الفناء
" والفناء " الذي يشير إليه القوم ، ويعملون عليه : أن تذهب المحدثات في شهود
[ ص: 169 ] العبد ، وتغيب في أفق العدم ، كما كانت قبل أن توجد ، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل ، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا ، فلا يبقى له صورة ولا رسم ، ثم يغيب شهوده أيضا ، فلا يبقى له شهود ، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه ، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات ، وحقيقته : أن يفنى من لم يكن ، ويبقى من لم يزل .
قال صاحب المنازل : هو اضمحلال ما دون الحق علما ، ثم جحدا ، ثم حقا ، وهو على ثلاث درجات :
الدرجة الأولى : فناء المعرفة في المعروف ، وهو الفناء علما ، وفناء العيان في المعاين ، وهو الفناء جحدا ، وفناء الطلب في الوجود ، وهو الفناء حقا .
الدرجة الثانية : فناء شهود الطلب لإسقاطه ، وفناء شهود المعرفة لإسقاطها ، وفناء شهود العيان لإسقاطه .
الدرجة الثالثة : الفناء عن شهود الفناء ، وهو الفناء حقا ، شائما برق العين ، راكبا بحر الجمع ، سالكا سبيل البقاء .
فنذكر ما في هذا الكلام من حق وباطل ، ثم نتبعه ذكر أقسام الفناء ، والفرق بين
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29555الفناء المحمود ، الذي هو فناء خاصة أولياء الله المقربين ،
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29555والفناء المذموم الذي هو فناء أهل الإلحاد ، القائلين بوحدة الوجود ، وفناء المتوسطين الناقصين عن درجة الكمال ، بعون الله وحوله وتأييده .
فقوله : الفناء اضمحلال ما دون الحق جحدا ، لا يريد به أنه يعدم من الوجود بالكلية ، وإنما يريد اضمحلاله في العلم ، فيعلم أن ما دونه باطل ، وأن وجوده بين
[ ص: 170 ] عدمين ، وأنه ليس له من ذاته إلا العدم ، فعدمه بالذات ، ووجوده بإيجاد الحق له ، فيفنى في علمه ، كما كان فانيا في حال عدمه ، فإذا فني في علمه ارتقى إلى درجة أخرى فوق ذلك ، وهي جحد السوى وإنكاره ، وهذه أبلغ من الأولى ، لأنها غيبته عن السوى ، فقد يغيب عنه وهو غير جاحد له ، وهذه الثانية جحده وإنكاره .
ومن هاهنا دخل الاتحادي ، وقال : المراد جحد السوى بالكلية ، وأنه ما ثم غير بوجه ما .
وحاشا شيخ الإسلام من إلحاد أهل الاتحاد ، وإن كانت عبارته موهمة ، بل مفهمة ذلك ، وإنما أراد بالجحد في الشهود ، لا في الوجود ، أي يجحده أن يكون مشهودا ، فيجحد وجوده الشهودي العلمي ، لا وجوده العيني الخارجي ، فهو أولا يغيب عن وجوده الشهودي العلمي ، ثم ينكر ثانيا وجوده في علمه ، وهو اضمحلاله جحدا ، ثم يرتقي من هذه الدرجة إلى درجة أخرى أبلغ منها ، وهي اضمحلاله في الحقيقة ، وأنه لا وجود له البتة ، وإنما وجوده قائم بوجود الحق ، فلولا وجود الحق لم يكن هو موجودا ، ففي الحقيقة : الموجود إنما هو الحق وحده ، والكائنات من أثر وجوده ، هذا معنى قولهم " إنها لا وجود لها ولا أثر لها ، وإنها معدومة وفانية ومضمحلة " .
والاتحادي يقول : إن السالك في أول سلوكه يرى أنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله ، فهذا توحيد العلم ، ولا يقدر في طوره الأول على أكثر من ذلك ، ثم ينتقل عن هذا إلى الدرجة الثانية ، وهي شهود عود الأفعال إلى الصفات ، والصفات إلى الذات ، فعاد الأمر كله إلى الذات ، فيجحد وجود السوى بالكلية ، فهذا هو الاضمحلال جحدا ، ثم يرتقي عن هذه الدرجة إلى ركوب البحر الذي تغرق فيه الأفعال والأسماء والصفات ، ولا يبقى إلا أمر مطلق لا يتقيد باسم ولا فعل ولا صفة ، قد اضمحل فيه كل معنى وقيد وصفة ورسم ، وهذا عندهم غاية السفر الأول ، فحينئذ يأخذ في السفر الثاني ، وهو البقاء .
[ ص: 171 ] قوله : الدرجة الأولى : فناء المعرفة في المعروف .
يريد اضمحلال معرفته وتلاشيها في معروفه ، وأن يغيب بمعروفه عن معرفته ، كما يغيب بمشهوده عن شهوده ، وبمذكوره عن ذكره ، وبمحبوبه عن حبه ، وبمخوفه عن خوفه ، وهذا لا ريب في إمكانه ووقوعه ، فإن القلب إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متسع لغيره ، وأنت ترى الرجل يشاهد محبوبه الذي قد استغرق في حبه ، بحيث تخلل حبه جميع أجزاء قلبه ، أو يشاهد المخوف الذي امتلأ قلبه بخوفه ، فتراه دهشا عن شعوره بحبه أو خوفه ، لاستيلاء سلطان المحبوب أو المخوف على قلبه ، وعدم اتساعه لشهود غيره البتة ، لكن هذا لنقصه لا لكماله ، والكمال وراء ذلك ، فلا أحد أعظم محبة لله عز وجل من الخليلين عليهما الصلاة والسلام وكانت حالهما أكمل من هذه الحال ، وشهود العبودية أكمل وأتم وأبلغ من الغيبة عنها بشهود المعبود ، فشهود العبودية والمعبود درجة الكمل ، والغيبة بأحدهما عن الآخر للناقصين ، فكما أن الغيبة بالعبادة عن المعبود نقص ، فكذلك الغيبة بالمعبود عن عبادته نقص ، حتى إن من العارفين من لا يعتد بهذه العبادة ، ويرى وجودها عدما ، ويقول : هي بمنزلة عبودية النائم وزائل العقل ، لا يعتد بها ، ولم يبعد هذا القائل .
فالحق تعالى مراده من عبده استحضار عبوديته ، لا الغيبة عنها ، والعامل على الغيبة عنها عامل على مراده من الله ، وعلى حظه والتنعم بالفناء في شهوده ، لا على مراد الله منه ، وبينهما ما بينهما .
فكيف يكون قائما بحقيقة العبودية من يقول " إياك نعبد " ولا شعور له بعبوديته البتة ؟ بل حقيقة " إياك نعبد " علما ومعرفة وقصدا وإرادة وعملا ، وهذا مستحيل في وادي الفناء ، ومن له ذوق يعرف هذا وهذا .
قوله : وفناء العيان في المعاين ، وهو الفناء جحدا .
لما كان ما قبل هذا فناء العلم في المعلوم ، والمعرفة في المعروف ، والعيان فوق العلم والمعرفة ، إذ نسبته إلى العلم كنسبة المرئي إليه كان الفناء في هذه المرتبة فناء عيانه في معاينه ، ومحو أثره واضمحلال رسمه .
قوله : وفناء الطلب في الموجود وهو الفناء حقا .
يريد : أنه لا يبقى لصاحب هذا العيان طلب ، لأنه قد ظفر بموجوده ومطلوبه ، وطلب الموجود محال ، لأنه إنما يطلب المفقود عن العيان لا الموجود ، فإذا استقرت في عيانه وشهوده فني الطلب حقا .
[ ص: 172 ] قوله : الدرجة الثانية : فناء شهود الطلب لإسقاطه ، وفناء شهود المعرفة لإسقاطها ، وفناء شهود العيان لإسقاطه .
يريد أن الطلب يسقط ، فيشهد العبد عدمه ، فهاهنا أمور ثلاثة مترتبة أحدها : فناء الطلب وسقوطه ، ثم شهود سقوطه ، ثم سقوط شهوده .
فهذا هو فناء شهود الطلب لإسقاطه .
وأما فناء شهود المعرفة لإسقاطها ، فيريد به : أن المعرفة تسقطه في شهود العيان ، إذ هو فوقها ، وهي تفنى فيه ، فيشهد سقوطها في العيان ، ثم يسقط شهود سقوطها .
وصاحب المنازل يرى أن المعرفة قد يصحبها شيء من حجاب العلم ، ولا يرتفع ذلك الحجاب إلا بالعيان ، فحينئذ تفنى في حقه المعارف ، فيشهد فناءها وسقوطها ، ولكن عليه بعد بقية ، لا تزول عنه حتى يسقط شهود فنائها وسقوطها منه ، فالعارف يخالطه بقية من العلم لا تزول إلا بالمعاينة ، والمعاين قد يخالطه بقية من المعرفة لا تزول إلا بشهود سقوطها ، ثم سقوط شهود هذا السقوط .
وأما فناء شهود العيان لإسقاطه ، فيعني أن العيان أيضا يسقط فيشهد العبد ساقطا ، فلا يبقى إلا المعاين وحده .
قال الاتحادي : هذا دليل على أن الشيخ يرى مذهب أهل الوحدة ، لأن العيان إنما يسقط في مبادئ حضرة الجمع ، لأنه يقتضي ثلاثة أمور : معاين ، ومعاين ، ومعاينة ، وحضرة الجمع تنفي التعداد .
وهذا كذب على شيخ الإسلام ، وإنما مراده : فناء شهود العيان ، فيفنى عن
[ ص: 173 ] مشاهدة المعاينة ، ويغيب بمعاينه عن معاينته ، لأن مراده انتفاء التعدد ، والتغاير بين المعاين والمعاين ، وإنما مراده : انتفاء الحاجب عن درجة الشهود ، لا عن حقيقة الوجود ، ولكنه باب لإلحاد هؤلاء الملاحدة ، منه يدخلون .
وفرق بين إسقاط الشيء عن درجة الوجود العلمي الشهودي ، وإسقاطه عن رتبة الوجود الخارجي العيني ، فشيخ الإسلام بل مشايخ القوم المتكلمين بلسان الفناء هذا مرادهم .
وأما أهل الوحدة ، فمرادهم : أن حضرة الجمع والوحدة تنفي التعدد والتقييد في الشهود والوجود ، بحيث يبقى المعروف والمعرفة والعارف من عين واحدة ، لا بل ذلك هو نفس العين الواحدة ، وإنما العلم والعقل والمعرفة حجب ، بعضها أغلظ من بعض ، ولا يصير السالك عندهم محققا حتى يخرق حجاب العلم والمعرفة والعقل ، فحينئذ يفضي إلى ما وراء الحجاب من شهود الوحدة المطلقة التي لا تتقيد بقيد ، ولا تختص بوصف .
قوله : الدرجة الثالثة : الفناء عن شهود الفناء .
أي يشهد فناء كل ما سوى الحق تعالى في وجود الحق ، ثم يشهد الفناء قد فني أيضا ، ثم يفنى عن شهود الفناء ، فذلك هو الفناء حقا .
وقوله : شائما برق العين .
يعني ناظرا إلى عين الجمع ، فإذا شام برقه من بعد انتقل من ذلك إلى ركوب لجة بحر الجمع ، وركوبه إياها هو فناؤه في جمعه .
ويعني بالجمع : الحقيقة الكونية والقدرية التي يجتمع فيها جميع المتفرقات ، وتشمير القوم إلى شهودها والاستغراق والفناء فيها هو غاية السلوك والمعرفة عندهم .
وسنذكر إن شاء الله تعالى أن العبد لا يدخل بهذا الفناء والشهود في الإسلام ،
[ ص: 174 ] فضلا أن يكون به من المؤمنين ، فضلا أن يكون به من خاصة أولياء الله المقربين ، فإن هذا شهود مشترك لأمر أقر به عباد الأصنام وسائر أهل الملل أنه لا خالق إلا الله ، قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ،
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=87ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فالاستغراق والفناء في شهود هذا القدر غاية التحقيق لتوحيد الربوبية الذي أقر به المشركون ، ولم يدخلوا به في الإسلام ، وإنما الشأن في توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل ، وأنزلت به الكتب ، وتميز به أولياء الله من أعدائه ، وهو أن لا يعبد إلا الله ، ولا يحب سواه ، ولا يتوكل على غيره .
والفناء في هذا التوحيد : هو فناء خاصة المقربين ، كما سيأتي إن شاء الله .
الفَنَاءُ
" وَالْفَنَاءُ " الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ ، وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ : أَنْ تَذْهَبَ الْمُحْدَثَاتُ فِي شُهُودِ
[ ص: 169 ] الْعَبْدِ ، وَتَغِيبَ فِي أُفُقِ الْعَدَمِ ، كَمَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ ، وَيَبْقَى الْحَقُّ تَعَالَى كَمَا لَمْ يَزَلْ ، ثُمَّ تَغِيبُ صُورَةُ الْمُشَاهَدِ وَرَسْمُهُ أيْضًا ، فَلَا يَبْقَى لَهُ صُورَةٌ وَلَا رَسْمٌ ، ثُمَّ يَغِيبُ شُهُودُهُ أيْضًا ، فَلَا يَبْقَى لَهُ شُهُودٌ ، وَيَصِيرُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يُشَاهِدُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ قَبْلَ إِيجَادِ الْمُكَوَّنَاتِ ، وَحَقِيقَتُهُ : أَنْ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ .
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ : هُوَ اضْمِحْلَالُ مَا دُونَ الْحَقِّ عِلْمًا ، ثُمَّ جَحْدًا ، ثُمَّ حَقًّا ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ :
الدَّرَجَةُ الْأُولَى : فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ ، وَهُوَ الْفَنَاءُ عِلْمًا ، وَفَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايِنِ ، وَهُوَ الْفَنَاءُ جَحْدًا ، وَفَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْوُجُودِ ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا .
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْمَعْرِفَةِ لِإِسْقَاطِهَا ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ .
الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ : الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ ، وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا ، شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ ، رَاكِبًا بَحْرَ الْجَمْعِ ، سَالِكًا سَبِيلَ الْبَقَاءِ .
فَنَذْكُرُ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، ثُمَّ نُتْبِعُهُ ذِكْرَ أَقْسَامِ الْفَنَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29555الْفَنَاءِ الْمَحْمُودِ ، الَّذِي هُوَ فَنَاءُ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ ،
nindex.php?page=treesubj&link=29411_29555وَالْفِنَاءِ الْمَذْمُومِ الَّذِي هُوَ فَنَاءُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ ، وَفَنَاءِ الْمُتَوَسِّطِينَ الْنَاقِصِينَ عَنْ دَرَجَةِ الْكَمَالِ ، بِعَوْنِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وَتَأْيِيدِهِ .
فَقَوْلُهُ : الْفَنَاءُ اضْمِحْلَالُ مَا دُونُ الْحَقِّ جَحْدًا ، لَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ يُعْدَمُ مِنَ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اضْمِحْلَالَهُ فِي الْعِلْمِ ، فَيَعْلَمَ أَنَّ مَا دُونَهُ بَاطِلٌ ، وَأَنَّ وُجُودَهُ بَيْنَ
[ ص: 170 ] عَدَمَيْنِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ ، فَعَدَمُهُ بِالذَّاتِ ، وَوُجُودُهُ بِإِيجَادِ الْحَقِّ لَهُ ، فَيَفْنَى فِي عِلْمِهِ ، كَمَا كَانَ فَانِيًا فِي حَالِ عَدَمِهِ ، فَإِذَا فَنِيَ فِي عِلْمِهِ ارْتَقَى إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى فَوْقَ ذَلِكَ ، وَهِيَ جَحْدُ السِّوَى وَإِنْكَارُهُ ، وَهَذِهِ أَبْلَغُ مِنَ الْأُولَى ، لِأَنَّهَا غَيَّبَتْهُ عَنِ السِّوَى ، فَقَدْ يَغِيبُ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ جَاحِدٍ لَهُ ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ جَحْدُهُ وَإِنْكَارُهُ .
وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الِاتِّحَادِيُّ ، وَقَالَ : الْمُرَادُ جَحْدُ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرٌ بِوَجْهٍ مَا .
وَحَاشَا شَيْخَ الْإِسْلَامِ مِنْ إِلْحَادِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهُ مُوهِمَةً ، بَلْ مُفْهِمَةٌ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْجَحْدِ فِي الشُّهُودِ ، لَا فِي الْوُجُودِ ، أَيْ يَجْحَدُهُ أَنْ يَكُونَ مَشْهُودًا ، فَيَجْحَدَ وُجُودَهُ الشُّهُودِيَّ الْعِلْمِيَّ ، لَا وُجُودَهُ الْعَيْنِيَّ الْخَارِجِيَّ ، فَهُوَ أوْلًا يَغِيبُ عَنْ وُجُودِهِ الشُّهُودِيِّ الْعِلْمِيِّ ، ثُمَّ يُنْكِرُ ثَانِيًا وَجُودَهُ فِي عِلْمِهِ ، وَهُوَ اضْمِحْلَالُهُ جَحْدًا ، ثُمَّ يَرْتَقِي مِنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى دَرَجَةٍ أُخْرَى أَبْلَغَ مِنْهَا ، وَهِيَ اضْمِحْلَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُ قَائِمٌ بِوُجُودِ الْحَقِّ ، فَلَوْلَا وُجُودُ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَوْجُودًا ، فَفِي الْحَقِيقَةِ : الْمَوْجُودُ إِنَّمَا هُوَ الْحَقُّ وَحْدَهُ ، وَالْكَائِنَاتُ مِنْ أَثَرِ وَجُودِهِ ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ " إِنَّهَا لَا وُجُودَ لَهَا وَلَا أَثَرَ لَهَا ، وَإِنَّهَا مَعْدُومَةٌ وَفَانِيَةٌ وَمُضْمَحِلَّةٌ " .
وَالِاتِّحَادِيُّ يَقُولُ : إِنَّ السَّالِكَ فِي أَوَّلِ سُلُوكِهِ يَرَى أَنَّهُ لَا فَاعِلَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الْعِلْمِ ، وَلَا يَقْدِرُ فِي طَوْرِهِ الْأَوَّلِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْ هَذَا إِلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ شُهُودُ عَوْدِ الْأَفْعَالِ إِلَى الصِّفَاتِ ، وَالصِّفَاتِ إِلَى الذَّاتِ ، فَعَادَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى الذَّاتِ ، فَيَجْحَدُ وُجُودَ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ ، فَهَذَا هُوَ الِاضْمِحْلَالُ جَحْدًا ، ثُمَّ يَرْتَقِي عَنْ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ الَّذِي تَغْرَقُ فِيهِ الْأَفْعَالُ وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَمْرٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَقَيَّدُ بِاسْمٍ وَلَا فِعْلٍ وَلَا صِفَةٍ ، قَدِ اضْمَحَلَّ فِيهِ كُلُّ مَعْنًى وَقَيْدٍ وَصِفَةٍ وَرَسْمٍ ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ غَايَةُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ ، فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي السَّفَرِ الثَّانِي ، وَهُوَ الْبَقَاءُ .
[ ص: 171 ] قَوْلُهُ : الدَّرَجَةُ الْأُولَى : فَنَاءُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ .
يُرِيدُ اضْمِحْلَالَ مَعْرِفَتِهِ وَتَلَاشِيهَا فِي مَعْرُوفِهِ ، وَأَنْ يَغِيبَ بِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ ، كَمَا يَغِيبُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ ، وَبِمُخَوِّفِهِ عَنْ خَوْفِهِ ، وَهَذَا لَا رَيْبَ فِي إِمْكَانِهِ وَوُقُوعِهِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا امْتَلَأَ بِشَيْءٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِغَيْرِهِ ، وَأَنْتَ تَرَى الرَّجُلَ يُشَاهِدُ مَحْبُوبَهُ الَّذِي قَدِ اسْتَغْرَقَ فِي حُبِّهِ ، بِحَيْثُ تَخَلَّلَ حُبُّهُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ قَلْبِهِ ، أَوْ يُشَاهِدُ الْمُخَوِّفَ الَّذِي امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِخَوْفِهِ ، فَتَرَاهُ دَهِشًا عَنْ شُعُورِهِ بِحُبِّهِ أَوْ خَوْفِهِ ، لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَحْبُوبِ أَوِ الْمُخَوِّفِ عَلَى قَلْبِهِ ، وَعَدَمِ اتِّسَاعِهِ لِشُهُودِ غَيْرِهِ الْبَتَّةَ ، لَكِنَّ هَذَا لِنَقْصِهِ لَا لِكَمَالِهِ ، وَالْكَمَالُ وَرَاءَ ذَلِكَ ، فَلَا أَحَدَ أَعْظَمُ مَحَبَّةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْخَلِيلَيْنِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَانَتْ حَالُهُمَا أَكْمَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ ، وَشُهُودُ الْعُبُودِيَّةِ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَبْلَغُ مِنَ الْغَيْبَةِ عَنْهَا بِشُهُودِ الْمَعْبُودِ ، فَشُهُودُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَعْبُودِ دَرَجَةُ الْكُمَّلِ ، وَالْغَيْبَةُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِلنَّاقِصِينَ ، فَكَمَا أَنَّ الْغَيْبَةَ بِالْعِبَادَةِ عَنِ الْمَعْبُودِ نَقْصٌ ، فَكَذَلِكَ الْغَيْبَةُ بِالْمَعْبُودِ عَنْ عِبَادَتِهِ نَقْصٌ ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْعَارِفِينَ مَنْ لَا يَعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ ، وَيَرَى وُجُودَهَا عَدَمًا ، وَيَقُولُ : هِيَ بِمَنْزِلَةِ عُبُودِيَّةِ النَّائِمِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ ، لَا يُعْتَدُّ بِهَا ، وَلَمْ يُبْعِدْ هَذَا الْقَائِلُ .
فَالْحَقُّ تَعَالَى مُرَادُهُ مِنْ عَبْدِهِ اسْتِحْضَارُ عُبُودِيَّتِهِ ، لَا الْغَيْبَةُ عَنْهَا ، وَالْعَامِلُ عَلَى الْغَيْبَةِ عَنْهَا عَامِلٌ عَلَى مُرَادِهِ مِنَ اللَّهِ ، وَعَلَى حَظِّهِ وَالتَّنَعُّمِ بِالْفَنَاءِ فِي شُهُودِهِ ، لَا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ ، وَبَيْنَهُمَا مَا بَيْنَهُمَا .
فَكَيْفَ يَكُونُ قَائِمًا بِحَقِيقَةِ الْعُبُودِيَّةِ مَنْ يَقُولُ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " وَلَا شُعُورَ لَهُ بِعُبُودِيَّتِهِ الْبَتَّةَ ؟ بَلْ حَقِيقَةُ " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَقَصْدًا وَإِرَادَةً وَعَمَلًا ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي وَادِي الْفَنَاءِ ، وَمَنْ لَهُ ذَوْقٌ يَعْرِفُ هَذَا وَهَذَا .
قَوْلُهُ : وَفَنَاءُ الْعِيَانِ فِي الْمُعَايَنِ ، وَهُوَ الْفَنَاءُ جَحْدًا .
لَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذَا فَنَاءَ الْعِلْمِ فِي الْمَعْلُومِ ، وَالْمَعْرِفَةِ فِي الْمَعْرُوفِ ، وَالْعِيَانُ فَوْقَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ، إِذْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْعِلْمِ كَنِسْبَةِ الْمَرْئِيِّ إِلَيْهِ كَانَ الْفَنَاءُ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَنَاءَ عِيَانِهِ فِي مُعَايَنِهِ ، وَمَحْوَ أَثَرِهِ وَاضْمِحْلَالَ رَسْمِهِ .
قَوْلُهُ : وَفَنَاءُ الطَّلَبِ فِي الْمَوْجُودِ وَهُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا .
يُرِيدُ : أَنَّهُ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِ هَذَا الْعِيَانِ طَلَبٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ وَمَطْلُوبِهِ ، وَطَلَبُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ الْمَفْقُودَ عَنِ الْعِيَانِ لَا الْمَوْجُودَ ، فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي عِيَانِهِ وَشُهُودِهِ فَنِيَ الطَّلَبُ حَقًّا .
[ ص: 172 ] قَوْلُهُ : الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْمَعْرِفَةِ لِإِسْقَاطِهَا ، وَفَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ .
يُرِيدُ أَنَّ الطَّلَبَ يَسْقُطُ ، فَيَشْهَدُ الْعَبْدُ عَدَمَهُ ، فَهَاهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ أَحَدُهَا : فَنَاءُ الطَّلَبِ وَسُقُوطُهُ ، ثُمَّ شُهُودُ سُقُوطِهِ ، ثُمَّ سُقُوطُ شُهُودِهِ .
فَهَذَا هُوَ فَنَاءُ شُهُودِ الطَّلَبِ لِإِسْقَاطِهِ .
وَأَمَّا فَنَاءُ شُهُودِ الْمَعْرِفَةِ لِإِسْقَاطِهَا ، فَيُرِيدُ بِهِ : أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُسْقِطُهُ فِي شُهُودِ الْعِيَانِ ، إِذْ هُوَ فَوْقَهَا ، وَهِيَ تَفْنَى فِيهِ ، فَيَشْهَدُ سُقُوطَهَا فِي الْعِيَانِ ، ثُمَّ يَسْقُطُ شُهُودُ سُقُوطِهَا .
وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ يَرَى أَنَّ الْمَعْرِفَةَ قَدْ يَصْحَبُهَا شَيْءٌ مِنْ حِجَابِ الْعِلْمِ ، وَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْحِجَابُ إِلَّا بِالْعِيَانِ ، فَحِينَئِذٍ تَفْنَى فِي حَقِّهِ الْمَعَارِفُ ، فَيَشْهَدُ فَنَاءَهَا وَسُقُوطَهَا ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَعْدُ بَقِيَّةٌ ، لَا تَزُولُ عَنْهُ حَتَّى يَسْقُطَ شُهُودُ فَنَائِهَا وَسُقُوطِهَا مِنْهُ ، فَالْعَارِفُ يُخَالِطُهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْعِلْمِ لَا تَزُولُ إِلَّا بِالْمُعَايَنَةِ ، وَالْمُعَايِنُ قَدْ يُخَالِطُهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لَا تَزُولُ إِلَّا بِشُهُودِ سُقُوطِهَا ، ثُمَّ سُقُوطِ شُهُودِ هَذَا السُّقُوطَ .
وَأَمَّا فَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ لِإِسْقَاطِهِ ، فَيَعْنِي أَنَّ الْعِيَانَ أيْضًا يَسْقُطُ فَيُشْهَدُ الْعَبْدُ سَاقِطًا ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا الْمُعَايَنُ وَحْدَهُ .
قَالَ الِاتِّحَادِيُّ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ يَرَى مَذْهَبَ أَهْلِ الْوَحْدَةِ ، لِأَنَّ الْعِيَانَ إِنَّمَا يَسْقُطُ فِي مَبَادِئِ حَضْرَةِ الْجَمْعِ ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي ثَلَاثَةَ أُمُورٍ : مُعَايَنٌ ، وَمُعَايِنٌ ، وَمُعَايَنَةٌ ، وَحَضْرَةُ الْجَمْعِ تَنْفِي التِّعْدَادِ .
وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ : فَنَاءُ شُهُودِ الْعِيَانِ ، فَيَفْنَى عَنْ
[ ص: 173 ] مُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ ، وَيَغِيبُ بِمُعَايِنِهِ عَنْ مُعَايَنَتِهِ ، لِأَنَّ مُرَادَهُ انْتِفَاءُ التَّعَدُّدِ ، وَالتَّغَايُرُ بَيْنَ الْمُعَايَنِ وَالْمُعَايِنِ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ : انْتِفَاءُ الْحَاجِبِ عَنْ دَرَجَةِ الشُّهُودِ ، لَا عَنْ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ ، وَلَكِنَّهُ بَابٌ لِإِلْحَادِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ ، مِنْهُ يَدْخُلُونَ .
وَفَرْقٌ بَيْنَ إِسْقَاطِ الشَّيْءِ عَنْ دَرَجَةِ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ الشُّهُودِيِّ ، وَإِسْقَاطِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ الْعَيْنِيِّ ، فَشَيْخُ الْإِسْلَامِ بَلْ مَشَايِخُ الْقَوْمِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلِسَانِ الْفَنَاءِ هَذَا مُرَادُهُمْ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْوَحْدَةِ ، فَمُرَادُهُمْ : أَنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ وَالْوَحْدَةِ تَنْفِي التَّعَدُّدَ وَالتَّقْيِيدَ فِي الشُّهُودِ وَالْوُجُودِ ، بِحَيْثُ يَبْقَى الْمَعْرُوفُ وَالْمَعْرِفَةُ وَالْعَارِفُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ ، لَا بَلْ ذَلِكَ هُوَ نَفْسُ الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ وَالْعَقْلُ وَالْمَعْرِفَةُ حُجُبٌ ، بَعْضُهَا أَغْلَظُ مِنْ بَعْضٍ ، وَلَا يَصِيرُ السَّالِكُ عِنْدَهُمْ مُحَقِّقًا حَتَّى يَخْرِقَ حِجَابَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ ، فَحِينَئِذٍ يُفْضِي إِلَى مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ مِنْ شُهُودِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا تَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ ، وَلَا تَخْتَصُّ بِوَصْفٍ .
قَوْلُهُ : الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ : الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ .
أَيْ يَشْهَدُ فَنَاءَ كُلِّ مَا سِوَى الْحَقِّ تَعَالَى فِي وُجُودِ الْحَقِّ ، ثُمَّ يَشْهَدُ الْفَنَاءَ قَدْ فَنِيَ أيْضًا ، ثُمَّ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ الْفَنَاءِ ، فَذَلِكَ هُوَ الْفَنَاءُ حَقًّا .
وَقَوْلُهُ : شَائِمًا بَرْقَ الْعَيْنِ .
يَعْنِي نَاظِرًا إِلَى عَيْنِ الْجَمْعِ ، فَإِذَا شَامَ بَرْقَهُ مِنْ بُعْدٍ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى رُكُوبِ لُجَّةِ بِحْرِ الْجَمْعِ ، وَرُكُوبُهُ إِيَّاهَا هُوَ فَنَاؤُهُ فِي جَمْعِهِ .
وَيَعْنِي بِالْجَمْعِ : الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَالْقَدَرِيَّةَ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا جَمِيعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ ، وَتَشْمِيرُ الْقَوْمِ إِلَى شُهُودِهَا وَالِاسْتِغْرَاقِ وَالْفَنَاءِ فِيهَا هُوَ غَايَةُ السُّلُوكِ وَالْمَعْرِفَةِ عِنْدَهُمْ .
وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَدْخُلُ بِهَذَا الْفَنَاءِ وَالشُّهُودِ فِي الْإِسْلَامِ ،
[ ص: 174 ] فَضْلًا أَنْ يَكُونَ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَضْلًا أَنْ يَكُونَ بِهِ مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُقَرَّبِينَ ، فَإِنَّ هَذَا شُهُودٌ مُشْتَرَكٌ لِأَمْرٍ أَقَرَّ بِهِ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=25وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=87وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَالِاسْتِغْرَاقُ وَالْفَنَاءُ فِي شُهُودِ هَذَا الْقَدْرِ غَايَةُ التَّحْقِيقِ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ ، وَلَمْ يَدْخُلُوا بِهِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ ، وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ ، وَتَمَيَّزَ بِهِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مِنْ أَعْدَائِهِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ، وَلَا يُحِبَّ سِوَاهُ ، وَلَا يَتَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِهِ .
وَالْفَنَاءُ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ : هُوَ فَنَاءُ خَاصَّةِ الْمُقَرَّبِينَ ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ .