فصل
اشتمال الفاتحة على أنواع التوحيد
في
nindex.php?page=treesubj&link=28972_28892اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم .
التوحيد نوعان : نوع في العلم والاعتقاد ، ونوع في الإرادة والقصد ، ويسمى الأول : التوحيد العلمي ، والثاني : التوحيد القصدي الإرادي ، لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة ، والثاني بالقصد والإرادة ، وهذا الثاني أيضا نوعان : توحيد في الربوبية ، وتوحيد في الإلهية ، فهذه ثلاثة أنواع .
فأما
nindex.php?page=treesubj&link=28653توحيد العلم : فمداره على إثبات صفات الكمال ، وعلى نفي التشبيه والمثال ،
[ ص: 49 ] والتنزيه عن العيوب والنقائص ، وقد دل على هذا شيئان : مجمل ، ومفصل .
أما المجمل : فإثبات الحمد له سبحانه ، وأما المفصل : فذكر صفة الإلهية والربوبية ، والرحمة والملك ، وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات .
فأما تضمن الحمد لذلك : فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ، ونعوت جلاله ، مع محبته والرضا عنه ، والخضوع له ، فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود ، ولا من أعرض عن محبته والخضوع له ، وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل ، وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها ، ولهذا كان الحمد كله لله حمدا لا يحصيه سواه ، لكمال صفاته وكثرتها ، ولأجل هذا لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه ، لما له من صفات الكمال ، ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه ، ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار ، وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها ، فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ، ولا تتكلم ولا تهدي ، ولا تنفع ولا تضر ، وهذه صفة إله
الجهمية ، التي عاب بها الأصنام ، نسبوها إليه ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، فقال تعالى حكاية عن خليله
إبراهيم عليه السلام في محاجته لأبيه
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=42ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فلو كان إله
إبراهيم بهذه الصفة والمثابة لقال له
آزر : وأنت إلهك بهذه المثابة ، فكيف تنكر علي ؟ لكن كان مع شركه أعرف بالله من
nindex.php?page=treesubj&link=28836الجهمية ، وكذلك كفار
قريش كانوا مع شركهم مقرين بصفات الصانع سبحانه وعلوه على خلقه ، وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=148واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين فلو كان إله الخلق سبحانه كذلك لم يكن في هذا إنكار عليهم ، واستدلال على بطلان الإلهية بذلك .
فإن قيل : فالله تعالى لا يكلم عباده .
[ ص: 50 ] قيل : بلى ، قد كلمهم ، فمنهم من كلمه الله من وراء حجاب ، منه إليه بلا واسطة
كموسى ، ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي ، وهم الأنبياء ، وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله ، فأنزل عليهم كلامه الذي بلغته رسله عنه ، وقالوا لهم : هذا
nindex.php?page=treesubj&link=31910_28743كلام الله الذي تكلم به ، وأمرنا بتبليغه إليكم ، ومن هاهنا قال السلف : من أنكر كون الله متكلما فقد أنكر رسالة الرسل كلهم ، لأن حقيقتها تبليغ كلامه الذي تكلم به إلى عباده ، فإذا انتفى كلامه انتفت الرسالة ، وقال تعالى في سورة طه عن
السامري nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=88فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ورجع القول : هو التكلم والتكليم ، وقال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=76وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فجعل نفي صفة الكلام موجبا لبطلان الإلهية ، وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية : أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ، ولا مدبرا ، ولا ربا ، بل هو مذموم ، معيب ناقص ، ليس له الحمد ، لا في الأولى ، ولا في الآخرة ، وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ، ونعوت الجلال ، التي لأجلها استحق الحمد ، ولهذا سمى السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه وكلامه وتكليمه توحيدا ، لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع وجحد له ، وإنما توحيده : إثبات صفات كماله ، وتنزيهه عن التشبيه والنقائص ، فجعل المعطلة جحد الصفات وتعطيل الصانع عنها توحيدا ، وجعلوا إثباتها لله تشبيها وتجسيما وتركيبا ، فسموا الباطل باسم الحق ، ترغيبا فيه ، وزخرفا ينفقونه به ، وسموا الحق باسم الباطل تنفيرا عنه ، والناس أكثرهم مع ظاهر السكة ، ليس لهم نقد النقاد
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت البتة ، إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص ، تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية ، وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ، ولا
[ ص: 51 ] مدح ولا كمال .
وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه ، وتعبيد كل شيء له ، فاتخاذ الولد ينافي ذلك ، كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=68قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض .
وحمد نفسه على عدم الشريك ، المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية ، وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره ، فيكون شريكا له ، فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه ، لأن الموجود أكمل من المعدوم ، ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمنا لثبوت كمال ، كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته ، وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم ، لتضمن ذلك كمال قيوميته ، وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، لكمال علمه وإحاطته ، وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحدا ، لكمال عدله وإحسانه ، وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار ، لكمال عظمته ، يرى ولا يدرك ، كما أنه يعلم ولا يحاط به علما ، فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال ؛ لأن العدم لا يرى ، فليس في كون الشيء لا يرى كمال البتة ، وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكا ، لعظمته في نفسه ، وتعاليه عن إدراك المخلوق له ، وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان ، لكمال علمه .
فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه فلمضادته لثبوت ضده ، ولتضمنه كمال ثبوت ضده .
فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال ، وأن نفيها نفي لحمده ، ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده .
فَصْلٌ
اشْتِمَالُ الْفَاتِحَةِ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ
فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28972_28892اشْتِمَالِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ .
التَّوْحِيدُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ فِي الْعِلْمِ وَالِاعْتِقَادِ ، وَنَوْعٌ فِي الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ : التَّوْحِيدَ الْعِلْمِيَّ ، وَالثَّانِي : التَّوْحِيدَ الْقَصْدِيَّ الْإِرَادِيَّ ، لِتَعَلُّقِ الْأَوَّلِ بِالْأَخْبَارِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَالثَّانِي بِالْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ ، وَهَذَا الثَّانِي أَيْضًا نَوْعَانِ : تَوْحِيدٌ فِي الرُّبُوبِيَّةِ ، وَتَوْحِيدٌ فِي الْإِلَهِيَّةِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ .
فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28653تَوْحِيدُ الْعِلْمِ : فَمَدَارُهُ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَعَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالْمِثَالِ ،
[ ص: 49 ] وَالتَّنْزِيهِ عَنِ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا شَيْئَانِ : مُجْمَلٌ ، وَمُفَصَّلٌ .
أَمَّا الْمُجْمَلُ : فَإِثْبَاتُ الْحَمْدِ لَهُ سُبْحَانَهُ ، وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ : فَذِكْرُ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمُلْكِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِ مَدَارُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ .
فَأَمَّا تَضَمُّنُ الْحَمْدِ لِذَلِكَ : فَإِنَّ الْحَمْدَ يَتَضَمَّنُ مَدْحَ الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ ، مَعَ مَحَبَّتِهِ وَالرِّضَا عَنْهُ ، وَالْخُضُوعِ لَهُ ، فَلَا يَكُونُ حَامِدًا مَنْ جَحَدَ صِفَاتِ الْمَحْمُودِ ، وَلَا مَنْ أَعْرَضَ عَنْ مَحَبَّتِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ ، وَكُلَّمَا كَانَتْ صِفَاتُ كَمَالِ الْمَحْمُودِ أَكْثَرَ كَانَ حَمْدُهُ أَكْمَلَ ، وَكُلَّمَا نَقَصَ مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ نَقَصَ مِنْ حَمْدِهِ بِحَسَبِهَا ، وَلِهَذَا كَانَ الْحَمْدُ كُلُّهُ لِلَّهِ حَمْدًا لَا يُحْصِيهِ سِوَاهُ ، لِكَمَالِ صِفَاتِهِ وَكَثْرَتِهَا ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُحْصِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ ، لِمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَنُعُوتِ الْجَلَالِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا سِوَاهُ ، وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى آلِهَةَ الْكُفَّارِ ، وَعَابَهَا بِسَلْبِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ عَنْهَا ، فَعَابَهَا بِأَنَّهَا لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ ، وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَهْدِي ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ، وَهَذِهِ صِفَةُ إِلَهِ
الْجَهْمِيَّةِ ، الَّتِي عَابَ بِهَا الْأَصْنَامَ ، نَسَبُوهَا إِلَيْهِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، فَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّتِهِ لِأَبِيهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=42يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا فَلَوْ كَانَ إِلَهُ
إِبْرَاهِيمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالْمَثَابَةِ لَقَالَ لَهُ
آزَرُ : وَأَنْتَ إِلَهُكَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ، فَكَيْفَ تُنْكِرُ عَلَيَّ ؟ لَكِنْ كَانَ مَعَ شِرْكِهِ أَعْرَفَ بِاللَّهِ مِنَ
nindex.php?page=treesubj&link=28836الْجَهْمِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ كَفَّارُ
قُرَيْشٍ كَانُوا مَعَ شِرْكِهِمْ مُقِرِّينَ بِصِفَاتِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=148وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ فَلَوْ كَانَ إِلَهُ الْخَلْقِ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَى بُطْلَانِ الْإِلَهِيَّةِ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ .
[ ص: 50 ] قِيلَ : بَلَى ، قَدْ كَلَّمَهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، مِنْهُ إِلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ
كَمُوسَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ الْمَلَكِيِّ ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ ، وَكَلَّمَ اللَّهُ سَائِرَ النَّاسِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كَلَامَهُ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ عَنْهُ ، وَقَالُوا لَهُمْ : هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=31910_28743كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ ، وَأَمَرَنَا بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ السَّلَفُ : مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ اللَّهِ مُتَكَلِمًا فَقَدْ أَنْكَرَ رِسَالَةَ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا تَبْلِيغُ كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ ، فَإِذَا انْتَفَى كَلَامُهُ انْتَفَتِ الرِّسَالَةُ ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه عَنِ
السَّامِرِيِّ nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=88فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَرَجْعُ الْقَوْلِ : هُوَ التَّكَلُّمُ وَالتَّكْلِيمُ ، وَقَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=76وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَجَعَلَ نَفْيَ صِفَةِ الْكَلَامِ مُوجِبًا لِبُطْلَانِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطَرِ وَالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ : أَنَّ فَاقِدَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا يَكُونُ إلَهًا ، وَلَا مُدَبِّرًا ، وَلَا رَبًّا ، بَلْ هُوَ مَذْمُومٌ ، مَعِيبٌ نَاقِصٌ ، لَيْسَ لَهُ الْحَمْدُ ، لَا فِي الْأُولَى ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ لِمَنْ لَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ ، وَنُعُوتُ الْجَلَالِ ، الَّتِي لِأَجْلِهَا اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ ، وَلِهَذَا سَمَّى السَّلَفُ كُتُبَهُمُ الَّتِي صَنَّفُوهَا فِي السُّنَّةِ وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَكَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ تَوْحِيدًا ، لِأَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ وَإِنْكَارَهُ وَالْكُفْرَ بِهِ إِنْكَارٌ لِلصَّانِعِ وَجَحْدٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا تَوْحِيدُهُ : إِثْبَاتُ صِفَاتِ كَمَالِهِ ، وَتَنْزِيهُهُ عَنِ التَّشْبِيهِ وَالنَّقَائِصِ ، فَجَعَلَ الْمُعَطِّلَةُ جَحْدَ الصِّفَاتِ وَتَعْطِيلَ الصَّانِعِ عَنْهَا تَوْحِيدًا ، وَجَعَلُوا إِثْبَاتَهَا لِلَّهِ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا وَتَرْكِيبًا ، فَسَمَّوُا الْبَاطِلَ بِاسْمِ الْحَقِّ ، تَرْغِيبًا فِيهِ ، وَزُخْرُفًا يُنْفِقُونَهُ بِهِ ، وَسَمَّوُا الْحَقَّ بِاسْمِ الْبَاطِلِ تَنْفِيرًا عَنْهُ ، وَالنَّاسُ أَكْثَرُهُمْ مَعَ ظَاهِرِ السِّكَّةِ ، لَيْسَ لَهُمْ نَقْدُ النُّقَّادِ
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=17مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَالْمَحْمُودُ لَا يُحْمَدُ عَلَى الْعَدَمِ وَالسُّكُوتِ الْبَتَّةَ ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ سَلْبَ عُيُوبٍ وَنَقَائِصَ ، تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ أَضْدَادِهَا مِنَ الْكِمَالَاتِ الْثُبُوتِيَّةِ ، وَإِلَّا فَالسَّلْبُ الْمَحْضُ لَا حَمْدَ فِيهِ ، وَلَا
[ ص: 51 ] مَدْحَ وَلَا كَمَالَ .
وَكَذَلِكَ حَمْدُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى عَدَمِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ الْمُتَضَمِّنِ لِكَمَالِ صَمَدِيَّتِهِ وَغِنَاهُ وَمُلْكِهِ ، وَتَعْبِيدِ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ ، فَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ يُنَافِي ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=68قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .
وَحَمْدُ نَفْسِهِ عَلَى عَدَمِ الشَّرِيكِ ، الْمُتَضَمِّنِ تَفَرُّدَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ ، وَتَوَحُّدَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُوصَفُ بِهَا غَيْرُهُ ، فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُ ، فَلَوْ عُدِمَهَا لَكَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ أَكْمَلَ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَعْدُومِ ، وَلِهَذَا لَا يَحْمَدُ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ بِعَدَمٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِثُبُوتِ كَمَالٍ ، كَمَا حَمِدَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لَا يَمُوتُ لِتَضَمُّنِهِ كَمَالَ حَيَاتِهِ ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ، لِتَضَمُّنِ ذَلِكَ كَمَالَ قَيُّومِيَّتِهِ ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ ، لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا ، لِكَمَالِ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ، لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ ، يَرَى وَلَا يُدْرَكُ ، كَمَا أَنَّهُ يَعْلَمُ وَلَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا ، فَمُجَرَّدُ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ لَيْسَ بِكَمَالٍ ؛ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُرَى ، فَلَيْسَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ لَا يُرَى كَمَالٌ الْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً وَلَا إِدْرَاكًا ، لِعَظَمَتِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَتَعَالِيهِ عَنْ إِدْرَاكِ الْمَخْلُوقِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ حَمِدَ نَفْسَهُ بِعَدَمِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ ، لِكَمَالِ عِلْمِهِ .
فَكُلُّ سَلْبٍ فِي الْقُرْآنِ حَمِدَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَلِمُضَادَّتِهِ لِثُبُوتِ ضِدِّهِ ، وَلِتَضَمُّنِهِ كَمَالَ ثُبُوتِ ضِدِّهِ .
فَعَلِمْتُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَمْدِ تَابِعَةٌ لِثُبُوتِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ، وَأَنَّ نَفْيَهَا نَفْيٌ لِحَمْدِهِ ، وَنَفْيُ الْحَمْدِ مُسْتَلْزِمٌ لِثُبُوتِ ضِدِّهِ .