الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال السكينة الثانية : هي التي تنطق على لسان المحدثين . ليست هي شيئا يملك . إنما هي شيء من لطائف صنع الحق . تلقي على لسان المحدث الحكمة كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء . وتنطق بنكت الحقائق مع ترويح الأسرار ، وكشف الشبه .

والسكينة إذا نزلت على القلب اطمأن بها . وسكنت إليها الجوارح . وخشعت ، واكتسبت الوقار ، وأنطقت اللسان بالصواب والحكمة ، وحالت بينه وبين قول الخنا والفحش ، واللغو والهجر ، وكل باطل ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقلبه .

وكثيرا ما ينطق صاحب السكينة بكلام لم يكن عن فكرة منه ، ولا روية ولا هبة ، ويستغربه هو من نفسه . كما يستغرب السامع له . وربما لا يعلم بعد انقضائه بما صدر منه .

[ ص: 474 ] وأكثر ما يكون : هذا عند الحاجة . وصدق الرغبة من السائل ، والمجالس ، وصدق الرغبة منه : هو إلى الله ، والإسراع بقلبه إلى بين يديه ، وحضرته ، مع تجرده من الأهواء ، وتجريده النصيحة لله ولرسوله ، ولعباده المؤمنين ، وإزالة نفسه من البين .

ومن جرب هذا عرف منفعته وعظمها . وساء ظنه بما يحسن به الغافلون ظنونهم من كثير من كلام الناس .

قوله : وليست شيئا يملك

يعني هي موهبة من الله تعالى ليست بسببية ولا كسبية . وليست كالسكينة التي كانت في التابوت

تنقل معهم كيف شاءوا .

وقوله : تلقي على لسان المحدث الحكمة أي تجري الصواب على لسانه .

وقوله : كما يلقي الملك الوحي على قلوب الأنبياء عليهم السلام .

يعني : أنها بواسطة الملائكة . بحيث تلقي في قلوب أربابها الحكمة عنهم والطمأنينة والصواب . كما أن الأنبياء تتلقى الوحي عن الله بواسطة الملائكة . ولكن ما للأنبياء مختص بهم . ولا يشاركهم فيه غيرهم . وهو نوع آخر .

وقوله : تنطق المحدثين بنكت الحقائق ، مع ترويج الأسرار وكشف الشبه

قد تقدم في أول الكتاب : ذكر مرتبة المحدث ، وأن هذا التحديث من مراتب الهداية العشرة ، وأن المحدث هو الذي يحدث في سره بالشيء ، فيكون كما يحدث به . والحقائق هي حقائق الإيمان والسلوك . ونكتها عيونها ومواضع الإشارات منها . ولا ريب أن تلك توجب للأسرار روحا تحيا به وتتنعم . وتكشف عنها شبهات لا يكشفها المتكلمون ولا الأصوليون . فتسكن الأرواح والقلوب إليها . ولهذا سميت سكينة ومن لم يفز من الله بذلك لم تنكشف عنه شبهاته . فإنها لا يكشفها إلا سكينة الإيمان واليقين .

التالي السابق


الخدمات العلمية