر مما كان قبل التفويض . وهذا هو حقيقة التوكل .

[ ص: 140 ] الوجه الثاني : أن أهم مصالح المتوكل : حصول مراضي محبوبه ومحابه . فهو يتوكل عليه في تحصيلها له . فأي مصلحة أعظم من هذه ؟

وأما التفويض : فهو تفويض حاجات العبد المعيشية وأسبابها إلى الله . فإنه لا يفوض إليه محابه . والمتوكل يتوكل عليه في محابه .

والوهم إنما دخل من حيث يظن الظان : أن التوكل مقصور على معلوم الرزق ، وقوة البدن ، وصحة الجسم . ولا ريب أن هذا التوكل ناقص بالنسبة إلى التوكل في إقامة الدين والدعوة إلى الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية