الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما صفة الواجب في السوائم فالواجب فيها صفات لا بد من معرفتها منها الأنوثة في الواجب في الإبل من جنسها من بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة ولا يجوز الذكور منها وهو ابن المخاض وابن اللبون والحق والجذع إلا بطريق القيمة ; لأن الواجب فيها إنما عرف بالنص والنص ورد فيها بالإناث فلا يجوز الذكور إلا بالتقويم ; لأن دفع القيم في باب الزكاة جائز عندنا .

                                                                                                                                وأما في البقر فيجوز فيها الذكر والأنثى لورود النص بذلك وهو قول النبي : صلى الله عليه وسلم { وفي ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة } .

                                                                                                                                وكذا في الإبل فيما دون خمس وعشرين ; لأن النص ورد باسم الشاة وإنها تقع على الذكر والأنثى .

                                                                                                                                وكذا في الغنم عندنا يجوز في زكاتها الذكر والأنثى ، وقال الشافعي : لا يجوز الذكر إلا إذا كانت كلها ذكورا .

                                                                                                                                وهذا فاسد ; لأن الشرع ورد فيها باسم الشاة .

                                                                                                                                قال النبي : صلى الله عليه وسلم { في أربعين شاة شاة } واسم الشاة يقع على الذكر والأنثى في اللغة ، ومنها أن يكون وسطا فليس للساعي أن يأخذ الجيد ولا الرديء إلا من طريق التقويم برضا صاحب المال ; لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للسعاة { : إياكم وحزرات أموال الناس وخذوا من أوساطها } .

                                                                                                                                وروي أنه قال للساعي { : إياك وكرائم أموال الناس ، وخذ من حواشيها ، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب } وفي الخبر المعروف { أنه رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب على الساعي وقال : ألم أنهكم عن أخذ كرائم أموال الناس ؟ حتى قال الساعي : أخذتها ببعيرين يا رسول الله } .

                                                                                                                                ولأن مبنى الزكاة على مراعاة الجانبين وذلك في أخذ الوسط لما في أخذ الخيار من الإضرار بأرباب الأموال وفي أخذ الأرذال من الإضرار بالفقراء فكان نظر الجانبين في أخذ الوسط والوسط هو أن يكون أدون من الأرفع ، وأرفع من الأدون كذا فسره محمد في المنتقى .

                                                                                                                                ولا يؤخذ في الصدقة الربى بضم الراء ، ولا الماخض ، ولا الأكيلة ، ولا فحل الغنم قال محمد : الربى التي تربي ولدها ، والأكيلة التي تسمن للأكل ، والماخض التي في بطنها ولد ، ومن الناس من طعن في تفسير محمد الربى والأكيلة وزعم أن الربى المرباة والأكيلة المأكولة وطعنه مردود عليه ، وكان من حقه تقليد محمد إذ هو كما كان إماما في الشريعة كان إماما في اللغة واجب التقليد فيها كتقليد نقلة اللغة كأبي عبيد ، والأصمعي ، والخليل ، والكسائي ، والفراء وغيرهم وقد قلده أبو عبيد القاسم بن سلام مع جلالة قدره واحتج بقوله ، وسأل أبو العباس ثعلب عن الغزالة فقال : هي عين الشمس ، ثم قال : أما ترى أن محمد بن الحسن قال لغلامه يوما : انظر هل دلكت الغزالة يعني الشمس ؟ ، وكان ثعلب يقول : محمد بن الحسن عندنا من أقران سيبويه ، وكان قوله حجة في اللغة فكان على الطاعن تقليده فيها ، كيف ؟ وقد ذكر صاحب الديوان ومجمل اللغة ما يوافق قوله في الربى قال صاحب الديوان : الربى التي وضعت حديثا أي : هي قريبة العهد بالولادة ، وقال صاحب المجمل : الربى الشاة التي تحبس في البيت للبن فهي مربية لا مرباة .

                                                                                                                                والأكيلة وإن فسرت في بعض كتب اللغة بما قاله الطاعن لكن تفسير محمد أولى وأوفق للأصول ; لأن الأصل أن المفعول إذا ذكر بلفظ فعيل يستوي فيه الذكر والأنثى ولا يدخل فيه هاء التأنيث يقال : امرأة قتيل وجريح من غير هاء التأنيث فلو كانت الأكيلة المأكولة لما أدخل فيها الهاء على اعتبار الأصل ، ولما أدخل الهاء دل أنها ليست باسم المأكولة بل لما أعد للأكل كالأضحية أنها اسم لما أعد للتضحية والله أعلم .

                                                                                                                                وسواء كان النصاب من نوع واحد أو من نوعين كالضأن والمعز والبقر والجواميس والعراب والبخت أن المصدق يأخذ منها واحدة وسطا على التفسير الذي ذكرناه وقال الشافعي في أحد قوليه : يأخذ من الغالب وقال في القول الآخر : إنه يجمع بين قيمة شاة من الضأن وشاة من المعز وينظر في [ ص: 34 ] نصف القيمتين فيأخذ شاة بقيمة ذلك من أي النوعين كانت وهو غير سديد لما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { نهى عن أخذ كرائم أموال الناس وحزراتها } وأمر بأخذ أوساطها من غير فصل بين ما إذا كان النصاب من نوع واحد أو نوعين .

                                                                                                                                ولو كان له خمس من الإبل كلها بنات مخاض أو كلها بنات لبون أو حقاق أو جذاع ففيها شاة وسط ; لقوله صلى الله عليه وسلم { في خمس من الإبل شاة } وإن كانت عجافا فإن كان فيها بنت مخاض وسط أو أعلى سنا منها ففيها أيضا شاة وسط .

                                                                                                                                وكذلك إن كانت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض وسط أنه يجب فيها بنت مخاض وتؤخذ تلك لقوله صلى الله عليه وسلم { في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض } وإن كانت جيدة لا يأخذ المصدق الجيدة ولكن يأخذ قيمة بنت مخاض وسط ، وإن أخذ الجيدة يرد الفضل ، وإن كانت كلها عجافا ليس فيها بنت مخاض ولا ما يساوي قيمتها قيمة بنت مخاض بل قيمتها دون قيمة بنت مخاض أوساط ففيها شاة بقدرها .

                                                                                                                                وطريق معرفة ذلك أن تجعل بنت مخاض وسطا حكما في الباب فينظر إلى قيمتها وإلى قيمة أفضلها من النصاب إن كانت قيمة بنت مخاض وسط مثلا مائة درهم ، وقيمة أفضلها خمسين تجب شاة قيمتها قيمة نصف شاة .

                                                                                                                                وكذلك لو كان التفاوت أكثر من النصف أو أقل فكذلك يجب على قدره وهي من مسائل الزيادات تعرف هناك ثم إذا وجب الوسط في النصاب فلم يوجد الوسط ووجد سن أفضل منه أو دونه قال محمد في الأصل : إن المصدق بالخيار إن شاء أخذ قيمة الواجب وإن شاء أخذ الأدون وأخذ تمام قيمة الواجب من الدراهم ، وقيل ينبغي أن يكون الخيار لصاحب السائمة إن شاء دفع القيمة وإن شاء دفع الأفضل واسترد الفضل من الدراهم وإن شاء دفع الأدون ودفع الفضل من الدراهم ; لأن دفع القيمة في باب الزكاة جائز عندنا والخيار في ذلك لصاحب المال دون المصدق ، وإنما يكون الخيار للمصدق في فصل واحد وهو ما إذا أراد صاحب المال أن يدفع بعض العين لأجل الواجب فالمصدق بالخيار بين أنه لا يأخذ وبين أنه يأخذ بأن كان الواجب بنت لبون فأراد صاحب المال أن يدفع بعض الحقة بطريق القيمة ، أو كان الواجب حقة فأراد أن يدفع بعض الجذعة بطريق القيمة فالمصدق بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل لما فيه من تشقيص العين والشقص في الأعيان عيب ، فكان له أن لا يقبل فأما فيما سوى ذلك فلا خيار له وليس له أن يمتنع من القبول والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية