فصل
قال : "
nindex.php?page=treesubj&link=29445الدرجة الثانية : معرفة الذات ، مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات ، وهي تثبت بعلم الجمع ، وتصفو في ميدان الفناء ، وتستكمل بعلم البقاء ، وتشارف عين الجمع " .
نشرح كلامه ومراده أولا ، ثم نبين ما له وعليه فيه .
فكانت هذه الدرجة عنده أرفع مما قبلها ؛ لأن التي قبلها نظر في الصفات ، وهذه متعلقة بالذات بالجامعة للصفات ، وإن كانت الذات لا تخلو عن الصفات ، فهي قائمة بها ، ولا نقول : إن صفاتها عينها ولا غيرها ، لما في لفظ الغير من الإجمال والاشتباه ، فإن الغيرين قد يراد بهما ما جاز افتراقهما ذاتا أو زمانا ، أو مكانا ، وعلى هذا : فليست الصفات مغايرة للذات ، وقد يراد بالغيرين : ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر ، فيفترقان في الوجود الذهني ، لا في الوجود الخارجي ، فالصفات غير الذات بهذا الاعتبار ؛ لأنه قد يقع الشعور بالذات حال ما يغفل عن صفاتها ، فتتجرد عن صفاتها في شعور العبد ، لا في نفس الأمر .
[ ص: 337 ] وقوله " مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات "
nindex.php?page=treesubj&link=29445التفريق بين الصفات والذات في الوجود مستحيل ، وهو ممكن في الشهود بأن يشهد الصفة ويذهل عن شهود الموصوف ، أو يشهد الموصوف ويذهل عن شهود الصفة ، فتجريد الذات أو الصفات إنما يمكن في الذهن ، فالمعرفة في هذه الدرجة تعلقت بالذات والصفات جميعا ، فلم يفرق العلم والشهود بينهما ، ولا ريب أن ذلك أكمل من شهود مجرد الصفة ، أو مجرد الذات .
ولا يريد الشيخ أنك تسقط التفريق بين الذات والصفات في الخارج والعلم .
بحيث تكون الصفات هي نفس الذات ، فهذا لا يقوله الشيخ ، وإن كان كثير من أرباب الكلام يقولون : إن الصفات هي الذات ، فليس مرادهم أن الذات نفسها صفة ، فهذا لا يقوله عاقل ، وإنما مرادهم أن صفاتها ليست شيئا غيرها .
فإن أراد هؤلاء أن مفهوم الصفة هو مفهوم الذات : فهذا مكابرة ، وإن أرادوا أنه ليس هاهنا أشياء غير الذات انضمت إليها وقامت بها فهذا حق .
والتحقيق : أن
nindex.php?page=treesubj&link=29445_29477صفات الرب - جل جلاله - داخلة في مسمى اسمه ، فليس اسمه الله ، والرب ، والإله أسماء لذات مجردة ، لا صفة لها البتة ، فإن هذه الذات المجردة وجودها مستحيل ، وإنما يفرضها الذهن فرض الممتنعات ، ثم يحكم عليها ، واسم " الله " سبحانه ، " والرب ، والإله " - اسم لذات لها جميع صفات الكمال ونعوت الجلال ، كالعلم ، والقدرة ، والحياة ، والإرادة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ، والبقاء ، والقدم ، وسائر الكمال الذي يستحقه الله لذاته ، فصفاته داخلة في مسمى اسمه ، فتجريد الصفات عن الذات ، والذات عن الصفات فرض وخيال ذهني لا حقيقة له ، وهو أمر اعتباري لا فائدة فيه ، ولا يترتب عليه معرفة ، ولا إيمان ، ولا هو علم في نفسه ، وبهذا أجاب السلف
الجهمية لما استدلوا على
nindex.php?page=treesubj&link=29455_29453خلق القرآن ، بقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16الله خالق كل شيء قالوا : والقرآن شيء .
فأجابهم السلف بأن القرآن كلامه ، وكلامه من صفاته ، وصفاته داخلة في مسمى اسمه - كعلمه وقدرته وحياته ، وسمعه وبصره ، ووجهه ويديه - فليس الله اسما لذات لا نعت لها ، ولا صفة ، ولا فعل ، ولا وجه ، ولا يدين ، ذلك إله معدوم مفروض في الأذهان ، لا وجود له في الأعيان ، كإله
الجهمية ، الذي فرضوه غير خارج عن العالم ولا داخل فيه ، ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا محايث له ولا مباين ، وكإله
الفلاسفة [ ص: 338 ] الذي فرضوه وجودا مطلقا لا يتخصص بصفة ولا نعت ، ولا له مشيئة ولا قدرة ، ولا إرادة ولا كلام ، وكإله الاتحادية الذي فرضوه وجودا ساريا في الموجودات ظاهرا فيها ، هو عين وجودها ، وكإله
النصارى الذي فرضوه قد اتخذ صاحبة وولدا ، وتدرع بناسوت ولده ، واتخذ منه حجابا ، فكل هذه الآلهة مما عملته أيدي أفكارها ، وإله العالمين الحق : هو الذي دعت إليه الرسل وعرفوه بأسمائه وصفاته وأفعاله فوق سماواته على عرشه ، بائن من خلقه ، موصوف بكل كمال ، منزه عن كل نقص ، لا مثال له ، ولا شريك ، ولا ظهير ، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ،
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=3هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم غني بذاته عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه بذاته .
قوله " وهي تثبت بعلم الجمع ، وتصفو في ميدان الفناء " يعني : أن هذه المعرفة الخاصة تثبت بعلم الجمع ، ولم يقل بحال الجمع ، ولا بعينه ، ولا مقامه فإن علمه أولا : هو سبب ثبوتها ، فإن هذه المعرفة لا تنال إلا بالعلم ، فهو شرط فيها ، وسيأتي الكلام - إن شاء الله تعالى - في الجمع عن قريب .
فإذا علم العبد انفراد الرب سبحانه بالأزل والبقاء والفعل ، وعجز من سواه عن القدرة على إيجاد ذرة أو جزء من ذرة ، وأنه لا وجود له من نفسه ، فوجوده ليس له ، ولا به ولا منه ، وتوالى هذا العلم عن القلب يسقط ذكر غيره سبحانه عن البال والذكر ، كما سقط غناه وربوبيته وملكه وقدرته ، فصار الرب سبحانه وحده هو المعبود والمشهود والمذكور ، كما كان وحده هو الخالق المالك ، الغني الموجود بنفسه أزلا وأبدا ، وأما ما سواه فوجوده - وتوابع وجوده - عارية ليست له ، وكلما فني العبد عن ذكر غيره وشهوده صفت هذه المعرفة في قلبه ، فلهذا قال : " وتصفو في ميدان الفناء " استعار الشيخ للفناء ميدانا وأضافه إليه لاتساع مجاله ؛ لأن صاحبه قد انقطع التفاته إلى ضيق الأغيار ، وانجذبت روحه وقلبه إلى الواحد القهار ، فهي تجول في ميدان أوسع من السماوات والأرض ، بعد أن كانت مسجونة في سجون المخلوقات ، فإذا استمر له عكوف قلبه على الحق سبحانه ، ونظر قلبه إليه كأنه يراه ، ورؤية تفرده بالخلق والأمر ، والنفع والضر ، والعطاء والمنع - كملت وتمت في هذه الدرجة معرفته ، واستكملت بهذا البقاء الذي أوصله إليه الفناء ، وشارفت عين الجمع بعد علمه ، فغاب العارف عن معرفته بمعروفه ، وعن ذكره بمذكوره ، وعن محبته وإرادته بمراده ومحبوبه ، فلذلك قال :
[ ص: 339 ] " وتستكمل بعلم البقاء ، وتشارف عين الجمع " .
ولهذه
nindex.php?page=treesubj&link=28724_29555المعرفة ثلاثة أركان ، أشار إليها الشيخ بقوله : إرسال الصفات على الشواهد ، وإرسال الوسائط على المدارج ، وإرسال العبارات على المعالم .
nindex.php?page=treesubj&link=28724_29555_29411شواهد الصفات هي التي تشهد بها ، وتدل عليها من الكتاب والسنة ، وشهادة العقل والفكرة وآثار الصنعة ، فإذا تمكن العبد في التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه ، لم يعرفها العبد من ذاته ، ولا بغير تعريف الحق له ، بما أجراه له سبحانه على قلبه من معرفة تلك الشواهد ، والانتقال منها إلى المشهود المدلول عليه ، فهو سبحانه الذي شهد لنفسه في الحقيقة ، إذ تلك الشواهد مصدرها منه ، فشهد لنفسه بنفسه ، بما قاله وفعله وجعله شاهدا لمعرفته ، فهو الأول والآخر ، والعبد آلة محضة ، ومنفعل ومحل لجريان الشواهد ، وآثارها وأحكامها عليه ، ليس له من الأمر شيء ، فهذا معنى إرسال الصفات على الشواهد فإذا أرسلها عليها تبين له أن الحكم للصفات دون الشواهد ، بل الشواهد هي آثار الصفات ، فهذا وجه .
ووجه ثان ، أيضا وهو : أن الشواهد بوارق وتجليات تبدو للشاهد ، فإذا أرسل الصفات على تلك الشواهد توارى حكم تلك البوارق والتجليات في الصفات ، وكان الحكم للصفات ، فحينئذ يترقى العبد إلى شهود الذات شهودا علميا عرفانيا كما تقدم .
قوله " وإرسال الوسائط على المدارج " " الوسائط " : هي الأسباب المتوسطة بين الرب والعبد التي بها تظهر المعرفة وتوابعها ، " والمدارج " : هي المنازل والمقامات التي يترقى العبد فيها إلى المقصود ، وقد تكون المدارج الطرق التي يسلكها إليه ويدرج فيها ، فإرسال الوسائط التي من الرب على المدارج التي هي منازل السير وطرقه توجب كون الحكم لها دون المدارج ، فيغيب عن شهود المدارج بالوسائط ، وقد غاب عن شهود الوسائط بالصفات ، فيترقى حينئذ إلى
nindex.php?page=treesubj&link=28724_29555_29411شهود الذات .
وحقيقة الأمر : أن يعلم أن الرب سبحانه ما أطلعه على معرفته إلا بشواهد منه سبحانه ، وبوسائط ليست من العبد ، فهو قادر على قبض تلك الشواهد والوسائط ، وعلى إجرائها على غيره ، فإن الأمر كله له ، وتلك الوسائط لا توجب بنفسها شيئا ، قال الله تعالى لرسوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=86ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=87إلا رحمة من ربك [ ص: 340 ] وقال للأمة على لسانه
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=46قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ويعلم العبد أن ما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله من شواهد معرفته ، والإيمان به : هي معالم يهتدي بها عباده إليه ، ويعرفون بها كماله وجلاله وعظمته ، فإذا تيقنوا صدقه ولم يشكوا فيه ، وتفطنوا لآثار أسمائه وصفاته في أنفسهم وفي سواهم ؛ انضم شاهد العقل والفطرة إلى شاهد الوحي والشرع ، فانتقلوا حينئذ من الخبر إلى العيان ، فالعبارات معالم على الحقائق المطلوبة ، والمعالم هي الأمارات التي يعلم بها المطلوب ، فإذا أوصل العارف كل معنى مما تقدم ذكره على مقصوده ، وصرف همته إلى مجريه وناصبه ومصدره ؛ اجتمع همه عليه ، وتمكن في معرفة الذات التي لها صفات الكمال ، ونعوت الجلال .
ومقصوده : أن يبين في هذه الأركان الثلاثة حال صاحب معرفة الذات ، وكيف تترتب الأشياء في نظره ، ويترقى فيها إلى المقصود ؟
مثال ذلك : أن الشواهد أرسلته إلى الصفات بإرسالها عليها ، فانتقل من مشاهدتها إلى مشاهدة الصفات ، والوسائط التي كان يراها آية على المدارج ، انتقل فانتقل منها إلى المدارج ولم يلقها ، وإنما تعلق بما هي آية له ، والعبارات التي كانت عنده ألفاظا خارجة عن المعبر عنه صارت أمارات توصله إلى الحقيقة المعبر عنها ، فبهذه الأركان الثلاثة يصير بها من أهل معرفة الذات عنده .
قوله " وهذه معرفة الخاصة التي تؤنس من أفق الحقيقة " أي تدرك وتحس من ناحية الحقيقة ، و " الإيناس " الإدراك والإحساس ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=6فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وقال
موسى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=10إني آنست نارا والمقصود : أن العارف إذا علق همه بأفق الحقيقة ، وأعرض عن الأسباب والوسائط - لا إعراض جحود وإنكار ، بل إعراض اشتغال ، ونظر إلى عين المقصود - أوصله ذلك إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
فَصْلٌ
قَالَ : "
nindex.php?page=treesubj&link=29445الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : مَعْرِفَةُ الذَّاتِ ، مَعَ إِسْقَاطِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ ، وَهِيَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ ، وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ ، وَتُسْتَكْمَلُ بِعِلْمِ الْبَقَاءِ ، وَتُشَارِفُ عَيْنَ الْجَمْعِ " .
نَشْرَحُ كَلَامَهُ وَمُرَادَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ فِيهِ .
فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ أَرْفَعَ مِمَّا قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا نَظَرٌ فِي الصِّفَاتِ ، وَهَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذَّاتِ بِالْجَامِعَةِ لِلصِّفَاتِ ، وَإِنْ كَانَتِ الذَّاتُ لَا تَخْلُو عَنِ الصِّفَاتِ ، فَهِيَ قَائِمَةٌ بِهَا ، وَلَا نَقُولُ : إِنَّ صِفَاتِهَا عَيْنُهَا وَلَا غَيْرُهَا ، لِمَا فِي لَفْظِ الْغَيْرِ مِنَ الْإِجْمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ ، فَإِنَّ الْغَيْرَيْنِ قَدْ يُرَادُ بِهِمَا مَا جَازَ افْتِرَاقُهُمَا ذَاتًا أَوْ زَمَانًا ، أَوْ مَكَانًا ، وَعَلَى هَذَا : فَلَيْسَتِ الصِّفَاتُ مُغَايِرَةً لِلذَّاتِ ، وَقَدْ يُرَادُ بِالْغَيْرَيْنِ : مَا جَازَ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَيَفْتَرِقَانِ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ ، لَا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ ، فَالصِّفَاتُ غَيْرُ الذَّاتِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الشُّعُورُ بِالذَّاتِ حَالَ مَا يُغْفَلُ عَنْ صِفَاتِهَا ، فَتَتَجَرَّدُ عَنْ صِفَاتِهَا فِي شُعُورِ الْعَبْدِ ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
[ ص: 337 ] وَقَوْلُهُ " مَعَ إِسْقَاطِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ "
nindex.php?page=treesubj&link=29445التَّفْرِيقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ وَالذَّاتِ فِي الْوُجُودِ مُسْتَحِيلٌ ، وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الشُّهُودِ بِأَنْ يَشْهَدَ الصِّفَةَ وَيَذْهَلَ عَنْ شُهُودِ الْمَوْصُوفِ ، أَوْ يَشْهَدَ الْمَوْصُوفَ وَيَذْهَلَ عَنْ شُهُودِ الصِّفَةِ ، فَتَجْرِيدُ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ إِنَّمَا يُمْكِنُ فِي الذِّهْنِ ، فَالْمَعْرِفَةُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ تَعَلَّقَتْ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ جَمِيعًا ، فَلَمْ يُفَرِّقِ الْعِلْمُ وَالشُّهُودُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ مِنْ شُهُودِ مُجَرَّدِ الصِّفَةِ ، أَوْ مُجَرَّدِ الذَّاتِ .
وَلَا يُرِيدُ الشَّيْخُ أَنَّكَ تُسْقِطُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ فِي الْخَارِجِ وَالْعِلْمِ .
بِحَيْثُ تَكُونُ الصِّفَاتُ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ الشَّيْخُ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ : إِنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الذَّاتُ ، فَلَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّ الذَّاتَ نَفْسَهَا صِفَةٌ ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّ صِفَاتِهَا لَيْسَتْ شَيْئًا غَيْرَهَا .
فَإِنْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ هُوَ مَفْهُومُ الذَّاتِ : فَهَذَا مُكَابَرَةٌ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا أَشْيَاءُ غَيْرُ الذَّاتِ انْضَمَّتْ إِلَيْهَا وَقَامَتْ بِهَا فَهَذَا حَقٌّ .
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29445_29477صِفَاتِ الرَّبِّ - جَلَّ جَلَالُهُ - دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ ، فَلَيْسَ اسْمُهُ اللَّهُ ، وَالرَّبُّ ، وَالْإِلَهُ أَسْمَاءً لِذَاتٍ مُجَرَّدَةٍ ، لَا صِفَةً لَهَا الْبَتَّةَ ، فَإِنَّ هَذِهِ الذَّاتَ الْمُجَرَّدَةِ وُجُودُهَا مُسْتَحِيلٌ ، وَإِنَّمَا يَفْرِضُهَا الذِّهْنُ فَرْضَ الْمُمْتَنِعَاتِ ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهَا ، وَاسْمُ " اللَّهِ " سُبْحَانَهُ ، " وَالرَّبِّ ، وَالْإِلَهِ " - اسْمٌ لِذَاتٍ لَهَا جَمِيعُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنُعُوتِ الْجَلَالِ ، كَالْعِلْمِ ، وَالْقُدْرَةِ ، وَالْحَيَاةِ ، وَالْإِرَادَةِ ، وَالْكَلَامِ ، وَالسَّمْعِ ، وَالْبَصَرِ ، وَالْبَقَاءِ ، وَالْقِدَمِ ، وَسَائِرِ الْكَمَالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ لِذَاتِهِ ، فَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ ، فَتَجْرِيدُ الصِّفَاتِ عَنِ الذَّاتِ ، وَالذَّاتِ عَنِ الصِّفَاتِ فَرْضٌ وَخَيَالٌ ذِهْنِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، وَهُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةٌ ، وَلَا إِيمَانٌ ، وَلَا هُوَ عِلْمٌ فِي نَفْسِهِ ، وَبِهَذَا أَجَابَ السَّلَفُ
الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا اسْتَدَلُّوا عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=29455_29453خَلْقِ الْقُرْآنِ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قَالُوا : وَالْقُرْآنُ شَيْءٌ .
فَأَجَابَهُمُ السَّلَفُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ ، وَكَلَامُهُ مِنْ صِفَاتِهِ ، وَصِفَاتُهُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى اسْمِهِ - كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحَيَاتِهِ ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ ، وَوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ - فَلَيْسَ اللَّهُ اسْمًا لِذَاتٍ لَا نَعْتَ لَهَا ، وَلَا صِفَةَ ، وَلَا فِعْلَ ، وَلَا وَجْهَ ، وَلَا يَدَيْنِ ، ذَلِكَ إِلَهٌ مَعْدُومٌ مَفْرُوضٌ فِي الْأَذْهَانِ ، لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْأَعِيَانِ ، كَإِلَهِ
الْجَهْمِيَّةِ ، الَّذِي فَرَضُوهُ غَيْرِ خَارِجٍ عَنِ الْعَالَمِ وَلَا دَاخِلٍ فِيهِ ، وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ وَلَا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ ، وَلَا مُحَايِثٍ لَهُ وَلَا مُبَايِنٍ ، وَكَإِلَهِ
الْفَلَاسِفَةِ [ ص: 338 ] الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لَا يَتَخَصَّصُ بِصِفَةٍ وَلَا نَعْتٍ ، وَلَا لَهُ مَشِيئَةٌ وَلَا قُدْرَةٌ ، وَلَا إِرَادَةٌ وَلَا كَلَامٌ ، وَكَإِلَهِ الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا سَارِيًا فِي الْمَوْجُودَاتِ ظَاهِرًا فِيهَا ، هُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا ، وَكَإِلَهِ
النَّصَارَى الَّذِي فَرَضُوهُ قَدِ اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَوَلَدًا ، وَتَدَرَّعَ بِنَاسُوتِ وَلَدِهِ ، وَاتَّخَذَ مِنْهُ حِجَابًا ، فَكُلُّ هَذِهِ الْآلِهَةِ مِمَّا عَمِلَتْهُ أَيْدِي أَفْكَارِهَا ، وَإِلَهُ الْعَالَمِينَ الْحَقُّ : هُوَ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ وَعَرَّفُوهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ ، مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ ، لَا مِثَالَ لَهُ ، وَلَا شَرِيكَ ، وَلَا ظَهِيرَ ، وَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=3هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ غَنِيٌ بِذَاتِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِذَاتِهِ .
قَوْلُهُ " وَهِيَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ ، وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ " يَعْنِي : أَنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الْخَاصَّةَ تَثْبُتُ بِعِلْمِ الْجَمْعِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِحَالِ الْجَمْعِ ، وَلَا بِعَيْنِهِ ، وَلَا مَقَامِهِ فَإِنَّ عِلْمَهُ أَوَّلًا : هُوَ سَبَبُ ثُبُوتِهَا ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْعِلْمِ ، فَهُوَ شَرْطٌ فِيهَا ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْجَمْعِ عَنْ قَرِيبٍ .
فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ انْفِرَادَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْأَزَلِ وَالْبَقَاءِ وَالْفِعْلِ ، وَعَجَزَ مَنْ سِوَاهُ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِيجَادِ ذَرَّةٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ ذَرَّةٍ ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، فَوُجُودُهُ لَيْسَ لَهُ ، وَلَا بِهِ وَلَا مِنْهُ ، وَتَوَالِى هَذَا الْعِلْمِ عَنِ الْقَلْبِ يُسْقِطُ ذِكْرَ غَيْرِهِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْبَالِ وَالذِّكْرِ ، كَمَا سَقَطَ غِنَاهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَمُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ ، فَصَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودَ وَالْمَشْهُودَ وَالْمَذْكُورَ ، كَمَا كَانَ وَحْدَهُ هُوَ الْخَالِقَ الْمَالِكَ ، الْغَنِيَّ الْمَوْجُودَ بِنَفْسِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا ، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ فَوُجُودُهُ - وَتَوَابِعُ وَجُودِهِ - عَارِيَةٌ لَيْسَتْ لَهُ ، وَكُلَّمَا فَنِيَ الْعَبْدُ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ وَشُهُودِهِ صَفَتْ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ فِي قَلْبِهِ ، فَلِهَذَا قَالَ : " وَتَصْفُو فِي مَيْدَانِ الْفَنَاءِ " اسْتَعَارَ الشَّيْخُ لِلْفَنَاءِ مَيْدَانًا وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لِاتِّسَاعِ مَجَالِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدِ انْقَطَعَ الْتِفَاتُهُ إِلَى ضِيقِ الْأَغْيَارِ ، وَانْجَذَبَتْ رُوحُهُ وَقَلْبُهُ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، فَهِيَ تَجُولُ فِي مَيْدَانٍ أَوْسَعَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَسْجُونَةً فِي سُجُونِ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ لَهُ عُكُوفُ قَلَبِهِ عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ ، وَنَظَرُ قَلْبِهِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ ، وَرُؤْيَةُ تَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ - كَمُلَتْ وَتَمَّتْ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَعْرِفَتُهُ ، وَاسْتُكْمِلَتْ بِهَذَا الْبَقَاءِ الَّذِي أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ الْفَنَاءُ ، وَشَارَفَتْ عَيْنُ الْجَمْعِ بَعْدَ عِلْمِهِ ، فَغَابَ الْعَارِفُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمَعْرُوفِهِ ، وَعَنْ ذِكْرِهِ بِمَذْكُورِهِ ، وَعَنْ مَحَبَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ بِمُرَادِهِ وَمَحْبُوبِهِ ، فَلِذَلِكَ قَالَ :
[ ص: 339 ] " وَتُسْتَكْمَلُ بِعِلْمِ الْبَقَاءِ ، وَتُشَارِفُ عَيْنَ الْجَمْعِ " .
وَلِهَذِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=28724_29555الْمَعْرِفَةِ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ ، أَشَارَ إِلَيْهَا الشَّيْخُ بِقَوْلِهِ : إِرْسَالُ الصِّفَاتِ عَلَى الشَّوَاهِدِ ، وَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ عَلَى الْمَدَارِجِ ، وَإِرْسَالُ الْعِبَارَاتِ عَلَى الْمَعَالِمِ .
nindex.php?page=treesubj&link=28724_29555_29411شَوَاهِدُ الصِّفَاتِ هِيَ الَّتِي تَشْهَدُ بِهَا ، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَشَهَادَةِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرَةِ وَآثَارِ الصَّنْعَةِ ، فَإِذَا تَمَكَّنَ الْعَبْدُ فِي التَّوْحِيدِ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ صِفَاتِ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ، لَمْ يَعْرِفْهَا الْعَبْدُ مِنْ ذَاتِهِ ، وَلَا بِغَيْرِ تَعْرِيفِ الْحَقِّ لَهُ ، بِمَا أَجْرَاهُ لَهُ سُبْحَانَهُ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ ، وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى الْمَشْهُودِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي شَهِدَ لِنَفْسِهِ فِي الْحَقِيقَةِ ، إِذْ تِلْكَ الشَّوَاهِدُ مَصْدَرُهُا مِنْهُ ، فَشَهِدَ لِنَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ، بِمَا قَالَهُ وَفَعَلَهُ وَجَعَلَهُ شَاهِدًا لِمَعْرِفَتِهِ ، فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ، وَالْعَبْدُ آلَةٌ مَحْضَةٌ ، وَمُنْفَعَلٌ وَمُحَلٌّ لِجَرَيَانِ الشَّوَاهِدِ ، وَآثَارِهَا وَأَحْكَامِهَا عَلَيْهِ ، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ، فَهَذَا مَعْنَى إِرْسَالِ الصِّفَاتِ عَلَى الشَّوَاهِدِ فَإِذَا أَرْسَلَهَا عَلَيْهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحُكْمَ لِلصِّفَاتِ دُونَ الشَّوَاهِدِ ، بَلِ الشَّوَاهِدُ هِيَ آثَارُ الصِّفَاتِ ، فَهَذَا وَجْهٌ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، أَيْضًا وَهُوَ : أَنَّ الشَّوَاهِدَ بَوَارِقٌ وَتَجَلِّيَاتٌ تَبْدُو لِلشَّاهِدِ ، فَإِذَا أَرْسَلَ الصِّفَاتِ عَلَى تِلْكَ الشَّوَاهِدِ تَوَارَى حُكْمُ تِلْكَ الْبَوَارِقِ وَالتَّجَلِّيَّاتِ فِي الصِّفَاتِ ، وَكَانَ الْحُكْمُ لِلصِّفَاتِ ، فَحِينَئِذٍ يَتَرَقَّى الْعَبْدُ إِلَى شُهُودِ الذَّاتِ شُهُودًا عِلْمِيًا عِرْفَانِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ .
قَوْلُهُ " وَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ عَلَى الْمَدَارِجِ " " الْوَسَائِطُ " : هِيَ الْأَسْبَابُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ الَّتِي بِهَا تَظْهَرُ الْمَعْرِفَةُ وَتَوَابِعُهَا ، " وَالْمَدَارِجُ " : هِيَ الْمَنَازِلُ وَالْمَقَامَاتُ الَّتِي يَتَرَقَّى الْعَبْدُ فِيهَا إِلَى الْمَقْصُودِ ، وَقَدْ تَكُونُ الْمَدَارِجُ الطُّرُقَ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَيْهِ وَيُدْرَجُ فِيهَا ، فَإِرْسَالُ الْوَسَائِطِ الَّتِي مِنَ الرَّبِّ عَلَى الْمَدَارِجِ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ السَّيْرِ وَطُرُقُهُ تُوجِبُ كَوْنَ الحُكْمِ لَهَا دُونَ الْمَدَارِجِ ، فَيَغِيبُ عَنْ شُهُودِ الْمَدَارِجِ بِالْوَسَائِطِ ، وَقَدْ غَابَ عَنْ شُهُودِ الْوَسَائِطِ بِالصِّفَاتِ ، فَيَتَرَقَّى حِينَئِذٍ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28724_29555_29411شُهُودِ الذَّاتِ .
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ مَا أَطْلَعَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ إِلَّا بِشَوَاهِدَ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ، وَبِوَسَائِطَ لَيْسَتْ مِنَ الْعَبْدِ ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى قَبْضِ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ وَالْوَسَائِطِ ، وَعَلَى إِجْرَائِهَا عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لَهُ ، وَتِلْكَ الْوَسَائِطُ لَا تُوجِبُ بِنَفْسِهَا شَيْئًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=86وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=87إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ ص: 340 ] وَقَالَ لِلْأُمَّةِ عَلَى لِسَانِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=46قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=16قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ وَيَعْلَمُ الْعَبْدُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مِنْ شَوَاهِدِ مَعْرِفَتِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِهِ : هِيَ مَعَالِمُ يَهْتَدِي بِهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ ، وَيَعْرِفُونَ بِهَا كَمَالَهُ وَجَلَالَهُ وَعَظَمَتَهُ ، فَإِذَا تَيَقَّنُوا صِدْقَهُ وَلَمْ يَشُكُّوا فِيهِ ، وَتَفَطَّنُوا لِآثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي سِوَاهُمُ ؛ انْضَمَّ شَاهِدُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ إِلَى شَاهِدِ الْوَحْيِ وَالشَّرْعِ ، فَانْتَقَلُوا حِينَئِذٍ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الْعِيَانِ ، فَالْعِبَارَاتُ مَعَالِمُ عَلَى الْحَقَائِقِ الْمَطْلُوبَةِ ، وَالْمَعَالِمُ هِيَ الْأَمَارَاتُ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا الْمَطْلُوبُ ، فَإِذَا أَوْصَلَ الْعَارِفُ كُلَّ مَعْنًى مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى مَقْصُودِهِ ، وَصَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَى مُجْرِيهِ وَنَاصِبِهِ وَمَصْدَرِهِ ؛ اجْتَمَعَ هَمُّهُ عَلَيْهِ ، وَتَمَكَّنَ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الَّتِي لَهَا صِفَاتُ الْكَمَالِ ، وَنُعُوتُ الْجَلَالِ .
وَمَقْصُودُهُ : أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ حَالَ صَاحِبِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ ، وَكَيْفَ تَتَرَتَّبُ الْأَشْيَاءُ فِي نَظَرِهِ ، وَيَتَرَقَّى فِيهَا إِلَى الْمَقْصُودِ ؟
مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ الشَّوَاهِدَ أَرْسَلَتْهُ إِلَى الصِّفَاتِ بِإِرْسَالِهَا عَلَيْهَا ، فَانْتَقَلَ مِنْ مُشَاهَدَتِهَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ ، وَالْوَسَائِطُ الَّتِي كَانَ يَرَاهَا آيَةً عَلَى الْمَدَارِجِ ، انْتَقَلَ فَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى الْمَدَارِجِ وَلَمْ يَلْقَهَا ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا هِيَ آيَةٌ لَهُ ، وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ أَلْفَاظًا خَارِجَةً عَنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ صَارَتْ أَمَارَاتٍ تَوَصِّلُهُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْمُعَبِّرِ عَنْهَا ، فَبِهَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ يَصِيرُ بِهَا مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ عِنْدَهُ .
قَوْلُهُ " وَهَذِهِ مَعْرِفَةُ الْخَاصَّةِ الَّتِي تُؤْنَسُ مِنْ أُفُقِ الْحَقِيقَةِ " أَيْ تُدْرَكُ وَتُحَسُّ مِنْ نَاحِيَةِ الْحَقِيقَةِ ، وَ " الْإِينَاسُ " الْإِدْرَاكُ وَالْإِحْسَاسُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=6فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَقَالَ
مُوسَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=10إِنِّي آنَسْتُ نَارًا وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْعَارِفَ إِذَا عَلَّقَ هَمَّهُ بِأُفُقِ الْحَقِيقَةِ ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ - لَا إِعْرَاضَ جُحُودٍ وَإِنْكَارٍ ، بَلْ إِعْرَاضَ اشْتِغَالٍ ، وَنَظَرٍ إِلَى عَيْنِ الْمَقْصُودِ - أَوْصَلَهُ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ الْجَامِعَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .