المطلب الرابع
حصار قريش وموقف المسلمين منه بعد الفشل الذريع الذي منيت به قريش ، حيث الحرب النفسية لم تكبح جما الدعوة، ولم تفلح الاضطهادات في إيقاف تقدمها، ولم تثمر المفاوضات عن شيء.. بعد كل ذلك، أقدمت سادة قريش على استخدام أسلوب آخر، إذ اجتمعوا في حيف بني كنانة من وادي المحصب [1] ، وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على مقاطعة بني هـاشم ، وبني عبد المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا، ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم لقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم [2] .
إن المتأمل لبنود هـذه الاتفاقية، يجد أن قريشا قد أحكمت البنود، ولم تدع فيها ثغرة يمكن النفاذ من خلالها، مما يؤكد أنها وضعت بعد مداولات ومشاورات على نطاق واسع، وشاركت في وضعها عقول مفكرة، امتزجت معها خبرات عديدة، وحبكها ذكاء [ ص: 94 ] مفرط.. ولعل ذلك يتضح من خلال استعراض بنود هـذه الاتفاقية، التي حوى كل بند فيها عدة جوانب هـامة.
ففي عدم الزواج بين الطرفين جانب اجتماعي مهم، فالزواج غالبا ما يؤدي إلى التآلف، والتآخي، والتراحم والتواصل، والتزاور بين أهل الزوجين، فإذا تم شيء من ذلك، فسيؤدي إلى فشل الحصار، وحتى لا يحدث ذلك نصت الوثيقة على عدم الزواج بين الطرفين.
وجاء النهي عن البيع إليهم، والشراء منهم، وهنا يظهر جانب اقتصادي بالغ الأهمية، فالبيع والشراء عصب الحياة الاقتصادية، ويقوم عليه تبادل المنافع بين بني البشر، فإذا انعدم ذلك التعامل، انهار البناء الاقتصادي، وباتت الحياة الاقتصادية مهددة بالخطر، فيصبح الإنسان مفتقدا لضروريات، ومعلوم أثر ذلك على الجماعة والأفراد، فأرادت قريش من ذلك البند تجويع المسلمين، وهذا ما وقع فعلا، فقد جاء في الصحيح : أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلوا ورق الشجر والجلود [3] .
وكي يزيد كفار قريش من إحكام الحصار الاقتصادي على المسلمين، وضعوا بندا يسد الطريق أمام المسلمين في التعامل مع التجار الوافدين من خارج مكة، فكانوا يغالون على المسلمين في السعر حتى لا يدرك الصاحبة شيئا يشترونه، فيرجعون إلى أطفالهم، الذين يتضاغون جوعا، وليس في أيديهم شيء يعللونهم به، فكان يسمع [ ص: 95 ] بكاء الأطفال من بعيد [4] .كل هـذا التضييق بسبب البند الذي يقول : " ولا يدعوا شيئا من أسباب الرزق يصل إليهم " ، كما أن هـذا البند يفوت الحجة على من أراد أن يهدي.. شيئا لأهل الشعب، بحجة أنه لا يبيع وإنما يهدي، وحتى لا تبقى ذريعة، لإيصال الطعام إليهم تحت أي مسم، وضعت قريش هـذا البند.
والبند التالي : " ولا يقبلوا منهم صلحا " ، يسد الطريق أمام أي خيار آخر سوى تسليم محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا مجال لأنصاف الحلول عندهم.
أما البند الذي يقضي " بألا تأخذهم بهم رأفة " ، فهو بند يضع قيودا حتى على العواطف، كي لا يكون للرأفة والرحمة وجود بين أهل الصحيفة تجاه المؤمنين؛ لأن الرحمة والرأفة قد تقودان إلى فك الحصار، الذي يؤدي بدوره إلى فشل جهود قريش، وهو ما لا تهواه، لذا عملت على إبطال مفعول الرأفة بوضعها لهذا البند في الصحيفة.
وفي " عدم مجالستهم ومخالطتهم وكلامهم " ، سد لثغرة هـامة، ربما جاء من قبلها خطر على المقاطعة، والحصار؛ لأن المجالسة، والمخالطة، والكلام مع المسلمين يؤدي إلى النقاش، وتبادل الآراء ووجهات النظر، فقد يقنع المسلمون بعض أهل الصحيفة بخطأ ما هـم عليه؛ لأن المسلمين يملكون من الحق والأدلة ما يمكن أن يقنعوا بها سواهم.. وحتى لا يتم ذلك نصت الصحيفة على عدم المجالسة، والمخالطة، والكلام.
وقولهم : " لا يدخلوا بيوتهم " ، بند لا يختلف عما سبقه؛ لأن [ ص: 96 ] دخول البيوت يحرك الجوانب الإنسانية في النفس، فالإنسان عندما يرى بيتا يخلو من أبسط مقومات الحياة، وأصاب أهله الجوع والعري والمرض، ليس لذنب سوى أنهم اختاروا دينا غير دين قريش؛ لا شك أن العاطفة تتحرك عنده، ويحاول رفع هـذا الظلم، وتلك المعاناة.. وحتى لا تقع قيادة قريش في مثل هـذا الموقف، نصت على عدم دخول البيوت.
وتعليق الصحيفة في الكعبة ، يعطيها قدسية، ويجعل بنودها تأخذ طابع القداسة، التي يجب التقيد والالتزام بها، فالعرب قاطبة تقدس الكعبة، وتضع لها مكانا ساميا من الحرمة والقدسية، لذا عمدت قريش إلى تعليق الصحيفة داخل الكعبة.
موقف المسلمين من الحصار
لم تحقق المقاطعة مع هـذا الإحكام المتقن، والتنفيذ الدقيق، طوال السنوات الثلاث، الغاية التي من أجلها وضعت، وذلك لصلابة المسلمين في الحق، وعدم تنازلهم عنه مهما كانت الأسباب والنتائج، مما فوت على قريش الفرصة في الظفر بتسليم محمد صلى الله عليه وسلم لقتله، وقد كان للصبر والثبات الذي واجه به المسلمون الحصار، أثر عظيم في توهين المشركين، الذين بدأوا ينقسمون على أنفسهم، ويتساءلون عن صواب ما فعلوا، وشرع فريق منهم يعمل على إبطال هـذه المقاطعة، ونقض الصحيفة التي حوت بنود المقاطعة [5] . [ ص: 97 ]
وقد أفاد الصحابة رضي الله عنهم من ذلك الحصار عفة ونقاء وإخلاصا، فلما خرجوا فاتحين، كانت دوافع العقيدة وأهدافها هـي التي تشغل بالهم، قبل الفتح وبعده، فلم يكترثوا لذهب أو فضة، إنما عناهم إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [6] .
كما أن المقاطعة لم تؤثر على قيام المسلمين بأمر الدعوة وعرضها على كل وفد، فإن الاضطهاد لا يقتل الدعوات، بل يزيد جذورها عمقا وفروعها امتدادا. وقد كسب الإسلام أنصارا كثيرين في هـذه الفترة [7] .
ونخرج من هـذا بأن كل بلد مسلم في أي وقت، يود تطبيق شرع الله، عليه أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فأحفاد قريش من أهل الكفر مستمرون، ويتحكمون في كثير من مقدرات الأمم الأخرى، وعلى الدعاة تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هـذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها، إذا حصلت، والتفكير بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة، كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار. [ ص: 98 ]