الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ومن هذا قوله تعالى : ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب فاستشهد على رسالته بشهادة الله له ، ولابد [ ص: 436 ] أن تعلم هذه الشهادة ، وتقوم بها الحجة على المكذبين له ، وكذلك قوله قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وكذلك قوله : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وكذلك قوله : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين وقوله : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين وقوله : والله يعلم إنك لرسوله وقوله : محمد رسول الله فهذا كله شهادة منه لرسوله ، قد أظهرها وبينها ، وبين صحتها غاية البيان ، بحيث قطع العذر بينه وبين عباده ، وأقام الحجة عليهم ، فكونه سبحانه شاهدا لرسوله : معلوم بسائر أنواع الأدلة : عقليها ونقليها وفطريها وضروريها ونظريها .

ومن نظر في ذلك وتأمله ؛ علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة ، وأعدلها وأظهرها ، وصدقه بسائر أنواع التصديق : بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه ، وبفعله وإقراره ، وبما فطر عليه عباده : من الإقرار بكماله ، وتنزيهه عن القبائح ، وعما لا يليق به ، وفي كل وقت يحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة ، ويزيل به العذر ، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة والظفر والتأييد ، ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به : من الخزي والنكال والعقوبات المعجلة ، الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا فيظهره ظهورين : ظهورا بالحجة ، والبيان ، والدلالة ، وظهورا بالنصر والظفر والغلبة ، والتأييد ، حتى يظهره على مخالفيه ، ويكون منصورا .

وقوله لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعمله غيره : من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله ، كما قال في الآية الأخرى أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون [ ص: 437 ] وليس المراد مجرد الإخبار بأنه أنزله - وهو معلوم له ، كما يعلم سائر الأشياء ، فإن كل شيء معلوم له من حق وباطل - وإنما المعنى : أنزله مشتملا على علمه ، فنزوله مشتملا على علمه هو آية كونه من عنده ، وأنه حق وصدق ، ونظير هذا قوله : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض ذكر ذلك سبحانه تكذيبا وردا على من قال : افتراه .

التالي السابق


الخدمات العلمية