- علم الفلك في الحديث
ولله در نبي الإسلام؛ فهو قد أبطل التنجيم الخرافي وأقر الفلك العلمي، فأنقذ العقل البشري من التخبط، ووجهه إلى ما ينبغي له أن يجتهد فيه. وهذا توجيه معرفي -أو بلغة اليوم: أبستمولوجي- عظيم، لم يعرف في الغرب [ ص: 97 ] إلا منذ قرون قليلة؛ إذ من المعروف أن ظهور فن التنجيم عرقل تطور علم الفلك، وكان الفصل بينهما الشرط الأول لتتقدم المعرفة الكونية [1] .
وقد أخذ المسلمون بهذا التوجيه النبوي، فميزوا بين التنجيم؛ أو علم التأثير، وبين الفلك؛ أو علم التسيير [2] . ولما سئل الحافظ البغدادي عن النجوم وضع في ذلك رسالة صدرها بقوله: «إن علم النجوم يشتمل على ضربين؛ أحدهما: مباح، وتعلمه فضيلة. والآخر: محظور، والنظر فيه مكروه. فأما الضرب الأول، فهو العلم بأسماء الكواكب ومناظرها ومطالعها ومساقطها والاهتداء بها، وانتقال العرب عن مياهها لأوقاتها، وتخيرهم الأزمان لنتاج مواشيها وضرابهم الفحول، ومعرفتهم بالأمطار على اختلافها، واستدلالهم على محمودها ومذمومها، والتوصل إلى جهة القبلة بالنجوم، ومعرفة مواقيت الصلاة وساعات الليل بظهورها وأفولها. وقد جاء كثير من ذلك في كتاب الله عز وجل ، وفي الآثار عن رسول الله، وعن أخيار الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من العلماء الخالفين» [3] . ثم قال: «وأما الضرب الثاني؛ وهو المحظور: فهو ما يدعيه المنجمون من الأحكام» [4] . ولكثير من المحدثين مثل هـذا الكلام، وبعضه نفيس ككلام الخطابي، لولا خشية الطول لنقلته هـنا [5] . [ ص: 98 ] ومما يروى في فضل علم الفلك عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحب عباد الله إلى الله رعاء الشمس والقمر...» وفي: رواية «خيار عباد الله ) [6] . أي يلاحظون الشمس والقمر ويتتبعونهما؛ ليستخلصوا مواقيت التعبد.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا طلع النجم، ارتفعت العاهة عن كل بلد ) . ( وفي لفظ: «إذا طلعت الثريا أمن الزرع من العاهة ) [7] . [ ص: 99 ] قال الطحاوي : المقصود برفع العاهة عنه هـو: ثمار النخل [8] . وذكر المناوي أن ذلك في العشر الأواسط من أيار، فآنذاك يبدو صلاح الثمرة في الغالب، فيجوز البيع والادخار [9] . والمقصود أن الحديث يقر الاستفادة من ظواهر السماء والتعويل عليها في شئون الناس على الأرض.
بل إن السنة حفظت لنا كلاما عزيزا للنبي صلى الله عليه وسلم يكشف فيه عن قاعدة من قواعد التوقعات الجوية؛ فقد أورد الإمام مـالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة ) [10] . ومعناه كما قال السيوطي : أنه إذا ظهرت سحابة من ناحية البحر، ثم أخذت اتجاه الشام، فسيكون ماؤها مطرا، أياما لا يقلع [11] . وهذا الحديث هـو أحد بلاغات الموطأ الأربعة، ومقتضى كلام العلماء في أسانيده أنه حسن [12] . [ ص: 100 ] وقد يعترض على هـذه الأخبار بما صح ( عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه ، قال: صلى لنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل. فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته. فذلك مؤمن بي، وكافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا وكذا. فذلك كافر بي، ومؤمن بالكوكب ) [13] .
ومعنى النوء : طلوع نجم، وغروب ما يقابله، أحدهما في المشرق والآخر بالمغرب، وكانوا يعتقدون أنه لا بد عنده من مطر أو ريح ينسبونه إلى الطالع أو الغارب [14] .
وفقه الحديث هـو كما قال المازري : «من اعتقد أن لا خالق إلا الله سبحانه، ولكن جعل في بعض الاتصالات من الكواكب دلالة على وقوع المطر من خلقه تعالى عادة جرت في ذلك، فـلا يكفر بهذا... والظن بمن قال من العوام: هـذا نوء الثريا... ونوء الراعي... أنه إنمـا يريد هـذا المعنى» [15] . وإنما جاءت الآثار بالتغليظ فيه؛ لأن العرب كانت تزعم أن ذلك المطر من فعل النجم، ولا يجعلونه من سقي الله تعالى [16] . [ ص: 101 ] ولهذا كان مالك دقيقا في هـذا الموضوع؛ فقد عقد في الموطأ بابا للاستمطار بالنجوم، بدأه بحديث زيد في النوء؛ لتصحيح العقيدة، وإثبات شمول فعل الله تعالى لكل شـيء، ثم ثنى بحديث: ( إذا أنشأت بحرية... ) كأنه يريد أن هـذا المعتقد لا يمنع دراسة الظواهر الجوية وتوقعها. وأخيرا ختم بخبر: " كان أبو هـريرة يقـول إذا أصبح وقد مطر الناس: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو قوله تعالى:
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ) (فاطر:2 " . وذلك للدلالة على أن استعمال لفظة النوء -وما يشبهها- غير ممنوع متى سلم الاعتقاد والتوحيد. [ ص: 102 ]