[ ص: 132 ] قال :
nindex.php?page=treesubj&link=24479والمعنى الثالث ، قالوا : الوقت الحق . أرادوا به : استغراق رسم الوقت في وجود الحق . وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي . لكنه هو اسم في هذا المعنى الثالث ، لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفا . لا وجودا محضا . وهو فوق البرق والوجد . وهو يشارف مقام الجمع ، لو دام وبقي . ولا يبلغ وادي الوجود ، لكنه يكفي مؤنة المعاملة ، ويصفي عين المسامرة . ويشم روائح الوجود .
هذا المعنى الثالث من معاني الوقت أخص مما قبله . وأصعب تصورا وحصولا . فإن الأول : وقت سلوك يتلون . وهذا وقت كشف يتمكن . ولذلك أطلقوا عليه اسم الحق لغلبة حكمه على قلب صاحبه . فلا يحس برسم الوقت ، بل يتلاشى ذكر وقته من قلبه ، لما قهره من نور الكشف .
فقوله : قالوا : الوقت هو الحق .
يعني : أن بعضهم أطلق اسم الحق على الوقت ، ثم فسر مرادهم بذلك . وأنهم عنوا به استغراق رسم الوقت في وجود الحق . ومعنى هذا : أن السالك بهذا المعنى الثالث للحق : إذا اشتد استغراقه في وقت يتلاشى عنه وقته بالكلية .
وتقريب هذا إلى الفهم : أنه إذا شهد استغراق وقته الحاضر في ماهية الزمان . فقد استغرق الزمان رسم الوقت إلى ما هو جزء يسير جدا من أجزائه ، وانغمر فيه . كما تنغمر القطرة في البحر . ثم إن الزمان - المحدود الطرفين - يستغرق رسمه في وجود الدهر . وهو ما بين الأزل والأبد . ثم إن الدهر يستغرق رسمه في دوام الرب جل جلاله . وذلك الدوام : هو صفة الرب . فهناك يضمحل الدهر والزمان والوقت . ولا يبقى له نسبة إلى دوام الرب جل جلاله ألبتة . فاضمحل الزمان والدهر والوقت في الدوام الإلهي ، كما تضمحل الأنوار المخلوقة في نوره ، وكما يضمحل علم الخلق في علمه ، وقدرتهم في قدرته ، وجمالهم في جماله ، وكلامهم في كلامه ، بحيث لا يبقى للمخلوق نسبة ما إلى صفات الرب جل جلاله .
والقوم إذا أطلق أهل الاستقامة منهم " ما في الوجود إلا الله " أو " ما ثم موجود على الحقيقة إلا الله " أو " هناك : يفنى من لم يكن . ويبقى من لم يزل " ونحو ذلك من العبارات ، فهذا مرادهم . لا سيما إذا حصل هذا الاستغراق في الشهود كما هو في
[ ص: 133 ] الوجود . وغلب سلطانه على سلطان العلم . وكان العلم مغمورا بوارده . وفي قوة التمييز ضعف . وقد توارى العلم بالشهود وحكم الحال .
فهناك
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت وتزل أقدام كثيرة إلى الحضيض الأدنى . ولا ريب أن وجود الحق سبحانه ودوامه يستغرق وجود كل ما سواه ووقته وزمانه . بحيث يصير كأنه لا وجود له .
ومن هنا غلط القائلون بوحدة الوجود . وظنوا أنه ليس لغيره وجود ألبتة . وغرهم كلمات مشتبهات جرت على ألسنة أهل الاستقامة من الطائفة . فجعلوها عمدة لكفرهم وضلالهم . وظنوا أن السالكين سيرجعون إليهم ، وتصير طريقة الناس واحدة
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
قوله : وهذا المعنى يسبق على هذا الاسم عندي .
يريد : أن " الحق " سابق على الاسم الذي هو " الوقت " أي منزه عن أن يسمى بالوقت . فلا ينبغي إطلاقه عليه . لأن الأوقات حادثة .
قوله : لكنه اسم في هذا المعنى الثالث ، لحين تتلاشى فيه الرسوم كشفا لا وجودا محضا .
تلاشي الرسوم اضمحلالها وفناؤها . والرسوم عندهم : ما سوى الله .
وقد صرح الشيخ : أنها إنما تتلاشى في وجود العبد الكشفي . بحيث لا يبقى فيه سعة للإحساس بها ، لما استغرقه من الكشف . فهذه عقيدة أهل الاستقامة من القوم .
وأما الملاحدة ، أهل وحدة الوجود ، فعندهم : أنها لم تزل متلاشية في عين وجود الحق ، بل وجودها هو نفس وجوده . وإنما كان الحس يفرق بين الوجودين . فلما غاب عن حسه بكشفه ، تبين أن وجودها هو عين وجود الحق .
ولكن الشيخ كأنه عبر بالكشف والوجود عن المقامين اللذين ذكرهما في كتابه . والكشف هو دون الوجود عنده . فإن الكشف يكون مع بقاء بعض رسوم صاحبه . فليس معه استغراق في الفناء . والوجود لا يكون معه رسم باق . ولذلك قال : لا وجودا محضا ، فإن الوجود المحض عنده : يفني الرسوم . وبكل حال : فهو يفنيها من وجود الواجد ، لا يفنيها في الخارج .
[ ص: 134 ] وسر المسألة : أن الواصل إلى هذا المقام يصير له وجود آخر ، غير وجوده الطبيعي المشترك بين جميع الموجودات . ويصير له نشأة أخرى لقلبه وروحه ، نسبة النشأة الحيوانية إليها كنسبة النشأة في بطن الأم إلى هذه النشأة المشاهدة في العالم ، وكنسبة هذه النشأة إلى النشأة الأخرى .
فللعبد أربع نشآت : نشأة في الرحم ، حيث لا بصر يدركه . ولا يد تناله . ونشأة في الدنيا . ونشأة في البرزخ . ونشأة في المعاد الثاني . وكل نشأة أعظم من التي قبلها . وهذه النشأة للروح والقلب أصلا ، وللبدن تبعا .
فللروح في هذا العالم نشأتان . إحداهما : النشأة الطبيعية المشتركة . والثانية : نشأة قلبية روحانية ، يولد بها قلبه ، وينفصل عن مشيمة طبعه ، كما ولد بدنه وانفصل عن مشيمة البطن .
ومن لم يصدق بهذا فليضرب عن هذا صفحا ، وليشتغل بغيره .
وفي كتاب الزهد
nindex.php?page=showalam&ids=12251للإمام أحمد : أن
المسيح عليه السلام قال
للحواريين : إنكم لن تلجوا ملكوت السماوات حتى تولدوا مرتين .
وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية - رحمه الله - يقول : هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان ، وخروجها من عالم الطبيعة ، كما ولدت الأبدان من البدن وخرجت منه . والولادة الأخرى : هي الولادة المعروفة . والله أعلم .
قوله : وهو فوق البرق والوجد .
يعني : أن هذا الكشف الذي تلاشت فيه الرسوم : فوق منزلتي البرق والوجد ، فإنه أثبت وأدوم ، والوجود فوقه . لأنه يشعر بالدوام .
قوله : وهو يشارف مقام الجمع لو دام .
أي لو دام هذا الوقت لشارف مقام الجمع وهو ذهاب شعور القلب بغير الحق سبحانه وتعالى ، شغلا به عن غيره . فهو جمع في الشهود .
وعند الملاحدة : هو جمع في الوجود .
ومقصوده : أنه لو داوم الوقت بهذا المعنى الثالث : لشارف حضرة الجمع . لكنه لا يدوم .
[ ص: 135 ] قوله : ولا يبلغ وادي الوجود يعني : أن الوقت المذكور لا يبلغ السالك فيه وادي الوجود حتى يقطعه . ووادي الوجود : هو حضرة الجمع .
قوله : لكنه يلقى مؤنة المعاملة .
يعني : أن الوقت المذكور - وهو الكشف المشارف لحضرة الجمع - يخفف عن العامل أثقال المعاملة ، مع قيامه بها أتم القيام ، بحيث تصير هي الحاملة له . فإنه كان يعمل على الخبر . فصار يعمل على العيان . هذا مراد الشيخ .
وعند الملحد : أنه يفنى عن المعاملات الجسمانية ، ويرد صاحبه إلى المعاملات القلبية . وقد تقدم إشباع الكلام في هذا المعنى .
قوله " ويصفي عن المسامرة "
nindex.php?page=treesubj&link=29554المسامرة : عند القوم هي الخطاب القلبي الروحي بين العبد وربه . وقد تقدم : أن تسميتها بالمناجاة أولى . فهذا الكشف يخلص عن المسامرة من ذكر غير الحق سبحانه ومناجاته .
قوله : ويشم روائح الوجود أي صاحب مقام هذا الوقت الخاص : يشم روائح الوجود . وهو حضرة الجمع . فإنهم يسمونها بالجمع والوجود . ويعنون بذلك : ظهور وجود الحق سبحانه . وفناء وجود ما سواه .
وقد عرفت أن فناء وجود ما سواه بأحد اعتبارين : إما فناؤه من شهود العبد فلا يشهده ، وإما اضمحلاله وتلاشيه بالنسبة إلى وجود الرب . ولا تلتفت إلى غير هذين المعنيين . فهو إلحاد وكفر . والله المستعان .
[ ص: 132 ] قَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=24479وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ ، قَالُوا : الْوَقْتُ الْحَقُّ . أَرَادُوا بِهِ : اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ . وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْبِقُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ عِنْدِي . لَكِنَّهُ هُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ ، لِحِينِ تَتَلَاشَى فِيهِ الرُّسُومُ كَشْفًا . لَا وُجُودًا مَحْضًا . وَهُوَ فَوْقُ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ . وَهُوَ يُشَارِفُ مَقَامَ الْجَمْعِ ، لَوْ دَامَ وَبَقِيَ . وَلَا يَبْلُغُ وَادِيَ الْوُجُودِ ، لَكِنَّهُ يَكْفِي مَؤُنَةَ الْمُعَامَلَةِ ، وَيُصَفِّي عَيْنَ الْمُسَامَرَةِ . وَيَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ .
هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ . وَأَصْعَبُ تَصَوُّرًا وَحُصُولًا . فَإِنَّ الْأَوَّلَ : وَقْتُ سُلُوكٍ يَتَلَوَّنُ . وَهَذَا وَقْتُ كَشْفٍ يَتَمَكَّنُ . وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْحَقِّ لِغَلَبَةِ حُكْمِهِ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهِ . فَلَا يُحِسُّ بِرَسْمِ الْوَقْتِ ، بَلْ يَتَلَاشَى ذِكْرُ وَقْتِهِ مِنْ قَلْبِهِ ، لِمَا قَهَرَهُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ .
فَقَوْلُهُ : قَالُوا : الْوَقْتُ هُوَ الْحَقُّ .
يَعْنِي : أَنَّ بَعْضَهُمْ أَطْلَقَ اسْمَ الْحَقِّ عَلَى الْوَقْتِ ، ثُمَّ فَسَّرَ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ . وَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ . وَمَعْنَى هَذَا : أَنَّ السَّالِكَ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ لِلْحَقِّ : إِذَا اشْتَدَّ اسْتِغْرَاقُهُ فِي وَقْتٍ يَتَلَاشَى عَنْهُ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَتَقْرِيبُ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ : أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ اسْتِغْرَاقَ وَقْتِهِ الْحَاضِرِ فِي مَاهِيَّةِ الزَّمَانِ . فَقَدِ اسْتَغْرَقَ الزَّمَانُ رَسْمَ الْوَقْتِ إِلَى مَا هُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا مِنْ أَجْزَائِهِ ، وَانْغَمَرَ فِيهِ . كَمَا تَنْغَمِرُ الْقَطْرَةُ فِي الْبَحْرِ . ثُمَّ إِنَّ الزَّمَانَ - الْمَحْدُودَ الطَّرَفَيْنِ - يَسْتَغْرِقُ رَسْمُهُ فِي وُجُودِ الدَّهْرِ . وَهُوَ مَا بَيْنَ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ . ثُمَّ إِنَّ الدَّهْرَ يَسْتَغْرِقُ رَسْمَهُ فِي دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ . وَذَلِكَ الدَّوَامُ : هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ . فَهُنَاكَ يَضْمَحِلُّ الدَّهْرُ وَالزَّمَانُ وَالْوَقْتُ . وَلَا يَبْقَى لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ أَلْبَتَّةَ . فَاضْمَحَلَّ الزَّمَانُ وَالدَّهْرُ وَالْوَقْتُ فِي الدَّوَامِ الْإِلَهِيِّ ، كَمَا تَضْمَحِلُّ الْأَنْوَارُ الْمَخْلُوقَةُ فِي نُورِهِ ، وَكَمَا يَضْمَحِلُّ عِلْمُ الْخَلْقِ فِي عِلْمِهِ ، وَقُدْرَتُهُمْ فِي قُدْرَتِهِ ، وَجَمَالُهُمْ فِي جَمَالِهِ ، وَكَلَامُهُمْ فِي كَلَامِهِ ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَخْلُوقِ نِسْبَةٌ مَا إِلَى صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ .
وَالْقَوْمُ إِذَا أَطْلَقَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ " مَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " هُنَاكَ : يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ . وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ ، فَهَذَا مُرَادُهُمْ . لَا سِيَّمَا إِذَا حَصَلَ هَذَا الِاسْتِغْرَاقُ فِي الشُّهُودِ كَمَا هُوَ فِي
[ ص: 133 ] الْوُجُودِ . وَغَلَبَ سُلْطَانُهُ عَلَى سُلْطَانِ الْعِلْمِ . وَكَانَ الْعِلْمُ مَغْمُورًا بِوَارِدِهِ . وَفِي قُوَّةِ التَّمْيِيزِ ضَعْفٌ . وَقَدْ تَوَارَى الْعِلْمُ بِالشُّهُودِ وَحَكَمَ الْحَالُ .
فَهُنَاكَ
nindex.php?page=tafseer&surano=14&ayano=27يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ وَتَزِلُّ أَقْدَامٌ كَثِيرَةٌ إِلَى الْحَضِيضِ الْأَدْنَى . وَلَا رَيْبَ أَنَّ وُجُودَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَدَوَامَهُ يَسْتَغْرِقُ وُجُودَ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَوَقْتَهُ وَزَمَانَهُ . بِحَيْثُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ .
وَمِنْ هُنَا غَلِطَ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ . وَظَنُّوا أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ أَلْبَتَّةَ . وَغَرَّهُمْ كَلِمَاتٌ مُشْتَبِهَاتٌ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الطَّائِفَةِ . فَجَعَلُوهَا عُمْدَةً لِكُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ . وَظَنُّوا أَنَّ السَّالِكِينَ سَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ ، وَتَصِيرُ طَرِيقَةُ النَّاسِ وَاحِدَةً
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=32وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ .
قَوْلُهُ : وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْبِقُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ عِنْدِي .
يُرِيدُ : أَنَّ " الْحَقَّ " سَابِقٌ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الْوَقْتُ " أَيْ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِالْوَقْتِ . فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ . لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ حَادِثَةٌ .
قَوْلُهُ : لَكِنَّهُ اسْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ ، لِحِينِ تَتَلَاشَى فِيهِ الرُّسُومُ كَشْفًا لَا وُجُودًا مَحْضًا .
تَلَاشِي الرُّسُومِ اضْمِحْلَالُهَا وَفَنَاؤُهَا . وَالرُّسُومُ عِنْدَهُمْ : مَا سِوَى اللَّهِ .
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ : أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَلَاشَى فِي وُجُودِ الْعَبْدِ الْكَشْفِيِّ . بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ سَعَةٌ لِلْإِحْسَاسِ بِهَا ، لِمَا اسْتَغْرَقَهُ مِنَ الْكَشْفِ . فَهَذِهِ عَقِيدَةُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الْقَوْمِ .
وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ ، أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ ، فَعِنْدَهُمْ : أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَلَاشِيَةً فِي عَيْنِ وُجُودِ الْحَقِّ ، بَلْ وُجُودُهَا هُوَ نَفْسُ وُجُودِهِ . وَإِنَّمَا كَانَ الْحِسُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودَيْنِ . فَلَمَّا غَابَ عَنْ حِسِّهِ بِكَشْفِهِ ، تَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَهَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ .
وَلَكِنَّ الشَّيْخَ كَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْكَشْفِ وَالْوُجُودِ عَنِ الْمَقَامَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي كِتَابِهِ . وَالْكَشْفُ هُوَ دُونَ الْوُجُودِ عِنْدَهُ . فَإِنَّ الْكَشْفَ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ رُسُومِ صَاحِبِهِ . فَلَيْسَ مَعَهُ اسْتِغْرَاقٌ فِي الْفَنَاءِ . وَالْوُجُودُ لَا يَكُونُ مَعَهُ رَسْمٌ بَاقٍ . وَلِذَلِكَ قَالَ : لَا وُجُودًا مَحْضًا ، فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمَحْضَ عِنْدَهُ : يُفْنِي الرُّسُومَ . وَبِكُلِّ حَالٍ : فَهُوَ يُفْنِيهَا مِنْ وُجُودِ الْوَاجِدِ ، لَا يُفْنِيهَا فِي الْخَارِجِ .
[ ص: 134 ] وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ يَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ آخَرُ ، غَيْرُ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ . وَيَصِيرُ لَهُ نَشْأَةٌ أُخْرَى لِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ ، نِسْبَةُ النَّشْأَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ النَّشْأَةِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ إِلَى هَذِهِ النَّشْأَةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَالَمِ ، وَكَنِسْبَةِ هَذِهِ النَّشْأَةِ إِلَى النَّشْأَةِ الْأُخْرَى .
فَلِلْعَبْدِ أَرْبَعُ نَشْآتٍ : نَشْأَةٌ فِي الرَّحِمِ ، حَيْثُ لَا بَصَرَ يُدْرِكُهُ . وَلَا يَدَ تَنَالُهُ . وَنَشْأَةٌ فِي الدُّنْيَا . وَنَشْأَةٌ فِي الْبَرْزَخِ . وَنَشْأَةٌ فِي الْمَعَادِ الثَّانِي . وَكُلُّ نَشْأَةٍ أَعْظَمُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا . وَهَذِهِ النَّشْأَةُ لِلرُّوحِ وَالْقَلْبِ أَصْلًا ، وَلِلْبَدَنِ تَبَعًا .
فَلِلرُّوحِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَشْأَتَانِ . إِحْدَاهُمَا : النَّشْأَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ . وَالثَّانِيَةُ : نَشْأَةٌ قَلْبِيَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ ، يُولَدُ بِهَا قَلْبُهُ ، وَيَنْفَصِلُ عَنْ مَشِيمَةِ طَبْعِهِ ، كَمَا وُلِدَ بَدَنُهُ وَانْفَصَلَ عَنْ مَشِيمَةِ الْبَطْنِ .
وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَذَا فَلْيَضْرِبْ عَنْ هَذَا صَفْحًا ، وَلْيَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ .
وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ
nindex.php?page=showalam&ids=12251لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَنَّ
الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ
لِلْحَوَارِيِّينَ : إِنَّكُمْ لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى تُولَدُوا مَرَّتَيْنِ .
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ
ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : هِيَ وِلَادَةُ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ مِنَ الْأَبْدَانِ ، وَخُرُوجُهَا مِنْ عَالِمِ الطَّبِيعَةِ ، كَمَا وُلِدَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْبَدَنِ وَخَرَجَتْ مِنْهُ . وَالْوِلَادَةُ الْأُخْرَى : هِيَ الْوِلَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : وَهُوَ فَوْقَ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ .
يَعْنِي : أَنَّ هَذَا الْكَشْفَ الَّذِي تَلَاشَتْ فِيهِ الرُّسُومُ : فَوْقَ مَنْزِلَتَيِ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ ، فَإِنَّهُ أَثْبَتُ وَأَدْوَمُ ، وَالْوُجُودُ فَوْقَهُ . لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالدَّوَامِ .
قَوْلُهُ : وَهُوَ يُشَارِفُ مَقَامَ الْجَمْعِ لَوْ دَامَ .
أَيْ لَوْ دَامَ هَذَا الْوَقْتُ لَشَارَفَ مَقَامَ الْجَمْعِ وَهُوَ ذَهَابُ شُعُورِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، شُغْلًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ . فَهُوَ جَمْعٌ فِي الشُّهُودِ .
وَعِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ : هُوَ جَمْعٌ فِي الْوُجُودِ .
وَمَقْصُودُهُ : أَنَّهُ لَوْ دَاوَمَ الْوَقْتُ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ : لَشَارَفَ حَضْرَةَ الْجَمْعِ . لَكِنَّهُ لَا يَدُومُ .
[ ص: 135 ] قَوْلُهُ : وَلَا يَبْلُغُ وَادِيَ الْوُجُودِ يَعْنِي : أَنَّ الْوَقْتَ الْمَذْكُورَ لَا يَبْلُغُ السَّالِكُ فِيهِ وَادِيَ الْوُجُودِ حَتَّى يَقْطَعَهُ . وَوَادِي الْوُجُودِ : هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ .
قَوْلُهُ : لَكِنَّهُ يَلْقَى مُؤْنَةَ الْمُعَامَلَةِ .
يَعْنِي : أَنَّ الْوَقْتَ الْمَذْكُورَ - وَهُوَ الْكَشْفُ الْمُشَارِفُ لِحَضْرَةِ الْجَمْعِ - يُخَفِّفُ عَنِ الْعَامِلِ أَثْقَالَ الْمُعَامَلَةِ ، مَعَ قِيَامِهِ بِهَا أَتَمَّ الْقِيَامِ ، بِحَيْثُ تَصِيرُ هِيَ الْحَامِلَةَ لَهُ . فَإِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ عَلَى الْخَبَرِ . فَصَارَ يَعْمَلُ عَلَى الْعِيَانِ . هَذَا مُرَادُ الشَّيْخِ .
وَعِنْدَ الْمُلْحِدِ : أَنَّهُ يَفْنَى عَنِ الْمُعَامَلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ ، وَيُرَدُّ صَاحِبُهُ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ الْقَلْبِيَّةِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ إِشْبَاعُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
قَوْلُهُ " وَيُصَفِّي عَنِ الْمُسَامَرَةِ "
nindex.php?page=treesubj&link=29554الْمُسَامَرَةُ : عِنْدَ الْقَوْمِ هِيَ الْخِطَابُ الْقَلْبِيُّ الرُّوحِيُّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ : أَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِالْمُنَاجَاةِ أَوْلَى . فَهَذَا الْكَشْفُ يَخْلُصُ عَنِ الْمُسَامَرَةِ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاتِهِ .
قَوْلُهُ : وَيَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ أَيْ صَاحِبُ مَقَامِ هَذَا الْوَقْتِ الْخَاصِّ : يَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ . وَهُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ . فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالْجَمْعِ وَالْوُجُودِ . وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ : ظُهُورَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ . وَفَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَاهُ .
وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ فَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَاهُ بِأَحَدِ اعْتَبَارَيْنِ : إِمَّا فَنَاؤُهُ مِنْ شُهُودِ الْعَبْدِ فَلَا يَشْهَدُهُ ، وَإِمَّا اضْمِحْلَالُهُ وَتَلَاشِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ الرَّبِّ . وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ . فَهُوَ إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ . وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .