الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

        الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

        المبحث الرابع

        من الغار إلى المدينة المنورة

        بعد أن خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش ، بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة المنورة [1] ، ولقد صاحب هـذا التحرك العديد من جوانب الحيطة والحذر، التي تظهر مدى الاهتمام البالغ الذي أولاه الرسول صلى الله عليه وسلم لها منذ تحركه من الغار ، وحتى وصوله المدينة المنورة. وسوف نحاول استعراض أهم هـذه الجوانب التي انطوت عليها تلك الرحلة المباركة. [ ص: 156 ] المطلب الأول

        الحذر أثناء السير على طريق الهجرة

        صاحب السير على طريق الهجرة، العديد من تدابير الحذر والحيطة، من ذلك :

        أولا: التمويه في التحرك من الغار

        أول ما سلك بهم عبد الله بن أريقط ، بعد الخروج من الغار ، أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن ، ثم غربا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر ، وسلك طريقا لم يكن يسلكه أحـد إلا نـادرا [2] ، ومـا ذلك إلا إمعانا في التمويه، ومزيدا من الحيطة والحذر.

        ثانيا: السرعة في السير عقب الخروج من الغار

        الظروف التي تم فيها التحرك من الغار، كانت تتطلب الإسراع في السير، وقطع المسافة بين مكة والمدينة في أقصر زمن ممكن، فعيون قريش منتشرة، والمطاردة لم تنته بعد، لذا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم عقب خروجه من الغار، واستحث رواحلهم لقطع أكبر مسافة ممكنة في أقل زمن ممكن.. روى البخاري «عن أبي بكر رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عندها » [3] . [ ص: 157 ]

        فالسير المتواصل ليوم وليلة، يباعد بين ركب الهجرة ومكة ، مما يزيد من فرص نجاح الخطة، كما أن الليل يعد من أنسب الأوقات للسفر في الصحراء، إضافة إلى كونه ساترا يخفي ركب الهجرة المبارك.

        ثالثا: حادثة سراقة وتدخل العناية الإلهية

        بعد كل التحوطات والتخطيط الدقيق المحكم، تمكنت قريش من تلقي معلومة تفيد أن ركب الهجرة يجد في السير تجاه المدينة بطريق الساحل المهجور. ( قال سراقة : فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج ، أقبل رجل منهم حتى قام علينا، ونحن جلوس، فقال : يا سراقة! إني رأيت آنفا أسودة بالساحل، أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة : فعرفت أنهم هـم، فقلت له : إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا، انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بـي حتـى إذا سمعـت قـراءة رسـول الله صلى الله عليه وسلم وهـو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، [ ص: 158 ] فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم، أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الـزاد والمتـاع، فلم يـرزآني [4] ، ولم يسـألاني، إلا أن قال: (أخف عنا) ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر ابن فهيرة ، فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [5] .

        وهنا تبرز عدة جوانب، منها :

        - الحس الأمني لسراقة ، الذي ظهر من خلال رده على الرجل، موهما إياه أن هـذا الركب ليس هـو محمدا وأصحابه، إنما هـم فلان وفلان، وبالتالي فوت الفرصة على الرجل صاحب الخبر وعلى الحاضرين. وزيادة في إحكام خطته لم يذهب سراقة من فوره، وإنما مكث ساعة في المجلس حتى لا يثير شك الحضور.. ولم يكتف بذلك، بل زاد في الاحتياط الأمني، حيث خرج من الباب الخلفي لبيته، وأمر بحبس فرسه على مسافة من بيته، حتى لا يراه أحد وهو يركب الفرس أمام بيته، فيفسد عليه خطته، وبالتالي قد يخسر الجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه.. ومن هـنا تظهر خطورة هـذا الرجل الذي يجمع مع هـذا الحس الأمني، القدرة العالية على تتبع الأثر، [ ص: 159 ] بل هـو الذي اعتمدت عليه قريش في اقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى وصل إلى الغار [6] .. وشخص بهذه المواصفات، كان يمكن أن يشكل خطورة كبيرة على ركب الهجرة المبارك، خاصة وأنه حاول استغلال تلك الصفات حتى كان قاب قوسين أو أدنى من اللحاق بركب النبوة، ولكن تدخلت العناية الإلهية، فحالت بينه وبين النيل من الركب المأمون.

        كما تظهر أيضا مدى حنكة وحكمة المصطفى صلى الله عليه وسلم في استغلال عدوه كي يصبح عونا له في صد الطلب عنهما، وذلك من ( قوله لسراقة : أخف عنا ) ، فرجع سراقة، فوجد الناس في الطلب، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما هـاهنا.. وكان أول النهار جاهدا عليهما، وآخره حارسا لهما [7] .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية