فصل
قال : ولا يغطيها حجاب تفرقة . ولا يعرج دونها على انتظار . الدرجة الثالثة : عطش المحب إلى جلوة ، ما دونها سحاب علة .
عطش المحب فوق عطش المريد والسالك . وإن كان كل محب سالكا وكل مريد سالكا . وكل سالك ومريد محب . لكن خص المحب بهذا الاسم لتمكنه من المحبة ، ورسوخ قلبه فيها .
والمريد والسالك : يشمران إلى علمه الذي رفع له ، ووصل إليه . ولذلك جعل الأولى : لأهل البدايات . والثانية : للمتوسطين . والثالثة : لأهل النهايات .
وقوله : عطش المحب إلى جلوة ، ما دونها سحاب .
يريد بالجلوة : استجلاء القلب لصفات المحبوب ومحاسنه ، وانكشافها له .
وقوله " ما دونها سحاب " أي لا يسترها شيء من سحب النفس . وهي سحب العلل التي هي بقايا في العبد ، تحول بينه وبين استجلائه صفات محبوبه ، وتعوقه عنه . فمهما بقي في العبد بقية من نفسه ، فهي سحاب وغيم ساتر على قدره . فكثيف ورقيق ، وبين بين .
[ ص: 66 ] قوله : " ولا يغطيها حجاب " : النفس وصفاتها وأحكامها . وهم مجمعون على أن النفس من أعظم الحجب . بل هي الحجاب الأكبر ، فإن حجاب الرب سبحانه عن ذاته هو " النور . لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " وحجابه من عبده : هو نفسه وظلمته ، فلو كشف عنه هذا الحجاب لوصل إلى ربه . الحجاب في لسان الطائفة
والوصول عند القوم : عبارة عن ارتفاع هذا الحجاب وزواله . فالحجاب الذي يشتد على المحب ، ويشتد عطشه إلى زواله : هو حجاب الظلمة والنفس . وهو الحجاب الذي بينه وبين الله .
وأما الحجاب الذي بين الله وبين خلقه - وهو حجاب النور - فلا سبيل إلى كشفه في هذا العالم ألبتة . ولا يطمع في ذلك بشر . ولم يكلم الله بشرا إلا من وراء حجاب . وهذا الحجاب كاشف للعبد ، موصل له إلى مقام الإحسان الذي يعبر عنه القوم بمقام المشاهدة ، والأول ساتر للعبد ، قاطع له ، حائل بينه وبين الإحسان وحقيقة الإيمان .
والتفرقة كلها عندهم حجب ، إلا تفرقة في الله وبالله ولله . فإنها لا تحجب العبد عنه . بل توصله إليه . فلذلك قال : ولا يغطيها حجاب تفرقة ، فإن التفرقة إنما تكون حجابا إذا كانت بالنفس ولها .
قوله : ولا يعرج دونها على انتظار ، يعني : لا يعرج المشاهد لما يشاهده على انتظار أمر آخر وراءها . كما يعرج المحب المحجوب على انتظار زوال حجابه . والمراد : أنه حصل له مشهد تام . لا يبقى له بعده ما ينتظره .
[ ص: 67 ] وهذا عندي وهم بين . فإنه لا غاية لجمال المحبوب وكمال صفاته . بحيث يصل المشاهد لها إلى حالة لا ينتظر معها شيئا آخر .
هذا . وسنبين - إن شاء الله تعالى - أنه لا يصح لأحد في الدنيا مقام المشاهدة أبدا ، وأن هذا من أوهام القوم وترهاتهم . وإنما غاية ما يصل إليه العبد : الشواهد . ولا سبيل لأحد قط في الدنيا إلى مشاهدة الحق سبحانه . وإنما وصوله إلى شواهد الحق . ومن زعم غير هذا فلغلبة الوهم عليه ، وحسن ظنه بترهات القوم وخيالاتهم .
ولله در الشبلي حيث سئل عن المشاهدة ؟ فقال : من أين لنا مشاهدة الحق ؟ لنا شاهد الحق . هذا ، وهو صاحب الشطحات المعروفة ، وهذا من أحسن كلامه وأبينه .
وأراد بشاهد الحق : ما يغلب على القلوب الصادقة العارفة الصافية : من ذكره ومحبته ، وإجلاله وتعظيمه وتوقيره ، بحيث يكون ذلك حاضرا فيها ، مشهودا لها ، غير غائب عنها . ومن أشار إلى غير ذلك فمغرور مخدوع . وغايته : أن يكون في خفارة صدقه ، وضعف تمييزه وعلمه .
ولا ريب أن القلوب تشاهد أنوارا بحسب استعدادها . تقوى تارة ، وتضعف أخرى . ولكن تلك أنوار الأعمال والإيمان والمعارف ، وصفاء البواطن والأسرار . لا أنها أنوار الذات المقدسة . فإن الجبل لم يثبت لليسير من ذلك النور حتى تدكدك وخر الكليم صعقا ، مع عدم تجليه له . فما الظن بغيره ؟
فإياك ثم إياك وترهات القوم وخيالاتهم وأوهامهم . فإنها عند العارفين أعظم من حجاب النفس وأحكامها . فإن المحجوب بنفسه معترف بأنه في ذلك الحجاب .
وصاحب هذه الخيالات والأوهام يرى أن الحقيقة قد تجلت له أنوارها . ولم يحصل ذلك لموسى بن عمران كليم الرحمن . فحجاب هؤلاء أغلظ بلا شك من حجاب أولئك . ولا يقر لنا بهذا إلا عارف قد أشرق في باطنه نور السنة المحمدية . فرأى ما الناس فيه . وما أعز ذلك في الدنيا . وما أغربه بين الخلق وبالله المستعان .
فالصادقون في أنوار معارفهم وعباداتهم وأحوالهم ليس إلا . وأنوار ذات الرب تبارك وتعالى وراء ذلك كله . وهذا الموضع من مقاطع الطريق ، ولله كم زلت فيه أقدام ! وضلت فيه أفهام ! وحارت فيه أوهام ! ونجا منه صادق البصيرة ، تام المعرفة ، علمه متصل بمشكاة النبوة . وبالله التوفيق .