الفصل الأول
جوانب من حماية الدعوة قبل مرحلة الجهر بها
تـوطـئـة
أي فكر أو معتقد جاء ليغير واقعا، يمر غالبا بمرحلة البدء، التي تمتاز بالسرية، والحيطة، والحذر؛ لأن أهل الفكر والمعتقد المراد تغييره، هـم بالمرصاد لكل ما من شأنه أن يهدد مصالحهم، وسيحاولون القضاء على المعتقدات، والأفكار الجديدة في مهدها.
ولهذا، لزم دعاة تلك الأفكار والمعتقدات الجديدة، اتخاذ جانب الحيطة، والحذر، والتكتم، حتى يشتد ساعدهم، ويكثر أتباعهم، فحينها يمكن الانتقال إلى الجهرية والظهور، ولا يتحقق ذلك إلا إذا اتبع دعاة تلك الأفكار والمعتقدات مناهج وأساليب دقيقة للحماية في كل خطوة يخطونها، في اختيار نوعية من تقدم لهم الدعوة أولا، وكيف، ومتى، وأين؟ وما هـي الأساليب التي يتم التعامل بها مع المستجيبين؟ وكيف يتم إبلاغ الدعوة إلى العامة؟ وكيف يتم ترتيب اللقاءات؟ وأماكن التجمعات؟ فكل ذلك يتطلب منهجا مدروسا، [ ص: 33 ] واحتياطات، حسبما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وهذا ما حصل للإسلام حينما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد بدأ دعوته سرا، وكان دقيقا في كل خطواته، وكان حذرا يقظا في تعامله مع الكفار، وبهذا التخطيط والتنظيم استطاع أن ينتصر على جميع أعداء الإسلام.
والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يجد أن جانب الحذر والتحوط كان واضحا وظاهرا طوال المرحلة السرية.. يقول الدكتور محمد سعيد البوطي : (لا ريب أن تكتم النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى الإسلام خلال السنوات الأولى، لم يكن بسبب الخوف على نفسه، فهو حينما كلف بالدعوة ونزل عليه قوله تعالى : ( يا أيها المدثر ) ، علم أنه رسول الله إلى الناس، وهو لذلك كان يؤمن بأن الإله الذي ابتعثه وكلفه بهذه الدعوة، قادر على أن يحميه ويعصمه من الناس.
ولكن الله عز وجل ألهمه - والإلهام للرسول نوع من الوحي إليه - أن يبدأ الدعوة في فترتها الأولى بسرية وتكتم، وأن لا يلقي بها إلا إلى من يغلب على ظنه أنه سيصغي لها، ويؤمن بها، تعليما للدعاة من بعده، وإرشادا لهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهـرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل التي ينبغي أن تتخذ من أجل الوصول إلى غايات الدعوة وأهدافها.
وبناء على ذلك، فإنه يجوز لأصحاب الدعوة الإسلامية في كل عصر [ ص: 34 ] أن يستعملوا المرونة في كيفية الدعوة من حيث التكتم والجهر، أو اللين والقوة حسبما يقتضيه الظرف وحال العصر، الذي يعيشون فيه، وهي مرونة حددتها الشريعة الإسلامية، اعتمادا على واقع سيرته صلى الله عليه وسلم ) [1] .