الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

والفراسة ثلاثة أنواع : إيمانية . وهي المتكلم فيها في هذه المنزلة .

وسببها : نور يقذفه الله في قلب عبده . يفرق به بين الحق والباطل ، والحالي والعاطل ، والصادق والكاذب .

وحقيقتها : أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده . يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة . لكن الفريسة فعيلة بمعنى مفعولة . وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة .

[ ص: 454 ] وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان . فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة .

قال أبو سعيد الخراز : من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق ، وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهو ولا غفلة . بل حكم حق جرى على لسان عبده .

وقال الواسطي : الفراسة شعاشع أنوار لمعت في القلوب ، وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب ، حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها ، فيتكلم عن ضمير الخلق .

وقال الداراني : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات الإيمان .

وسئل بعضهم عن الفراسة ؟ فقال : أرواح تتقلب في الملكوت . فتشرف على معاني الغيوب . فتنطق عن أسرار الخلق ، نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان .

وقال عمرو بن نجيد : كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطئ . ويقول : من غض بصره عن المحارم ، وأمسك نفسه عن الشهوات ، وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة ، وتعود أكل الحلال : لم تخطئ فراسته .

وقال أبو جعفر الحداد : الفراسة أول خاطر بلا معارض ، فإن عارضه معارض آخر من جنسه . فهو خاطر وحديث نفس .

وقال أبو حفص النيسابوري : ليس لأحد أن يدعي الفراسة . ولكن يتقي الفراسة من الغير . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا فراسة المؤمن . فإنه ينظر بنور الله . ولم يقل : تفرسوا . وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة ؟

وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق . فإنهم جواسيس القلوب ، يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون .

وكان الجنيد يوما يتكلم على الناس . فوقف عليه شاب نصراني متنكرا . فقال : أيها الشيخ ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله فأطرق الجنيد ، ثم رفع رأسه إليه . وقال : أسلم . فقد حان وقت إسلامك . فأسلم الغلام .

[ ص: 455 ] ويقال في بعض الكتب القديمة : إن الصديق لا تخطئ فراسته .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : العزيز في يوسف ، حيث قال لامرأته : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا . وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : استأجره وأبو بكر في عمر رضي الله عنهما ، حيث استخلفه . وفي رواية أخرى : وامرأة فرعون حين قالت : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا .

وكان الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة . وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ووقائع فراسته مشهورة . فإنه ما قال لشيء أظنه كذا إلا كان كما قال . ويكفي في فراسته : موافقته ربه في المواضع المعروفة .

ومر به سواد بن قارب ، ولم يكن يعرفه . فقال : لقد أخطأ ظني ، أو أن هذا كاهن ، أو كان يعرف الكهانة في الجاهلية . فلما جلس بين يديه قال له ذلك عمر . فقال : سبحان الله ، يا أمير المؤمنين ، ما استقبلت أحدا من جلسائك بمثل ما استقبلتني به . فقال له عمر رضي الله عنه : ما كنا عليه في الجاهلية أعظم من ذلك . ولكن أخبرني عما سألتك عنه . فقال : صدقت يا أمير المؤمنين . كنت كاهنا في الجاهلية . ثم ذكر القصة .

وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه صادق الفراسة . وقال أنس بن مالك رضي الله عنه : دخلت على عثمان بن عفان رضي الله عنه . وكنت رأيت امرأة في الطريق تأملت محاسنها . فقال عثمان رضي الله عنه : يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر في عينيه . فقلت : أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة .

وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة .

وأصل هذا النوع من الفراسة : من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده ، فيحيا القلب بذلك ويستنير ، فلا تكاد فراسته تخطئ . قال الله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كان ميتا بالكفر والجهل ، فأحياه الله بالإيمان والعلم . وجعل له بالقرآن والإيمان نورا يستضيء به في الناس على قصد السبيل . ويمشي به في الظلم . والله أعلم .

[ ص: 456 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية