[ ص: 142 ]
فصل : في منازل
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إياك نعبد التي ينتقل فيها القلب منزلة منزلة في حال سيره إلى الله
وقد أكثر الناس في صفة المنازل وعددها ، فمنهم من جعلها ألفا ، ومنهم من جعلها مائة ، ومنهم من زاد ونقص ، فكل وصفها بحسب سيره وسلوكه .
وسأذكر فيها أمرا مختصرا جامعا نافعا ، إن شاء الله تعالى .
فأول
nindex.php?page=treesubj&link=29411منازل العبودية اليقظة وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين ، ولله ما أنفع هذه الروعة ، وما أعظم قدرها وخطرها ، وما أشد إعانتها على السلوك ! فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح ، وإلا فهو في سكرات الغفلة فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى ، وأوطانه التي سبي منها .
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم
فأخذ في أهبة السفر ، فانتقل إلى منزلة العزم وهو العقد الجازم على المسير ،
[ ص: 143 ] ومفارقة كل قاطع ومعوق ، ومرافقة كل معين وموصل ، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه ، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده .
فإذا استيقظ أوجبت له اليقظة الفكرة وهي تحديق القلب نحو المطلوب الذي قد استعد له مجملا ، ولما يهتد إلى تفصيله وطريق الوصول إليه .
فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور في القلب يبصر به الوعد والوعيد ، والجنة والنار ، وما أعد الله في هذه لأوليائه ، وفي هذه لأعدائه ، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق ، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم ، وقد جاء الله ، وقد نصب كرسيه لفصل القضاء ، وقد نصب الميزان ، وتطايرت الصحف ، واجتمعت الخصوم ، وتعلق كل غريم بغريمه ، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب ، وكثر العطاش وقل الوارد ، ونصب الجسر للعبور ، ولز الناس إليه ، وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه ، والنار يحطم بعضها بعضا تحته ، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين .
فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ، ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها ، والدنيا وسرعة انقضائها .
[ ص: 142 ]
فَصْلٌ : فِي مَنَازِلِ
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=5إِيَّاكَ نَعْبُدُ الَّتِي يَنْتَقِلُ فِيهَا الْقَلْبُ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً فِي حَالِ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ
وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي صِفَةِ الْمَنَازِلِ وَعَدَدِهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَلْفًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مِائَةً ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ وَنَقَصَ ، فَكُلٌّ وَصَفَهَا بِحَسَبِ سَيْرِهِ وَسُلُوكِهِ .
وَسَأَذْكُرُ فِيهَا أَمْرًا مُخْتَصَرًا جَامِعًا نَافِعًا ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَوَّلُ
nindex.php?page=treesubj&link=29411مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ الْيَقَظَةُ وَهِيَ انْزِعَاجُ الْقَلْبِ لِرَوْعَةِ الِانْتِبَاهِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ ، وَلِلَّهِ مَا أَنْفَعَ هَذِهِ الرَّوْعَةَ ، وَمَا أَعْظَمَ قَدْرَهَا وَخَطَرَهَا ، وَمَا أَشَدَّ إِعَانَتَهَا عَلَى السُّلُوكِ ! فَمَنْ أَحَسَّ بِهَا فَقَدْ أَحَسَّ وَاللَّهِ بِالْفَلَاحِ ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي سَكَرَاتِ الْغَفْلَةِ فَإِذَا انْتَبَهَ شَمَّرَ لِلَّهِ بِهِمَّتِهِ إِلَى السَّفَرِ إِلَى مَنَازِلِهِ الْأُولَى ، وَأَوْطَانِهِ الَّتِي سُبِيَ مِنْهَا .
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى
نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ
فَأَخَذَ فِي أُهْبَةِ السَّفَرِ ، فَانْتَقَلَ إِلَى مَنْزِلَةِ الْعَزْمِ وَهُوَ الْعِقْدُ الْجَازِمُ عَلَى الْمَسِيرِ ،
[ ص: 143 ] وَمُفَارَقَةُ كُلِّ قَاطِعٍ وَمُعَوِّقٍ ، وَمُرَافَقَةُ كُلِّ مُعِينٍ وَمُوَصِّلٍ ، وَبِحَسَبِ كَمَالِ انْتِبَاهِهِ وَيَقَظَتِهِ يَكُونُ عَزْمُهُ ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ عَزْمِهِ يَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ .
فَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَوْجَبَتْ لَهُ الْيَقَظَةُ الْفِكْرَةَ وَهِيَ تَحْدِيقُ الْقَلْبِ نَحْوَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي قَدِ اسْتَعَدَّ لَهُ مُجْمَلًا ، وَلَمَّا يَهْتَدِ إِلَى تَفْصِيلِهِ وَطَرِيقِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ .
فَإِذَا صَحَّتْ فِكْرَتُهُ أَوْجَبَتْ لَهُ الْبَصِيرَةَ فَهِيَ نُورٌ فِي الْقَلْبِ يُبْصِرُ بِهِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ ، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي هَذِهِ لِأَوْلِيَائِهِ ، وَفِي هَذِهِ لِأَعْدَائِهِ ، فَأَبْصَرَ النَّاسَ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ لِدَعْوَةِ الْحَقِّ ، وَقَدْ نَزَلَتْ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ فَأَحَاطَتْ بِهِمْ ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ ، وَقَدْ نُصِبَ كُرْسِيُّهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ نُصِبَ الْمِيزَانُ ، وَتَطَايَرَتِ الصُّحُفُ ، وَاجْتَمَعَتِ الْخُصُومُ ، وَتَعَلَّقَ كُلُّ غَرِيمٍ بِغَرِيمِهِ ، وَلَاحَ الْحَوْضُ وَأَكْوَابُهُ عَنْ كَثَبٍ ، وَكَثُرَ الْعِطَاشُ وَقَلَّ الْوَارِدِ ، وَنُصِبَ الْجِسْرُ لِلْعُبُورِ ، وَلُزَّ النَّاسُ إِلَيْهِ ، وَقُسِّمَتِ الْأَنْوَارُ دُونَ ظُلْمَتِهِ لِلْعُبُورِ عَلَيْهِ ، وَالنَّارُ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَحْتَهُ ، وَالْمُتَسَاقِطُونَ فِيهَا أَضْعَافُ أَضْعَافِ النَّاجِينَ .
فَيَنْفَتِحُ فِي قَلْبِهِ عَيْنٌ يَرَى بِهَا ذَلِكَ ، وَيَقُومُ بِقَلْبِهِ شَاهِدٌ مِنْ شَوَاهِدِ الْآخِرَةِ يُرِيهِ الْآخِرَةَ وَدَوَامَهَا ، وَالدُّنْيَا وَسُرْعَةَ انْقِضَائِهَا .