الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 301 ] فصل

قال صاحب " المنازل " :

الخلق : ما يرجع إليه المتكلف من نعمته .

أي خلق كل متكلف : فهو ما اشتملت عليه نعوته . فتكلفه يرده إلى خلقه . كما قيل : إن التخلق يأتي دونه الخلق .

وقال الآخر :


يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل

فمتكلف ما ليس من نعته ولا شيمته : يرجع إلى شيمته ، ونعته ، وسجيته . فذاك الذي يرجع إليه : هو الخلق .

قال واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم : أن التصوف هو الخلق . وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد . وهو بذل المعروف ، وكف الأذى .

قلت : من الناس من يجعلها ثلاثة : كف الأذى ، واحتمال الأذى ، وإيجاد الراحة .

ومنهم : من يجعلها اثنين - كما قال الشيخ - بذل المعروف ، وكف الأذى .

ومنهم من يردها إلى واحد . وهو بذل المعروف . والكل صحيح .

قال وإنما يدرك إمكان ذلك في ثلاثة أشياء . في العلم ، والجود ، والصبر . فالعلم يرشده إلى مواقع بذل المعروف ، والفرق بينه وبين المنكر ، وترتيبه في وضعه مواضعه . فلا يضع الغضب موضع الحلم . ولا بالعكس ، ولا الإمساك موضع البذل ، ولا بالعكس . بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها ، وموضع كل خلق : أين يضعه ، وأين يحسن استعماله .

والجود يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه ، والاستقصاء منها بحقوق غيره . فالجود هو قائد جيوش الخير .

والصبر يحفظ عليه استدامة ذلك . ويحمله على الاحتمال ، وكظم الغيظ ، وكف الأذى ، وعدم المقابلة . وعلى كل خير ، كما تقدم . وهو أكبر العون على نيل كل مطلوب [ ص: 302 ] من خير الدنيا والآخرة . قال الله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .

فهذه الثلاثة أشياء : بها يدرك التصوف ، والتصوف : زاوية من زوايا السلوك الحقيقي ، وتزكية النفس وتهذيبها . لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ، ومعية من تحبه . فإن المرء مع من أحب . كما قال سمنون : ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة . فإن المرء مع من أحب . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية