الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        المبحث الأول

        جوانب الحماية في بدء الدعوة

        حينما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة في مرحلتها السرية، كان يعلم أن ذلك الوضع يستدعي مراعاة جملة من الأمور الهامة، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يختار من يدعوهم حسب مقاييس خاصة، يتحرى فيها الدقة المتناهية، والحذر، والحيطة؛ ذلك لأن أولئك المستجيبين للدعوة آنذاك، هـم الذين تقع عليهم أعباؤها ومسئولياتها، فلا بد أن يكونوا من خيار المجتمع، صدقا، واعتدالا، ومروءة، ونخوة، واستقامة، حتى يكونوا أهلا للقيام بتبليغ الدعوة، وتحملها بكل تجرد، ونكران ذات.

        وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن أي خلل في التصرف، أو تسرب أية معلومة، يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية من شأنها أن تؤثر على تقدم الدعوة ومستقبلها، ولهذا حرص على أهلية المدعوين ونوعيتهم، من حيث كتمانهم للسر، وعدم تسريب المعلومات عن الدعوة الجديدة. [ ص: 35 ]

        جوانب الحماية في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للأقربين

        إن أول من دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه السيدة خديجة ، وعلي بن أبي طالب ، ومولاه زيد بن حارثة ، وحاضنته أم أيمن [1] ، رضي الله عنهم أجمعين.. والمتأمل في هـؤلاء النفر الكريم، يجدهم جميعا تضمهم أسرة واحدة، هـي أسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        ولا يخفى ما في ذلك من جوانب الحماية، فهؤلاء أقرب الناس إليه، وأعرفهم به، وبصدقه، وإخلاصه، وحسن سيرته، لعشرتهم له، وهذا مما يجعلهم يؤمنون عن اقتناع ويقين، وهو ما حدث فعلا.. وهذا النوع من الإيمان هـو ما تتطلبـه المرحلة، فهؤلاء يكتمـون السـر ولا يفشونه، كما أنهم يساعدونه في تحمل أعباء الدعوة، ويخففون عنه وطأة العناء.

        وهو ما تم بالفعل، فعندما جاء إلى السيدة خديجة يرتجف فؤاده قائلا : «زملوني زملوني... لقد خشيت على نفسي» ، " كان رد خديجة رضي الله عنها : (كلا، والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب الـمعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق " [2] .. ولم تكتف بذلك، بل انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، الذي طمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهدأ من روعه، وأخبره بأن الذي يأتيه هـو الناموس الذي كان ينزل على موسى [3] .. وهذا موقف كان [ ص: 36 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أحوج ما يكون إليه في ذاك الوقت بالذات، ليزداد ثقة ويقينا أن ما يأتيه حق، وبالتالي يمضي في طريقه بعزم وحزم.. أضف إلى ذلك، مواساتها له رضي الله عنها ، بمالها وجاهها في قومها.

        وأما زيد فقد خرج معه إلى الطائف ، وكان رفيقه، ومؤازره في تلك الرحلة، وكان يقيه بنفسه من حجارة الصبية، والسفهاء [4] أما علي فقد نام على فراشه عند الهجرة [5] ، وهو عمل فدائي قام به سيدنا علي رضي الله عنه ، ليعمي على قريش ، ويخدعهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مازال نائما في فراشه.

        فهؤلاء أعانوا الرسول صلى الله عليه وسلم في مهمته، وهيأوا له الجو الصالح للدعوة، ولم تثقل أسرته كاهله بأعباء ثانوية.. وهذا النفر الكريم كانوا أول نواة للدعوة، مما ساعد على الانطلاق بعد ذلك من البيت إلى خارجه، وبهذا فات على الأعداء سلاح كان يمكن أن يستخدموه ضده، عندما يعرض الدعوة عليهم، فيقولوا له مثلا : اذهب وقوم بيتك أولا، ثم ائتنا ثانيا!

        لقد ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك جانب أسرته، إذ لم يكن داخلها من لا يؤمن بالدعوة، فوجود أي فرد غير مؤمن بالدعوة داخل الأسرة، قد يسرب معلومات عن تحركات الداعية، ولقاءاته، ومن يترددون عليه، وقد يكون البيت موضع الوثائق الخاصة بالدعوة، أو تلك التي [ ص: 37 ] تحوي خططا مستقبلية للدعوة، فأي تسرب لها سيؤدي إلى الضرر البالغ بالدعوة، والمدعوين، لذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوة وإقناع كل أفراد أسرته أولا.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية