[ ص: 301 ] فصل
قال صاحب " المنازل " :
الخلق : ما يرجع إليه المتكلف من نعمته .
أي خلق كل متكلف : فهو ما اشتملت عليه نعوته . فتكلفه يرده إلى خلقه . كما قيل : إن التخلق يأتي دونه الخلق .
وقال الآخر :
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فمتكلف ما ليس من نعته ولا شيمته : يرجع إلى شيمته ، ونعته ، وسجيته . فذاك الذي يرجع إليه : هو الخلق .
قال واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29404التصوف هو الخلق . وجميع الكلام فيه يدور على قطب واحد . وهو بذل المعروف ، وكف الأذى .
قلت : من الناس من يجعلها ثلاثة : كف الأذى ، واحتمال الأذى ، وإيجاد الراحة .
ومنهم : من يجعلها اثنين - كما قال الشيخ - بذل المعروف ، وكف الأذى .
ومنهم من يردها إلى واحد . وهو بذل المعروف . والكل صحيح .
قال وإنما يدرك إمكان ذلك في ثلاثة أشياء . في العلم ، والجود ، والصبر . فالعلم يرشده إلى مواقع بذل المعروف ، والفرق بينه وبين المنكر ، وترتيبه في وضعه مواضعه . فلا يضع الغضب موضع الحلم . ولا بالعكس ، ولا الإمساك موضع البذل ، ولا بالعكس . بل يعرف مواقع الخير والشر ومراتبها ، وموضع كل خلق : أين يضعه ، وأين يحسن استعماله .
والجود يبعثه على المسامحة بحقوق نفسه ، والاستقصاء منها بحقوق غيره . فالجود هو قائد جيوش الخير .
والصبر يحفظ عليه استدامة ذلك . ويحمله على الاحتمال ، وكظم الغيظ ، وكف الأذى ، وعدم المقابلة . وعلى كل خير ، كما تقدم . وهو أكبر العون على نيل كل مطلوب
[ ص: 302 ] من خير الدنيا والآخرة . قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .
فهذه الثلاثة أشياء : بها يدرك التصوف ، والتصوف : زاوية من زوايا السلوك الحقيقي ، وتزكية النفس وتهذيبها . لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ، ومعية من تحبه . فإن المرء مع من أحب . كما قال
سمنون : ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة . فإن المرء مع من أحب . والله أعلم .
[ ص: 301 ] فَصْلٌ
قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ " :
الْخُلُقُ : مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُتَكَلِّفُ مِنْ نِعْمَتِهِ .
أَيْ خُلُقُ كُلِّ مُتَكَلِّفٍ : فَهُوَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نُعُوتُهُ . فَتَكَلُّفُهُ يَرُدُّهُ إِلَى خُلُقِهِ . كَمَا قِيلَ : إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتِي دُونَهُ الْخُلُقُ .
وَقَالَ الْآخَرُ :
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
فَمُتَكَلِّفُ مَا لَيْسَ مِنْ نَعْتِهِ وَلَا شِيمَتِهِ : يَرْجِعُ إِلَى شِيمَتِهِ ، وَنَعْتِهِ ، وَسَجِيَّتِهِ . فَذَاكَ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ : هُوَ الْخُلُقُ .
قَالَ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَةُ النَّاطِقِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29404التَّصَوُّفَ هُوَ الْخُلُقُ . وَجَمِيعُ الْكَلَامِ فِيهِ يَدُورُ عَلَى قُطْبٍ وَاحِدٍ . وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ، وَكَفُّ الْأَذَى .
قُلْتُ : مِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةً : كَفُّ الْأَذَى ، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى ، وَإِيجَادُ الرَّاحَةِ .
وَمِنْهُمْ : مَنْ يَجْعَلُهَا اثْنَيْنِ - كَمَا قَالَ الشَّيْخُ - بَذْلُ الْمَعْرُوفِ ، وَكَفُّ الْأَذَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرُدُّهَا إِلَى وَاحِدٍ . وَهُوَ بَذْلُ الْمَعْرُوفِ . وَالْكُلُّ صَحِيحٌ .
قَالَ وَإِنَّمَا يُدْرَكُ إِمْكَانُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ . فِي الْعِلْمِ ، وَالْجُودِ ، وَالصَّبْرِ . فَالْعِلْمُ يُرْشِدُهُ إِلَى مَوَاقِعِ بَذْلِ الْمَعْرُوفِ ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْكَرِ ، وَتَرْتِيبِهِ فِي وَضْعِهِ مَوَاضِعَهُ . فَلَا يَضَعُ الْغَضَبَ مَوْضِعَ الْحِلْمِ . وَلَا بِالْعَكْسِ ، وَلَا الْإِمْسَاكَ مَوْضِعَ الْبَذْلِ ، وَلَا بِالْعَكْسِ . بَلْ يَعْرِفُ مَوَاقِعَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَرَاتِبَهَا ، وَمَوْضِعَ كُلِّ خُلُقٍ : أَيْنَ يَضَعُهُ ، وَأَيْنَ يُحْسِنُ اسْتِعْمَالَهُ .
وَالْجُودُ يَبْعَثُهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِحُقُوقِ نَفْسِهِ ، وَالِاسْتِقْصَاءِ مِنْهَا بِحُقُوقِ غَيْرِهِ . فَالْجُودُ هُوَ قَائِدُ جُيُوشِ الْخَيْرِ .
وَالصَّبْرُ يَحْفَظُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةَ ذَلِكَ . وَيَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَكَفِّ الْأَذَى ، وَعَدَمِ الْمُقَابَلَةِ . وَعَلَى كُلِّ خَيْرٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ . وَهُوَ أَكْبَرُ الْعَوْنِ عَلَى نَيْلِ كُلِّ مَطْلُوبٍ
[ ص: 302 ] مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ .
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَشْيَاءَ : بِهَا يُدْرَكُ التَّصَوُّفُ ، وَالتَّصَوُّفُ : زَاوِيَةٌ مِنْ زَوَايَا السُّلُوكِ الْحَقِيقِيِّ ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا . لِتَسْتَعِدَّ لِسَيْرِهَا إِلَى صُحْبَةِ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى ، وَمَعِيَّةِ مَنْ تُحِبُّهُ . فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ . كَمَا قَالَ
سُمْنُونُ : ذَهَبَ الْمُحِبُّونَ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَإِنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .