الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) العدم من حيث المعنى لا من حيث الصورة فهو أن يعجز عن استعمال الماء لمانع مع قرب الماء منه ، نحو ما إذا كان على رأس البئر ولم يجد آلة الاستقاء فيباح له التيمم ; لأنه إذا عجز عن استعمال الماء لم يكن واجدا له من حيث المعنى ، فيدخل تحت النص ، وكذا إذا كان بينه وبين الماء عدو أو لصوص ، أو سبع ، أو حية يخاف على نفسه الهلاك إذا أتاه ; لأن إلقاء النفس في التهلكة حرام فيتحقق العجز عن استعمال الماء ، وكذا إذا كان معه ماء ، وهو يخاف على نفسه العطش لأنه مستحق الصرف إلى العطش ، والمستحق كالمصروف فكان عادما للماء معنى .

                                                                                                                                وسئل [ ص: 48 ] نصر بن يحيى عن ماء موضوع في الفلاة في الجب ، أو نحو ذلك أيكون للمسافر أن يتيمم أو يتوضأ به ؟ قال : يتيمم ولا يتوضأ به ; لأنه لم يوضع للوضوء ، وإنما وضع للشرب ; إلا أن يكون كثيرا فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب ، والوضوء جميعا فيتوضأ به ولا يتيمم ، وكذا إذا كان به جراحة ، أو جدري أو مرض يضره استعمال الماء فيخاف زيادة المرض باستعمال الماء يتيمم عندنا وقال الشافعي : لا يجوز التيمم ، حتى يخاف التلف وجه قوله أن العجز عن استعمال الماء شرط جواز التيمم ولا يتحقق العجز إلا عند خوف الهلاك .

                                                                                                                                ( ولنا ) قوله تعالى { وإن كنتم مرضى ، أو على سفر } إلى قوله { فتيمموا صعيدا طيبا } أباح التيمم للمريض مطلقا من غير فصل بين مرض ، ومرض ، إلا أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء ليس بمراد فبقي المرض الذي يضر معه استعمال الماء مرادا بالنص .

                                                                                                                                وروي أن { واحدا من الصحابة رضي الله عنهم أجنب ، وبه جدري فاستفتى أصحابه فأفتوه بالاغتسال ، فاغتسل ، فمات ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال ، كان يكفيه التيمم } ، وهذا نص ; ولأن زيادة المرض سبب الموت ، وخوف الموت مبيح فكذا خوف سبب الموت ; لأنه خوف الموت بواسطة .

                                                                                                                                والدليل عليه أنه أثر في إباحة الإفطار ، وترك القيام بلا خلاف ، فههنا أولى ; لأن القيام ركن في باب الصلاة ، والوضوء شرط ، فخوف زيادة المرض لما أثر في إسقاط الركن فلأن يؤثر في إسقاط الشرط أولى ولو كان مريضا لا يضره استعمال الماء لكنه عاجز عن الاستعمال بنفسه وليس له خادم ولا مال يستأجر به أجيرا فيعينه على الوضوء أجزأه التيمم ، سواء كان في المفازة ; أو في المصر ، وهو ظاهر المذهب ; لأن العجز متحقق ، والقدرة موهومة فوجد شرط الجواز .

                                                                                                                                وروي عن محمد أنه إن كان في المصر لا يجزيه إلا أن يكون مقطوع اليد ; لأن الظاهر أنه يجد أحدا من قريب ، أو بعيد يعينه ، وكذا العجز لعارض على شرف الزوال بخلاف مقطوع اليدين ، ولو أجنب في ليلة باردة يخاف على نفسه الهلاك لو اغتسل ولم يقدر على تسخين الماء ولا على أجرة الحمام في المصر أجزأه التيمم في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ، ومحمد : إن كان في المصر لا يجزئه .

                                                                                                                                وجه قولهما أن الظاهر في المصر وجود الماء المسخن ، والدفء فكان العجز نادرا فكان ملحقا بالعدم ، ولأبي حنيفة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه بعث سرية ، وأمر عليهم عمرو بن العاص رضي الله عنه وكان ذلك في غزوة ذات السلاسل فلما رجعوا شكوا منه أشياء من جملتها أنهم قالوا : صلى بنا ، وهو جنب ، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أجنبت في ليلة باردة فخفت على نفسي الهلاك لو اغتسلت فذكرت ما قال الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فتيممت ، وصليت بهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترون صاحبكم كيف نظر لنفسه ولكم } ولم يأمره بالإعادة ولم يستفسره إنه كان في مفازة ، أو مصر ، ولأنه علل فعله بعلة عامة ، وهي خوف الهلاك ورسول الله صلى الله عليه وسلم استصوب ذلك منه ، والحكم يتعمم بعموم العلة وقولهما : " إن العجز في المصر نادر " فالجواب عنه أنه في حق الفقراء الغرباء ليس بنادر ، على أن الكلام فيما إذا تحقق العجز من كل وجه ، حتى لو قدر على الاغتسال بوجه من الوجوه لا يباح له التيمم ولو كان مع رفيقه ماء فإن لم يعلم به لا يجب عليه الطلب عندنا ، وعند الشافعي يجب على ما ذكرنا ، وإن علم به ، ولكن لا ثمن له فكذلك عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف : عليه السؤال .

                                                                                                                                وجه قوله أن الماء مبذول في العادة لقلة خطره فلم يعجز عن الاستعمال ، ولأبي حنيفة أن العجز متحقق ، والقدرة موهومة ; لأن الماء من أعز الأشياء في السفر ، فالظاهر عدم البذل ، فإن سأله فلم يعطه أصلا أجزأه التيمم ; لأن العجز قد تقرر ، وكذا إن كان يعطيه بالثمن ولا ثمن له لما قلنا ، وإن كان له ثمن ولكن لا يبيعه إلا بغبن فاحش يتيمم ولا يلزمه الشراء عند عامة العلماء وقال الحسن البصري : يلزمه الشراء ولو بجميع ماله ; لأن هذه تجارة رابحة .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه عجز عن استعمال الماء إلا بإتلاف شيء من ماله لأن ما زاد على ثمن المثل لا يقابله عوض ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم { حرمة مال المسلم كحرمة دمه } ، ولهذا أبيح له القتال دون ماله كما أبيح له دون نفسه ، ثم خوف فوات بعض النفس مبيح للتيمم فكذا فوات بعض المال [ ص: 49 ] بخلاف الغبن اليسير فإن تلك الزيادة غير معتبرة لما يذكر ، ثم قدر الغبن الفاحش في هذا الباب مقدر بتضعيف الثمن ، وذكر في النوادر فقال : إن كان الماء يشترى في ذلك الموضع بدرهم ، وهو لا يبيعه إلا بدرهم ، ونصف يلزمه الشراء ، وإن كان لا يبيع إلا بدرهمين لا يلزمه ، وإن كان يبيعه بثمن المثل في ذلك الموضع يلزمه الشراء ; لأنه قدر على استعمال الماء بالقدرة على بدله من غير إتلاف ، فلا يجوز له التيمم ، كمن قدر على ثمن الرقبة لا يجوز له التكفير بالصوم ، وإن كان لا يبيع إلا بغبن يسير فكذلك عند أصحابنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي : لا يلزمه الشراء اعتبارا بالغبن الفاحش ، وهذا الاعتبار غير سديد ; لأن ما لا يتغابن الناس فيه فهو زيادة متيقن بها ، لأنها لا تدخل تحت اختلاف المقومين فكانت معتبرة ، وما يتغابن الناس فيه يدخل تحت اختلافهم فعند بعضهم هو زيادة ، وعند بعضهم ليس بزيادة ، فلم تكن زيادة متحققة ، فلا تعتبر .

                                                                                                                                وذكر الكرخي في جامعه أن المصلي إذا رأى مع رفيقه ماء كثيرا ولا يدري أيعطيه أم لا ؟ أنه يمضي على صلاته ; لأن الشروع قد صح ، فلا ينقطع بالشك فإذا فرغ من صلاته سأله ، فإن أعطاه توضأ ، واستقبل الصلاة ، لأن البذل بعد الفراغ دليل البذل قبله ، وإن أبى فصلاته ماضية ; لأن العجز قد تقرر ، فإن أعطاه بعد ذلك لم ينتقض ما مضى ; لأن عدم الماء استحكم بالإباء ، ويلزمه الوضوء لصلاة أخرى ; لأن حكم الإباء ارتفض بالبذل وقال محمد في رجلين مع أحدهما إناء يغترف به من البئر ووعد صاحبه أن يعطيه الإناء قال : ينتظر ، وإن خرج الوقت ; لأن الظاهر هو الوفاء بالعهد فكان قادرا على استعمال الماء بالوعد ، وكان قادرا على استعمال الماء ظاهرا ، فيمنع المصير إلى التيمم ، وكذا إذا وعد الكاسي العاري أن يعطيه الثوب إذا فرغ من صلاته لم تجزه الصلاة عريانا لما قلنا ، وعلى هذا الأصل يخرج مسافر تيمم ، وفي رحله ماء لم يعلم به ، حتى صلى ، ثم علم به أجزأه في قول أبي حنيفة ، ومحمد ولا يلزمه الإعادة .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف لم يجزه ، ويلزمه الإعادة ، وهو قول الشافعي ، وأجمعوا على أنه لو صلى في ثوب نجس ناسيا ، أو توضأ بماء نجس ناسيا ، ثم تذكره لا يجزئه ، وتلزمه الإعادة لأبي يوسف وجهان أحدهما أنه نسي ما لا ينسى عادة ، لأن الماء من أعز الأشياء في السفر لكونه سببا لصيانة نفسه عن الهلاك فكان القلب متعلقا به فالتحق النسيان فيه بالعدم ، والثاني أن الرحل موضع الماء عادة غالبا لحاجة المسافر إليه فكان الطلب واجبا فإذا تيمم قبل الطلب لا يجزئه كما في العمران ولهما أن العجز عن استعمال الماء قد تحقق بسبب الجهالة ، والنسيان ، فيجوز التيمم كما لو حصل العجز بسبب البعد أو المرض أو عدم الدلو ، والرشا وقوله : " نسي ما لا ينسى عادة " ليس كذلك ; لأن النسيان جبلة في البشر خصوصا إذا مر به أمر يشغله عما وراءه ، والسفر محل المشقات ، ومكان المخاوف ، فنسيان الأشياء فيه غير نادر .

                                                                                                                                وأما قوله : " الرحل معدن الماء ، ومكانه " فليس كذلك ، فإن الغالب في الماء الموضوع في الرحل هو النفاذ لقلته ، فلا يكون بقاؤه غالبا فيتحقق العجز ظاهرا ، بخلاف العمران ; لأنه لا يخلو عن الماء غالبا ولو صلى عريانا ، أو مع ثوب نجس ، وفي رحله ثوب طاهر لم يعلم به ، ثم علم قال بعض مشايخنا : يلزمه الإعادة بالإجماع ، وذكر الكرخي أنه على الاختلاف ، وهو الأصح ولو كان عليه كفارة اليمين وله رقبة قد نسيها ، وصام قيل : إنه على الاختلاف ، والصحيح أنه لا يجوز بالإجماع ; لأن المعتبر ثمة ملك الرقبة ، ألا ترى أنه لو عرض عليه رقبة كان له أن لا يقبل ، ويكفر بالصوم ، وبالنسيان لا ينعدم الملك ، وههنا المعتبر هو القدرة على الاستعمال ، وبالنسيان زالت القدرة ، ألا ترى لو عرض عليه الماء لا يجزئه التيمم ; ولأن النسيان في هذا الباب في غاية الندرة فكان ملحقا بالعدم ، ولو وضع غيره في رحله ماء ، وهو لا يعلم به فتيمم وصلى ، ثم علم لا رواية لهذا أيضا وقال بعض مشايخنا : إن لفظ الرواية في الجامع الصغير يدل على أنه يجوز بالإجماع ، فإنه قال في الرجل يكون في رحله ماء فينسى ، والنسيان يستدعي تقدم العلم ، ثم مع ذلك جعل عذرا عندهما فبقي موضع لا علم فيه أصلا ينبغي أن يجعل عذرا عند الكل .

                                                                                                                                ولفظ الرواية في كتاب الصلاة يدل على أنه على الاختلاف ، فإنه قال : مسافر تيمم ومعه ماء في رحله ، وهو لا يعلم به ، وهذا يتناول حالة النسيان ، وغيرها .

                                                                                                                                ولو ظن أن ماءه قد فني فتيمم ، وصلى ثم تبين له أنه قد بقي لا يجزئه بالإجماع ; لأن العلم لا يبطل بالظن فكان الطلب واجبا ، بخلاف النسيان ; لأنه من أضداد العلم ولو كان على رأسه أو ظهره ماء ، أو كان معلقا في عنقه فنسيه فتيمم ، ثم تذكر لا يجزئه بالإجماع ; لأن [ ص: 50 ] النسيان في مثل هذه الحالة نادر ولو كان الماء معلقا على الإكاف ، فلا يخلو إما إن كان راكبا أو سائقا فإن كان راكبا فإن كان الماء في مؤخر الرحل فهو على الاختلاف ، وإن كان في مقدم الرحل لا يجوز بالإجماع ; لأن نسيانه نادر ، وإن كان سائقا فالجواب على العكس ، وهو أنه إن كان في مؤخر الرحل لا يجوز بالإجماع ; لأنه يراه ، ويبصره فكان النسيان نادرا ، وإن كان في مقدم الرحل فهو على الاختلاف .

                                                                                                                                المحبوس في المصر في مكان طاهر يتيمم ، ويصلي ، ثم يعيد إذا خرج وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصلي ، وهو قول زفر

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لا يعيد الصلاة وجه رواية أبي يوسف أنه عجز عن استعمال الماء حقيقة بسبب الحبس ، فأشبه العجز بسبب المرض ، ونحوه ، فصار الماء عدما معنى في حقه ، فصار مخاطبا بالصلاة بالتيمم ، فالقدرة بعد ذلك لا تبطل الصلاة المؤداة كما في سائر المواضع ، وكما في المحبوس في السفر ، وجه رواية الحسن أنه ليس بعادم للماء حقيقة ، وحكما أما ، الحقيقة فظاهرة .

                                                                                                                                وأما الحكم فلأن الحبس إن كان بحق فهو قادر على إزالته بإيصال الحق إلى المستحق ، وإن كان بغير حق فالظلم لا يدوم ، في دار الإسلام بل يرفع ، فلا يتحقق العجز ، فلا يكون التراب طهورا في حقه ، وجه ظاهر الرواية أن العجز للحال قد تحقق إلا أنه يحتمل الارتفاع ، فإنه قادر على رفعه إذا كان بحق ، وإن كان بغير حق فكذلك ; لأن الظلم يدفع وله ولاية الدفع بالرفع إلى من له الولاية فأمر بالصلاة احتياطا لتوجه الأمر بالصلاة بالتيمم ; لأن احتمال الجواز ثابت ; لاحتمال أن هذا القدر من العجز يكفي لتوجيه الأمر بالصلاة بالتيمم ، وأمر بالقضاء في الثاني ; لأن احتمال عدم الجواز ثابت ; لاحتمال أن المعتبر حقيقة القدرة دون العجز الحالي ، فيؤمر بالقضاء عملا بالشبهين ، وأخذا بالثقة ، والاحتياط ، وصار كالمقيد أنه يصلي قاعدا ، ثم يعيد إذا أطلق ، كذا هذا ، بخلاف المحبوس في السفر ; لأن ثمة تحقق العجز من كل وجه ; لأنه انضاف إلى المنع الحقيقي السفر ، والغالب في السفر عدم الماء .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية