الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) أنواع الأنجاس فمنها ما ذكره الكرخي في مختصره : أن كل ما يخرج من بدن الإنسان مما يجب بخروجه الوضوء أو الغسل فهو نجس ، من البول والغائط والودي والمذي والمني ، ودم الحيض والنفاس والاستحاضة والدم السائل من الجرح والصديد والقيء ملء الفم ، لأن الواجب بخروج ذلك مسمى بالتطهير قال الله تعالى في آخر آية الوضوء : { ولكن يريد ليطهركم } وقال في الغسل من الجنابة : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وقال في الغسل من الحيض : { ولا تقربوهن ، حتى يطهرن } والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة .

                                                                                                                                وقال تعالى { : ويحرم عليهم الخبائث } ، والطباع السليمة تستخبث هذه الأشياء ، والتحريم - لا للاحترام - دليل النجاسة ; ولأن معنى النجاسة موجود في ذلك كله إذ النجس اسم للمستقذر ، وكل ذلك مما تستقذره الطباع السليمة لاستحالته إلى خبث ونتن رائحة ، ولا خلاف في هذه الجملة إلا في المني فإن الشافعي زعم أنه طاهر ( واحتج ) بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا وهو يصلي فيه ، والواو واو الحال أي في حال صلاته ، ولو كان نجسا لما صح شروعه في الصلاة معه فينبغي أن يعيد ، ولم ينقل إلينا الإعادة ، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : المني كالمخاط فأمطه عنك ولو بالإذخر شبهه بالمخاط ، والمخاط ليس بنجس كذا المني ، وبه تبين أن الأمر بإماطته لا لنجاسته بل لقذارته ; ولأنه أصل الآدمي المكرم فيستحيل أن يكون نجسا .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي أن عمار بن ياسر رضي الله عنه { كان يغسل ثوبه من النخامة ، فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ما تصنع يا عمار ؟ فأخبره بذلك ، فقال : صلى الله عليه وسلم ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء ، إنما يغسل الثوب من خمس : بول ، وغائط ، وقيء ، ومني ، ودم } أخبر أن الثوب يغسل من هذه الجملة لا محالة ، وما يغسل الثوب منه لا محالة يكون نجسا فدل أن المني نجس .

                                                                                                                                وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : { إذا رأيت المني في ثوبك فإن كان رطبا فاغسليه ، وإن كان يابسا فحتيه } ومطلق الأمر محمول على الوجوب ولا يجب إلا إذا كان نجسا ; ولأن الواجب بخروجه أغلظ الطهارتين وهي الاغتسال ، والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة ، وغلظ الطهارة يدل على غلظ النجاسة كدم الحيض والنفاس ولأنه يمر بميزاب النجس فينجس [ ص: 61 ] بمجاورته ، وإن لم يكن نجسا بنفسه وكونه أصل الآدمي لا ينفي أن يكون نجسا كالعلقة والمضغة ، وما روي من الحديث يحتمل أنه كان قليلا ولا عموم له ; لأنه حكاية حال ، أو نحمله على ما قلنا توفيقا بين الدلائل ، وتشبيه ابن عباس رضي الله عنهما إياه بالمخاط يحتمل أنه كان في الصورة لا في الحكم لتصوره بصورة المخاط ، والأمر بالإماطة بالإذخر لا ينفي الأمر بالإزالة بالماء ، فيحتمل أنه أمر بتقديم الإماطة كي لا تنتشر النجاسة في الثوب فيتعسر غسله .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية