الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

        الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

        المطلب الثاني

        الحس الأمني لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما كان سيدنا أبو بكر معروفا لدى معظم سكان الطريق، لاختلافه إلى الشام بالتجارة، ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يمر بالقوم فيقولون : من هـذا الذي بين يديك يا أبا بكر؟ فيقول: هـذا الرجل يهديني الطريق [1] .. وفي ذلك تورية من أبي بكر رضي الله عنه ، [ ص: 160 ] فطالما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هـو الهدف لقريش ، ورصدت لمن يعثر عليه مائة ناقة، وهي ثروة طائلة تجعل كل من يسمع بهذه الجائزة يجتهد في البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بغية الحصول على تلك الثروة.. وتقديرا للموقف لم يكشف أبو بكر رضي الله عنه عن شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل اكتفى بالتورية، وبالتالي كانت إجابته تنفي الاستفهام الذي يحوم حول الركب دون أن يكذب.

        إن الدعاة إلى الله لا بد أن يكونوا على قدر من الوعي واللباقة، وحضور البديهة، وحدة الذكاء، مما يجعلهم قادرين على مخادعة عدوهم، والإفلات منه [2] ويظهر الحس الأمني لسيدنا أبي بكر، في موضع آخر، حين ( قال: فضربت بصري هـل أرى ظلا نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة، فأهويت إليها، فنظرت فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرشت له فروة، وقلت: اضطجع يا رسول الله! فاضطجع، ثم خرجت أنظر هـل أرى أحدا من الطلب، فإذا أنا براعي غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش، فسماه فعرفته، فقلت: هـل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت: هـل أنت حالب لي؟ قال: نعم. فأمرته فاعتقل شاة منها، ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة، فحلب لي كثبة أي قليلا من اللبن، فصببت على القدح حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب حتى رضيت، ثم قلت: هـل آن الرحيل؟ فارتحلنا ) [3] . [ ص: 161 ]

        هذا النص يؤكد حرص واهتمام أبي بكر بعدة جوانب لتحقيق الحماية والأمن، من أبرزها استكشاف مكان الاستراحة، حيث ذهب إلى الصخرة، وتيقن من خلوها، فنظفها وفرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفروة ليستريح عليها، فهذا تصرف في غاية الحكمة، فالظل في الصحراء مطلب كل سائر على الطريق، ليحتمي به من حر الشمس الحارقة، كما أن الصخرة ربما يكون مختبأ وراءها أحد أفراد قريش ممن يطلبون ركب الهجرة، أو أحد عابري السبيل، الأمر الذي قد يعرض الركب النبوي للخطر، وحتى ينتفي هـذا الاحتمال، ذهب أبو بكر، وتأكد من خلو الصخرة من البشر.

        ولم يكتف بذلك، بل قام بمسح شامل حول الصخرة، فعندما رأى الراعي ذهب إليه بنفسه وبادره بالسؤال قبل أن يسأله الراعي، وهذه مبادرة موفقة من الصديق رضي الله عنه ، وربما قصدها لمنع الراعي من أي استفسار لمعرفة شخصية أبي بكر، ثم بادره مرة أخرى طالبا منه أن يحلب له لبنا، ولم يقل له : احلب لنا، ليوهم الراعي بأنه وحده، وليس معه أحد، ثم طلب من الراعي أن ينفض الغبار عن ضرع الشاة، مخافة أن يؤذي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيسبب له ألـما يمكن أن يعوق تقدم الركب.

        وقول أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبمجرد انتهائه من شرب اللبن : هـل آن الرحيـل؟ يـدل علـى الحـس الأمني العـالي لدى أبي بـكـر، [ ص: 162 ] حيث لا ينبغي لهذا الركب أن يطيل الاستراحة، والطلب في أثره، ولا بد من الاستفادة من السير في وقت القيلولة الذي يندر فيه المرور، وبالتالي تقل فرص الظفر بالركب من قبل المتربصين به.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية