الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " : قال الله تعالى : واذكر ربك إذا نسيت يعني : إذا نسيت غيره ونسيت نفسك في ذكرك ثم نسيت ذكرك في ذكره ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر .

ليته - قدس الله روحه - لم يقل .

فلا والله ما عنى الله هذا المعنى ، ولا هو مراد الآية ولا تفسيرها عند أحد من السلف ولا من الخلف .

وتفسير الآية عند جماعة المفسرين : أنك لا تقل لشيء : أفعل كذا وكذا ، حتى تقول : إن شاء الله . فإذا نسيت أن تقولها فقلها متى ذكرتها . وهذا هو الاستثناء المتراخي الذي جوزه ابن عباس وتأول عليه الآية . وهو الصواب .

فغلط عليه من لم يفهم كلامه ونقل عنه أن الرجل إذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا ، أو قال : نسائي الأربع طوالق . ثم بعد سنة يقول : إلا واحدة ، أو : إلا زينب - إن هذا الاستثناء ينفعه .

وقد صان الله عن هذا من هو دون غلمان ابن عباس بكثير ، فضلا عن البحر حبر الأمة وعالمها الذي فقهه الله في الدين وعلمه التأويل . وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة .

ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جدا وإن ساعد الله أفردنا له كتابا .

والذي أجمع عليه المفسرون : أن أهل مكة سألوا النبي عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين ، فقال : أخبركم غدا . ولم يقل : إن شاء الله . فتلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية . قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : معناه : [ ص: 404 ] إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ويجوز الاستثناء إلى سنة .

وقال عكرمة رحمه الله : واذكر ربك إذا غضبت وقال الضحاك والسدي : هذا في الصلاة ؛ أي إذا نسيت الصلاة فصلها متى ذكرتها .

وأما كلام صاحب " المنازل " : فيحمل على الإشارة لا على التفسير . فذكر أربع مراتب :

إحداها : أن ينسى غير الله ولا ينسى نفسه لأنه ناس لغيره ولا يكون ناسيا إلا ونفسه باقية يعلم أنه ناس بها لما سوى المذكور .

الثانية : نسيان نفسه في ذكره ، وهي التي عبر عنها بقوله : ونسيت نفسك في ذكرك . وفي هذه المرتبة : ذكره معه لم ينسه .

فقال في المرتبة الثالثة : ثم نسيت ذكرك في ذكره . وهي مرتبة الفناء .

ثم قال في المرتبة الرابعة : ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر . وهذا الفناء بذكر الحق عبده عن ذكر العبد ربه .

فأما المرتبة الأولى : فهي أول درجات الذكر وهي أن تنسى غير المذكور ولا تنسى نفسك في الذكر ، وفي هذه المرتبة : لم يذكره بتمام الذكر إذ لتمامه مرتبتان فوقه :

إحداهما : نسيان نفسه ، وهي المرتبة الثانية فيغيب بذكره عن نفسه فيعدم إدراكها بوجدان المذكور .

الثانية : نسيان ذكره في ذكره ، كما سئل ذو النون عن الذكر فقال : غيبة الذاكر عن الذكر ، ثم أنشد :


لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني

وهذه هي المرتبة الثالثة .

ففي الأولى : فني عما سوى المذكور ولم يفن عن نفسه . وفي الثانية : فني عن نفسه دون ذكره . وفي الثالثة : فني عن نفسه وذكره .

وبقي بعد هذا مرتبة رابعة وهي : أن يفنى بذكر الحق سبحانه له عن كل ذكر ، فإنه ما ذكر الله إلا بعد ذكر الله له ، فذكر الله للعبد سابق على ذكر العبد للرب ففي [ ص: 405 ] هذه المرتبة الرابعة : يشهد صفات المذكور سبحانه ، وذكره لعبده ، فيفنى بذلك عن شهود ما من العبد وهذا الذي يسمونه وجدان المذكور في الذكر والذاكر . فإن الذاكر وذكره والمذكور ثلاثة أشياء : فالذاكر وذكره قد اضمحلا وفنيا ، ولم يبق غير المذكور وحده ولا شيء معه سواه ، فهو الذاكر لنفسه بنفسه من غير حلول ولا اتحاد . بل الذكر منه بدأ وإليه يعود .

وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له : ذكر قبله به صار العبد ذاكرا له ، وذكر بعده به صار العبد مذكورا كما قال تعالى : فاذكروني أذكركم وقال فيما يروي عنه نبيه : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه .

والذكر الذي ذكره الله به بعد ذكره له : نوع غير الذكر الذي ذكره به قبل ذكره له ، ومن كثف فهمه عن هذا فليجاوزه إلى غيره ، فقد قيل :


إذا لم تستطع شيئا فدعه     وجاوزه إلى ما تستطيع

وسألت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يوما فقلت له : إذا كان الرب سبحانه يرضى بطاعة العبد ويفرح بتوبته ويغضب من مخالفته ، فهل يجوز أن يؤثر المحدث في القديم حبا وبغضا وفرحا وغير ذلك ؟ فقال لي : الرب سبحانه هو الذي خلق أسباب الرضا والغضب والفرح ، وإنما كانت بمشيئته وخلقه ، فلم يكن ذلك التأثر من غيره ، بل من نفسه بنفسه ، والممتنع أن يؤثر غيره فيه فهذا محال ، وأما أن يخلق هو أسبابا ويشاءها ويقدرها تقتضي رضاه ومحبته وفرحه وغضبه : فهذا ليس بمحال ، فإن ذلك منه بدأ وإليه يعود ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية