الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    معلومات الكتاب

                    استشراف المستقبل في الحديث النبوي

                    الدكتور / إلياس بلكا

                    النبوة بلاغ لا كشف للمغيبات

                    وأصل هـذه المطالب من المشركين للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام ما حفلت به التصورات البشرية الجاهلية عن طبيعة النبوة؛ إذ كان الناس ينتظرون ممن يدعي النبوة خوارق كثيرة؛ كالتنبؤ بالغيب والتأثير في النواميس الكونية أو تغييرها. حتى اختلطت النبوة بالسحر والكهانة والعرافة [1] .

                    بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينف فقط عن نفسه مشاركة الله تعالى في معرفة الغيوب، بل نفى عنها حتى معرفة الغيب القريب منها، أعني الغيب الذي يتعلق مباشرة به عليه الصلاة والسلام : ( قل لا أملك لنفسي [ ص: 38 ] نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) (الأعراف:188) ؛

                    قال الزمخشري : أي لو كنت أعلم الغيب «لكانت حالي على خلاف ما هـي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافـع واجتـناب السـوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخرى في الحروب، ورابحا وخاسرا في التجارات، ومصيبا ومخطئا في التدابير» [2] .

                    وهذا كما قال ابن عاشور : «ارتقاء في التبرؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم» [3] .

                    فهو إخبار «عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام نحو معرفة الغيب؛ ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة، إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك، وإعلاما للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه، ولذلك نفى عن نفسه معرفة أحواله المغيبة، فضلا على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلا ما شاء الله. وجعل نفي أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا مقدمة لنفي العلم بالغيب؛ لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة الغيب هـو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة؛ بتهيئة أسبابها وتقريبها، وإلى التجنب لمواقع الأضرار، فنفى أن يملك لنفسه نفعا [ ص: 39 ] ولا ضرا يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل؛ وهو من الغيب» [4] .

                    قال ابن عاشور رحمه الله: «والاستدلال على انتفاء علمه بالغيب بانتفاء الاستكثار من الخير، وتجنب السوء استدلال بأخص ما لو علم المرء الغيب لعلمه، أول ما يعلم؛ وهو الغيب الذي يهم نفسه، ولأن الله لو أراد إطلاعه على الغيب لكان القصد من ذلك إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون إطلاعه على ما فيه راحته أول ما ينبغي إطلاعه عليه، فإذا انتفى ذلك كان انتفاء غيره أولى. ودليل التالي -في هـذه القضية الشرطية- هـو المشاهدة من فوات خيرات دنيوية لم يتهيأ لتحصيلها وحصول أسواء دنيوية، وفيه تعريض لهم إذ كانوا يتعرضون له بالسوء»[5] .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية