فصل
الدين كله خلق . فمن زاد عليك في الخلق : زاد عليك في الدين . وكذلك التصوف .
قال الكناني : التصوف هو الخلق ، فمن زاد عليك في الخلق : فقد زاد عليك في التصوف .
وقد قيل : إن
nindex.php?page=treesubj&link=19507حسن الخلق بذل الندى ، وكف الأذى ، واحتمال الأذى .
وقيل : حسن الخلق : بذل الجميل ، وكف القبيح .
وقيل : التخلي من الرذائل ، والتحلي بالفضائل .
nindex.php?page=treesubj&link=19512_19513_19514وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها : الصبر ، والعفة ، والشجاعة ، والعدل .
فالصبر : يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ ، وكف الأذى ، والحلم والأناة والرفق ، وعدم الطيش والعجلة .
والعفة : تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل ، وتحمله على الحياء . وهو رأس كل خير . وتمنعه من الفحشاء ، والبخل والكذب ، والغيبة والنميمة .
والشجاعة : تحمله على عزة النفس ، وإيثار معالي الأخلاق والشيم ، وعلى البذل والندى ، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته . وتحمله على كظم الغيظ والحلم . فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ، ويكبحها بلجامها عن النزغ والبطش . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980493ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد : الذي يملك نفسه عند الغضب وهو حقيقة الشجاعة ، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه .
والعدل : يحمله على اعتدال أخلاقه ، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط . فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقحة . وعلى خلق الشجاعة ، الذي هو توسط بين الجبن والتهور . وعلى خلق الحلم ، الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس .
ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة .
[ ص: 295 ] ومنشأ جميع الأخلاق السافلة ، وبناؤها على أربعة أركان : الجهل . والظلم . والشهوة . والغضب .
فالجهل : يريه الحسن في صورة القبيح ، والقبيح في صورة الحسن . والكمال نقصا والنقص كمالا .
والظلم : يحمله على وضع الشيء في غير موضعه . فيغضب في موضع الرضا . ويرضى في موضع الغضب . ويجهل في موضع الأناة . ويبخل في موضع البذل . ويبذل في موضع البخل . ويحجم في موضع الإقدام . ويقدم في موضع الإحجام . ويلين في موضع الشدة . ويشتد في موضع اللين . ويتواضع في موضع العزة . ويتكبر في موضع التواضع .
والشهوة : تحمله على الحرص والشح والبخل ، وعدم العفة والنهمة والجشع ، والذل والدناءات كلها .
والغضب : يحمله على الكبر والحقد والحسد ، والعدوان والسفه .
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق : أخلاق مذمومة .
وملاك هذه الأربعة أصلان : إفراط النفس في الضعف ، وإفراطها في القوة . فيتولد من إفراطها في الضعف : المهانة والبخل ، والخسة واللؤم ، والذل والحرص ، والشح وسفساف الأمور والأخلاق .
ويتولد من إفراطها في القوة : الظلم والغضب والحدة ، والفحش والطيش .
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون . فإن النفس قد تجمع قوة وضعفا . فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر ، وأذلهم إذا قهر ، ظالما عنوفا جبارا . فإذا قهر صار أذل من امرأة : جبانا عن القوي ، جريئا على الضعيف .
فالأخلاق الذميمة : يولد بعضها بعضا ، كما أن الأخلاق الحميدة : يولد بعضها بعضا .
وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين . وهو وسط بينهما . وطرفاه خلقان ذميمان ، كالجود : الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير . والتواضع : الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة . والكبر والعلو .
فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت : إما إلى كبر وعلو ، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة . وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت : إما إلى قحة وجرأة ، وإما إلى عجز وخور ومهانة ، بحيث يطمع في نفسه عدوه . ويفوته كثير من مصالحه . ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء . وإنما هو المهانة والعجز ، وموت النفس .
[ ص: 296 ] وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت : إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط ، وإما إلى غلظة كبد ، وقسوة قلب ، وتحجر طبع . كما قال بعضهم :
تبكي علينا . ولا نبكي على أحد فنحن أغلظ أكبادا من الإبل . وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت : إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة ، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة . ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز ، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف . كما قيل :
كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت : إما إلى عجلة وطيش وعنف ، وإما إلى تفريط وإضاعة . والرفق والأناة بينهما .
وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين ، انحرفت : إما إلى كبر ، وإما إلى ذل . والعزة المحمودة بينهما .
وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت : إما إلى تهور وإقدام غير محمود ، وإما إلى جبن وتأخر مذموم .
وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت : إما إلى حسد ، وإما إلى مهانة ، وعجز وذل ورضا بالدون .
وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت : إما إلى حرص وكلب ، وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة .
وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت : إما إلى قسوة ، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس ، كمن لا يقدم على ذبح شاة ، ولا إقامة حد ، وتأديب ولد . ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك . وقد ذبح أرحم الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثا وستين بدنة . وقطع الأيدي من الرجال والنساء . وضرب الأعناق . وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم . وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم .
وكذلك طلاقة الوجه ، والبشر المحمود . فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد ، وطي البشر عن البشر ، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد ، بحيث يذهب الهيبة ، ويزيل الوقار ، ويطمع في الجانب ، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة ، والنفرة في قلوب الخلق .
[ ص: 297 ] وصاحب الخلق الوسط : مهيب محبوب ، عزيز جانبه ، حبيب لقاؤه . وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم من رآه بديهة هابه . ومن خالطه عشرة أحبه والله أعلم .
فَصْلٌ
الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ . فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ : زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ . وَكَذَلِكَ التَّصَوُّفُ .
قَالَ الْكِنَانِيُّ : التَّصَوُّفُ هُوَ الْخُلُقُ ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ : فَقَدْ زَادَ عَلَيْكَ فِي التَّصَوُّفِ .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=19507حُسْنَ الْخُلُقِ بَذْلُ النَّدَى ، وَكَفُّ الْأَذَى ، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى .
وَقِيلَ : حُسْنُ الْخُلُقِ : بَذْلُ الْجَمِيلِ ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ .
وَقِيلَ : التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ .
nindex.php?page=treesubj&link=19512_19513_19514وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ سَاقِهِ إِلَّا عَلَيْهَا : الصَّبْرُ ، وَالْعِفَّةُ ، وَالشَّجَاعَةُ ، وَالْعَدْلُ .
فَالصَّبْرُ : يَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَكَفِّ الْأَذَى ، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ ، وَعَدَمِ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ .
وَالْعِفَّةُ : تَحْمِلُهُ عَلَى اجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ . وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ . وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ ، وَالْبُخْلِ وَالْكَذِبِ ، وَالْغَيْبَةِ وَالنَّمِيمَةِ .
وَالشَّجَاعَةُ : تَحْمِلُهُ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ ، وَإِيثَارِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ ، وَعَلَى الْبَذْلِ وَالنَّدَى ، الَّذِي هُوَ شَجَاعَةُ النَّفْسِ وَقُوَّتُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ وَمُفَارَقَتِهِ . وَتَحْمِلُهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحِلْمِ . فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَشَجَاعَتِهَا يُمْسِكُ عِنَانَهَا ، وَيَكْبَحُهَا بِلِجَامِهَا عَنِ النَّزْغِ وَالْبَطْشِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=980493لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ : الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَهُوَ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ ، وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى قَهْرِ خَصْمِهِ .
وَالْعَدْلُ : يَحْمِلُهُ عَلَى اعْتِدَالِ أَخْلَاقِهِ ، وَتَوَسُّطِهِ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ . فَيَحْمِلُهُ عَلَى خُلُقِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْقِحَةِ . وَعَلَى خُلُقِ الشَّجَاعَةِ ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ . وَعَلَى خُلُقِ الْحِلْمِ ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْمَهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ .
وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ .
[ ص: 295 ] وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ ، وَبِنَاؤُهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ : الْجَهْلُ . وَالظُّلْمُ . وَالشَّهْوَةُ . وَالْغَضَبُ .
فَالْجَهْلُ : يُرِيهِ الْحَسَنَ فِي صُورَةِ الْقَبِيحِ ، وَالْقَبِيحَ فِي صُورَةِ الْحَسَنِ . وَالْكَمَالَ نَقْصًا وَالنَّقْصَ كَمَالًا .
وَالظُّلْمُ : يَحْمِلُهُ عَلَى وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . فَيَغْضَبُ فِي مَوْضِعِ الرِّضَا . وَيَرْضَى فِي مَوْضِعِ الْغَضَبِ . وَيَجْهَلُ فِي مَوْضِعِ الْأَنَاةِ . وَيَبْخَلُ فِي مَوْضِعِ الْبَذْلِ . وَيَبْذُلُ فِي مَوْضِعِ الْبُخْلِ . وَيُحْجِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِقْدَامِ . وَيُقْدِمُ فِي مَوْضِعِ الْإِحْجَامِ . وَيَلِينُ فِي مَوْضِعِ الشِّدَّةِ . وَيَشْتَدُّ فِي مَوْضِعِ اللِّينِ . وَيَتَوَاضَعُ فِي مَوْضِعِ الْعِزَّةِ . وَيَتَكَبَّرُ فِي مَوْضِعِ التَّوَاضُعِ .
وَالشَّهْوَةُ : تَحْمِلُهُ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ ، وَعَدَمِ الْعِفَّةِ وَالنَّهْمَةِ وَالْجَشَعِ ، وَالذُّلِّ وَالدَّنَاءَاتِ كُلِّهَا .
وَالْغَضَبُ : يَحْمِلُهُ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ ، وَالْعُدْوَانِ وَالسَّفَهِ .
وَيَتَرَكَّبُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ خُلُقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ : أَخْلَاقٌ مَذْمُومَةٌ .
وَمِلَاكُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ أَصْلَانِ : إِفْرَاطُ النَّفْسِ فِي الضَّعْفِ ، وَإِفْرَاطُهَا فِي الْقُوَّةِ . فَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الضَّعْفِ : الْمَهَانَةُ وَالْبُخْلُ ، وَالْخِسَّةُ وَاللُّؤْمُ ، وَالذُّلُّ وَالْحِرْصُ ، وَالشُّحُّ وَسَفْسَافُ الْأُمُورِ وَالْأَخْلَاقِ .
وَيَتَوَلَّدُ مِنْ إِفْرَاطِهَا فِي الْقُوَّةِ : الظُّلْمُ وَالْغَضَبُ وَالْحِدَّةُ ، وَالْفُحْشُ وَالطَّيْشُ .
وَيَتَوَلَّدُ مِنْ تَزَوُّجِ أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ بِالْآخَرِ أَوْلَادُ غِيَّةٍ كَثِيرُونَ . فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَجْمَعُ قُوَّةً وَضَعْفًا . فَيَكُونُ صَاحِبُهَا أَجْبَرَ النَّاسِ إِذَا قَدَرَ ، وَأَذَلَّهُمْ إِذَا قُهِرَ ، ظَالِمًا عَنُوفًا جَبَّارًا . فَإِذَا قُهِرَ صَارَ أَذَلَّ مِنِ امْرَأَةٍ : جَبَانًا عَنِ الْقَوِيِّ ، جَرِيئًا عَلَى الضَّعِيفِ .
فَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ : يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، كَمَا أَنَّ الْأَخْلَاقَ الْحَمِيدَةَ : يُوَلِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَكُلُّ خُلُقٍ مَحْمُودٍ مُكْتَنَفٌ بِخُلُقَيْنِ ذَمِيمَيْنِ . وَهُوَ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا . وَطَرَفَاهُ خُلُقَانِ ذَمِيمَانِ ، كَالْجُودِ : الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الْبُخْلِ وَالتَّبْذِيرِ . وَالتَّوَاضُعِ : الَّذِي يَكْتَنِفُهُ خُلُقَا الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ . وَالْكِبْرِ وَالْعُلُوِّ .
فَإِنَّ النَّفْسَ مَتَى انْحَرَفَتْ عَنِ التَّوَسُّطِ انْحَرَفَتْ إِلَى أَحَدِ الْخُلُقَيْنِ الذَّمِيمَيْنِ وَلَا بُدَّ ، فَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ التَّوَاضُعِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى كِبْرٍ وَعُلُوٍّ ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ . وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحَيَاءِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى قِحَةٍ وَجُرْأَةٍ ، وَإِمَّا إِلَى عَجْزٍ وَخَوَرٍ وَمَهَانَةٍ ، بِحَيْثُ يُطْمِعُ فِي نَفْسِهِ عَدُوَّهُ . وَيَفُوتُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَصَالِحِهِ . وَيَزْعُمُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَيَاءُ . وَإِنَّمَا هُوَ الْمَهَانَةُ وَالْعَجْزُ ، وَمَوْتُ النَّفْسِ .
[ ص: 296 ] وَكَذَلِكَ إِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الصَّبْرِ الْمَحْمُودِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى جَزَعٍ وَهَلَعٍ وَجَشَعٍ وَتَسَخُّطٍ ، وَإِمَّا إِلَى غِلْظَةِ كَبِدٍ ، وَقَسْوَةِ قَلْبٍ ، وَتَحَجُّرِ طَبْعٍ . كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ :
تَبْكِي عَلَيْنَا . وَلَا نَبْكِي عَلَى أَحَدٍ فَنَحْنُ أَغْلَظُ أَكْبَادًا مِنَ الْإِبِلِ . وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْحِلْمِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى الطَّيْشِ وَالتَّرَفِ وَالْحِدَّةِ وَالْخِفَّةِ ، وَإِمَّا إِلَى الذُّلِّ وَالْمَهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ . فَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ ذُلٍّ وَمَهَانَةٍ وَحَقَارَةٍ وَعَجْزٍ ، وَبَيْنَ مَنْ حِلْمُهُ حِلْمُ اقْتِدَارٍ وَعَزَّةٍ وَشَرَفٍ . كَمَا قِيلَ :
كُلُّ حِلْمٍ أَتَى بِغَيْرِ اقْتِدَارٍ حُجَّةٌ لَاجِئٌ إِلَيْهَا اللِّئَامُ
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى عَجَلَةٍ وَطَيْشٍ وَعُنْفٍ ، وَإِمَّا إِلَى تَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ . وَالرِّفْقُ وَالْأَنَاةُ بَيْنَهُمَا .
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْعِزَّةِ الَّتِي وَهَبَهَا اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ ، انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى كِبْرٍ ، وَإِمَّا إِلَى ذُلٍّ . وَالْعِزَّةُ الْمَحْمُودَةُ بَيْنَهُمَا .
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الشَّجَاعَةِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى تَهَوُّرٍ وَإِقْدَامٍ غَيْرِ مَحْمُودٍ ، وَإِمَّا إِلَى جُبْنٍ وَتَأَخُّرٍ مَذْمُومٍ .
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الْمُنَافَسَةِ فِي الْمَرَاتِبِ الْعَالِيَةِ وَالْغِبْطَةِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى حَسَدٍ ، وَإِمَّا إِلَى مَهَانَةٍ ، وَعَجْزٍ وَذُلٍّ وَرِضَا بِالدُّونِ .
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنِ الْقَنَاعَةِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى حِرْصٍ وَكَلَبٍ ، وَإِمَّا إِلَى خِسَّةٍ وَمَهَانَةٍ وَإِضَاعَةٍ .
وَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنْ خُلُقِ الرَّحْمَةِ انْحَرَفَتْ : إِمَّا إِلَى قَسْوَةٍ ، وَإِمَّا إِلَى ضَعْفِ قَلْبٍ وَجُبْنِ نَفْسٍ ، كَمَنْ لَا يَقْدَمُ عَلَى ذَبْحِ شَاةٍ ، وَلَا إِقَامَةِ حَدٍّ ، وَتَأْدِيبِ وَلَدٍ . وَيَزْعُمُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ ذَبَحَ أَرْحَمُ الْخَلْقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً . وَقَطَعَ الْأَيْدِيَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ . وَضَرَبَ الْأَعْنَاقَ . وَأَقَامَ الْحُدُودَ وَرَجَمَ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى مَاتَ الْمَرْجُومُ . وَكَانَ أَرْحَمَ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَرْأَفَهُمْ .
وَكَذَلِكَ طَلَاقَةُ الْوَجْهِ ، وَالْبِشْرُ الْمَحْمُودُ . فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ التَّعْبِيسِ وَالتَّقْطِيبِ وَتَصْعِيرِ الْخَدِّ ، وَطَيِّ الْبِشْرِ عَنِ الْبَشَرِ ، وَبَيْنَ الِاسْتِرْسَالِ بِذَلِكَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ ، بِحَيْثُ يُذْهِبُ الْهَيْبَةَ ، وَيُزِيلُ الْوَقَارَ ، وَيُطْمِعُ فِي الْجَانِبِ ، كَمَا أَنَّ الِانْحِرَافَ الْأَوَّلَ يُوقِعُ الْوَحْشَةَ وَالْبَغْضَةَ ، وَالنُّفْرَةَ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ .
[ ص: 297 ] وَصَاحِبُ الْخُلُقِ الْوَسَطِ : مَهِيبٌ مَحْبُوبٌ ، عَزِيزٌ جَانِبُهُ ، حَبِيبٌ لِقَاؤُهُ . وَفِي صِفَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ . وَمَنْ خَالَطَهُ عِشْرَةً أَحَبَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .