آثـار النظـم التعليميـة الوافـدة
على مستوى نظرة الشباب إلى مجتمعاتهم
إن هـذه النظم التعليمية الوافدة، لم تتوقف آثارها على مستوى نظرة الشباب إلى الغاية من الحياة والهدف الأسمى من الوجود عند هـذا الحد، وإنما تركت ولا تزال تترك بصماتها الواضحة على نظرة الأجيال الصاعدة إلى واقعها وظروفها التي تمر بها، إذ أنها تعتقد أن التقدم والتطور مرهونان بكن الولاء لكل ما هـو غربي أو شرقي، ومرهونان بمحاكاة الغرب أو الشرق وبمسايرته، وبتمثل مبادئه وقيمه المادية، وأسلوبه في القيادة وفي الإدارة وفي التفكير والتدبير، بل إن كثيرا من الشباب الإفريقي المسلم الذين عاشوا -ولا يزالون يعيشون- ضحايا لهذه النظم، تملؤهم عقد اجتماعية وفكرية متنوعة، الأمر الذي يدفعهم عند توليهم مقاليد القيادة في مجتمعاتهم إلى التخلي عن دينهم وعن إفريقيتهم، مما يجعلهم غرباء عن الساحة وعن الواقع الإفريقي المعيش، ولعل عقدة اللغة أهم عقدة يعاني منها الشباب الإفريقي المسلم [1] . [ ص: 103 ]
فلغة المستغل هـي لغة الثقافة والصحافة والسياسة والقيادة في سائر الأقطار الإفريقية -ما عدا الدول الناطقة بالعربية- وأي امرء لا يجيد التحدث والتشدق بها، ولا التفيهق بها بطلاقة، فإنه في نظرة هـذا الجيل امرؤ متخلف غبي عديم الوزن والقيمة والاعتبار، بغض النظر عن أي اعتبار آخر.. وليس ثم اختلاف بين المؤرخين حول هـذه الظاهرة الجلية، التي لا تحتاج إلى بذل جهد لإدراكها في حياة أولئك المثقفين.
إن النظم التعليمية الوافدة قد فطنت لهذا الأمر، وجعلت من لغات المستغلين المغتصبين لغة الحضارة والتقدم والتطور، ومفتاح الاستنارة والعبقرية والتفوق، قصد ربط الشباب المثقف مرجعيا وفكريا واجتماعيا بثقافة المستغلين المستعمرين، فإن أراد قراءة أو مطالعة أو بحثا، فليس أمامه من خيار سوى أن يلوذ بالمراجع والمصادر المكتوبة بتلك اللغات، بل إن أراد تفهم شيء من دينه، أو استقاء معرفة عن قضية من قضايا دينه، فعليه أن يرجع إلى المصادر والمراجع التي صنفها غير مفكري دينه وعلمائه، الأمر الذي يورثه فهما كليلا لمبادئ دينه ومقاصده وكلياته، ويصيره ينظر إلى دينه بمنظار أسياده الذين راموا من تأليف هـذه المؤلفات عن الإسلام صرف هـذه الأجيال عن هـذا الدين، وتبغيضهم فيه عن طريق تشويه تعاليمه، والدس على مبادئه، [ ص: 104 ] والافتراء على غاياته ومقاصده الكبرى في تحقيق السعادة والرفاهة للأفراد والمجتمعات في كل عصر وفي كل مصر.
وأما انبهار الأجيال التي صنعتها هـذه النظم بالحياة الغربية وفنونها وأساليبها في السياسة والقيادة، فذلك أمر لا يحتاج إلى أي استدلال، ولا إلى برهنة. ولعل تحمس تلك الأجيال لتبني النظام الديمقراطي، على الطريقة الغربية أو الشرقية، وتمثله في واقع القارة، مما يؤكد حرص هـذه الأجيال على محاكاة وتقليد الغرب تقليدا أعمى، فبدلا من الاستفادة من مبدأ الديمقراطية بشكل عام، والنظر في سبل تطبيقها تطبيقا ملائما لأوضاع القارة وتركيباتها العرقية والقبلية، ومواكبا لظروفها، بدلا من كل ذلك ظهرت موجات الاحتجاج والمظاهرات المطالبة بالديمقراطية على النمط الغربي، وقد كانت نتيجة هـذه المحاكاة والتقليد الأجوف، مزيدا من التمزقات والحروب العرقية، والانقسامات الفئوية والمصلحية، ومزيدا من حالات اللا استقرار، والاضطرابات المتواصلة، التي لم تسلم بقعة من القارة من آثار هـذا التقليد المتسرع.
ومهما يكن من شيء، فإن المقام لا يتسع لسرد آثار هـذه النظم على تدين الشباب الإفريقي المسلم، وعلى نظرته المغشوشة إلى أسباب التقدم والتطور، إضافة إلى آثاره على غربته عن واقعه، وعيشه مع عقد [ ص: 105 ] نفسية واجتماعية وفكرية وأخلاقية، وعليه فإن صفوة القول هـي: أن هـذه النظم الوافدة هـي المسئولة مسئولية مباشرة عن ظروف القارة الاستثنائية الصعبة المريرة، وهي التي تقف عثرة في سبيل أي تقدم أو تطور تتطلع إليه القارة، وما لم يتم مراجعتها جذريا، فتجاوزها، ثم استبدالها بخير منهـا، فإن القـارة لن تسعـد باستقـرار ولا بتطـور، ولا تقدم في الأمد القريب، وما ذلك إلا لأن هـذه النظم غريبة على القارة من حيث مرجعياتها التي توجه حياة المتعلمين، وتؤثر فيهم في المستقبل، وغريبة من حيث أهدافها التي لا تنسجم مع طبيعة القارة ولا مع تركيباتها العرقية والسكانية، وغريبة أيضا من حيث عدم ملاءمتها ومواكبتها للواقع المعيش، لعدم تلبيتها لضروريات القارة وحاجاتها، الأمر الذي يبرر الدعوة إلى الاستغناء عنها، وتبديلها بنظام تعليمي آخر يصدر عن مرجعية واقعية ملائمة، ويهدف إلى تحقيق أهداف سامية واضحة جلية، ويخاطب واقعا قائما مشاهدا، مما يجعله ملائما ومواكبا للأحداث والظروف.
ومهما يكن من شيء، فإنه يمكننا أن نلخص أهم آثار هـذه النظم على الشباب الإفريقي في النقاط التالية:
أ - الفهم المقلوب للدين بصفة عامة، وللدين الإسلامي بصفة خاصة.. وهذا الفهم المقلوب المغشوش جعل الشباب الإفريقي المسلم [ ص: 106 ] (المثقف ثقافة مستوردة) ، يتبرأ من قيومية الإسلام على الحياة، ومن كونه نظاما متكاملا وموجها لسائر جوانب الحياة الإنسانية، بل إن هـذا الفهم المغلوط للدين أورث الشباب قناعة بأن التفكر في صلاحية الدين (الإسلام) كنظام حياة، لا يعدو أن يكون انتكاسا وارتكاسا ورجعية، ومدعاة إلى التخلف والتأخر والتمزق.
- ونتيجة لذلك الفهم المقلوب، غدا الشباب لا يفرق بين الوحي الإلهي المنزل لهداية البشرية جمعاء، وبين الدين الكنسي الذي افتعل صراعا بغيضا بين العلم والدين في القرون الوسطى في أوربا، ولم يعد الشباب المسلم يجد حرجا في الدعوة إلى تبني علمانية التعليم والسياسة والاجتماع والفكر وسائر جوانب الوجود.
جـ - سيادة قيم التخلف واستيلائها على ألباب الشباب، ولعل أكثر هـذه القيم انتشارا قيم الأنانية والحقد، والفوضى واللامبالاة، والقبلية، والمحسوبية وسوء استغلال المناصب، والرشوة، والفساد على جميع مستوياته، إضافة إلى الكسل وحب الراحة والدعة، والعيش في كنف الآخرين عالة.
د - ونتيجة لسيادة وتمكن تلك القيم، فإن قيم التحضر والتقدم تكاد أن تكون كبريتا أحمر في واقع القارة، ولعل أهم تلك القيم قيم [ ص: 107 ] النظام والانضباط، وحسن الإدارة والقيادة والعمل والشعور بالمسئولية، والأمانة وإتقان العمل، فهذه القيم شبه معدومة في جل أقطار القارة.
ه - الانبهار بكل ما هـو غربي أو شرقي، فالشباب المسلم معجب كل الإعجاب بالحضارة الغالبة (الغرب) ، وهذا الانبهار أورثهم الشعور بالهزيمة الداخلية، وبجملة من العقد الفكرية والنفسية والاجتماعية، الأمر الذي صيرهم غرباء عن القارة، عاجزين عن حلول مشاكلها وأزماتها دونما استعانة بغرب أو شرق، والحال أن الغرب والشرق ينظران إلى تنمية القارة أو تقدمها كبوار وكساد لتنميته وتقدمه، مما يدفعه إلى سلوك شتى السبل لإعاقة وعرقلة أي مشروع تقدمي أو تنموي.
هذا غيض من فيض من آثار النظم التعليمية الوافدة على الشباب الإفريقي المسلم، والتي لا تزال تفعل فعلتها، وتلعب دورها في تعميق تخلف القارة، وانتعاش الظروف الاستثنائية في أكثر ربوعها، الأمر الذي يجعل البحث عن بديل حضاري لهذه النظم، حديثا مشروعا وملحا وغاية في الأهمية.. وإذ ذلك كذلك، فما هـو السبيل إلى محو هـذه الآثار وإزالتها من حياة الشباب ؟ بل ما هـي الوسيلة لإعداد جيل آخر من الشباب مختلف تمام الاختلاف عن الأجيال السابقة، التي اكتوت بنار هـذه النظم واعتنقتها جملة وتفصيلا؟ [ ص: 108 ]