- النهي عن اللو
من عيون الكلام النبوي الذي يوجهنا إلى منهج التعاطي النفسي الإيجابي مع الزمـان بأحداثه الواقعـة والمحتملة ( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير؛ احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل؛ فإن «لو» تفتح عمل الشيطان ) [1] . ( وفي روايات أخرى: «لا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل. أو فقل: قدر الله وما شاء الله... وفي بعضها: «إياك واللو ) [2] .
وشرح أبو العباس القرطبي هـذا الحديث، قال: «أي استعمل الحرص والاجتهاد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك. ولا تفرط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه متكلا على القدر، فتنسب للتقصير، وتلام على التفريط شرعا وعادة... وقوله: ( وإن أصابك... ) ؛ يعني: إن الذي يتعين بعد وقوع المقدور التسليم لأمر الله، [ ص: 110 ] والرضا بما قدره الله تعالى، والإعراض عن الالتفات لما مضى وفات، فإن افتكر فيما فاته من ذلك جاءته وساوس الشيطان» [3] .
- الاتفاق على أن ظاهر الحديث غير مراد:
قال الطحاوي : «لو» ليست مكروهة في كل الأشياء؛ إذ ذكرها الله في كتابه وذكرها رسوله [4] . وحديث سليمان يدل على ذلك؛ لأن ( الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «فلو قال: إن شاء الله، لم يحنث ) . وهذا كما قال القرطبي : «دليل على جواز قول: لو، ولولا، بعد وقوع المقدور. وقد وقع من ذلك مواضع كثيرة في الكتاب والسنة وكلام السلف» [5] . جمع البخاري بعضها من الحديث خاصة وبوب: باب: ما يجوز من اللو [6] . وأظن هـذا إجماعا، ولو خالف فيه أحد لاشك أنه مخطئ، إلا أن الأصل -كما يقول ابن حجر - هـو المنع، والجواز استثناء [7] . لذا قال عياض : «الذي عندي في هـذا الحديث أن النهي فيه على وجهه عموما، لكن على طريق الندب والتنـزيه» [8] . [ ص: 111 ]
- التمني وحكمه
ومسألة الـ «لو» هـذه فرع باب أكبر هـو التمني، الذي عقد له بعض الحفاظ كالبخـاري كتابا أو بابا. وظواهر النصوص فيه متعارضة، قال عز من قائل:
( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ) (النساء:32) .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل... ) الحديث [9] . ومن وجـوه الجمـع بينها ما قاله ابن حجر : «التمني إرادة تتعلق بالمستقبل، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهي مطلوبة، وإلا فهي مذمومة» [10] . لذلك فحين ذكر سليمان عليه السلام أنه سيطوف على نسائه ليحملن أبناء يجاهدون في سبيل الله، فإن ذلك كان -كما قال ابن الجوزي - من جنس التمني على الله والسؤال له عز وجل أن يفعل [11] .
ويبـدو لي أن الله تعالى إذ لم يجب نبيه فليس لعتابه على التمنـي، كما فهم ذلك بعض العلماء [12] ؛ بل لأن الله سبحـانه أدبه على ترك الاستثناء، ولو أنه فعل لجـاءوا كلهم [ ص: 112 ] -كما نطق بذلك نبينا- فرسانا مجاهدين. فالقاعدة إذن هـي جواز تمني الحـلال، وعـدم جـواز تمني الحرام [13] . لهذا يجـوز قول «لو» في تمني الخير مطلقا [14] .
- متى لا يجوز استعمال «لو»
والذي تحصل عندي من كلام العلماء حالات:
1 - إذا كان القـائل ذاهلا عن القـدر ومعتمدا على الأسباب فقط، كما حكى الله سبحانه عن المنافقين قولهم:
( لو أطاعونا ما قتلوا ) (آل عمران:168) [15] . وذلك أن التوكل واجب على كل مسلم، وإن اختلفت درجاته بين الناس، وهذه الحالة أشبه بالتكذيب بالقدر.
2 - إذا جاء في سيـاق معارضة القـدر؛ كأنه يقول: لو أني فعلت كذا لاندفع ما قدر عـلي. قال المحـدث الكشمـيري : لا تستعمل «لو» إذا أوهمت رد التقـدير [16] . وذكر ابن القيـم اعتراضا ثـم أجـاب عنه جـوابا حسـنا: «إن قيـل ليس في هـذا رد القـدر ولا جحـد لـه، [ ص: 113 ] إذ تلك الأسباب التي تمناها أيضا من القدر، فهو يقول: لو وفقت لهذا القدر لا ندفع به عني ذلك القدر. قيل: هـذا حق، ولكن هـذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه. أما إذا وقع فلا سبيل إلى دفعه. وإن كان له سبيل إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر، فهو أولى به من قوله: لو كنت فعلته. بل وظيفته في هـذه الحالة أن يستقبل فعـله الذي يدفع به أو يخفف أثر ما وقع، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض، والله يلوم على العجز ويحب الكيس» [17] .
3 - إذا تعلق بالماضي، أو بتعبير الطحاوي : بما فات من مصالح ومنافع [18] . ولذلك قال ابن تيمية : إن التمني على الأفعال الماضية لا يناسب عند الشرع [19] .
ولعل القـارئ يلاحظ أن الوجهين الثـاني والثالث متقاربان، وقد اجتهدت أن أجمـع بينهما في وجـه واحـد، فوجدت فيما كتبه القـاضي عياض ما يمـكن اعتباره قاعدة في حصر الحالات التي لا يقال فيها: «لو». [ ص: 114 ]
- ضابط ما يجوز وما لا يجوز من الـ «لو»
الضابط في ذلك زماني، فما كان من الماضي الذي ذهب الأصل فيه كراهة -أو حرمة- استعمال لو، وما هـو من المستقبل وتحت الإمكان فالأصل فيه الجواز. قال عياض : «الذي يفهم من ترجمة البخاري وما أدخل من القرآن والآثار في الباب من: لو ولولا، أنه يجوز استعمـاله فيمـا يكون من الاستقبال وتحت قدرة الإنسان، وهو ما امتنع من فعله لامتناع غيره، وهو باب: لو، أو امتنـع من فعـله لوجـود غيره، وهو باب: لولا؛ لأنه لم يدخل في بابه سوى ما هـو للاستقبال من الآي والآثار، وما هـو حق وصحيح متيقن» [20] .
فإذا تعلق الأمر بالمستقبل، ولم يعترض فيه على القـدر، فـلا كراهة في استخدام لو؛ لأن المرء هـنا يخبر عما يعتقـد أنه كان يفعـله لولا المانع له، وما في قدرته فعله. وما انقضى وذهب ليس في القدرة ولا في الإمكان فعله، فلا يلتفت إليه [21] . ويقول القرطبـي في السياق نفسه: «محل النهي عن إطلاقها -أي: لو- إنما هـو فيما إذا أطلقت في معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المـانع لو ارتفـع لوقع خـلاف المقدور. فأما لو أخبر [ ص: 115 ] بالمانـع على جهة أن تتعـلق به فائـدة في المستقبـل فلا يختـلف في جواز إطـلاقه» [22] .
- أسلوب السيناريو في الدراسات المستقبلية:
من هـذا يمكن أن نستنتـج جواز طريقة السيناريو (أو المشهد) التي تستعمـل بكثرة في الدراسـات المستقبـلية، فهي تقوم على حصر جميـع ما يمكن تصوره من احتمالات المستقبل، أو أبرزها، ثم التفكر في تحديد آثارها، بحيث تكون بين أيدينا مستقبلات متعددة، وهذا مفيد جدا في اتخاذ القرار الأنسب [23] .
واختلاف الحكم باختلاف الزمن وارد في الشريعة وكثير فيها؛ من ذلك: تمني الموت. فهذا منهي عنه، وهو أمنية تتعلق بالمستقبل، والأحاديث فيه مشهورة [24] .
لكن إذا نـزل الموت بالمسلم في الحال أمر بالرضا والفرح بالقدوم على الرب سبحانه. بل أقول: حتى بعض الآثار التي ظاهرها قول لو عن الماضي، يمكن -أو يجب- حمـلها على المستقـبل؛ أي أن الرسول [ ص: 116 ] عليه الصلاة والسلام يخـبرنا عن الماضي ظـاهرا، ولكنه واقعا يرشدنا إلى ما ينبغي فعـله في المستقبل. ومن أحسن أمثـلة هـذا الباب قوله: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت ) [25] .
- «لو» في اليمين بين الماضي والمستقبل:
وهذا مطرد في الشريعة الإسلامية؛ ( فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هـو خير وكفر عن يمينك ) [26] . كأنه يقول: لا تتعلل بأن هـذا من الماضي الذي عقدته فلا حيلة لي فيه، فقد فتحت لك بابا لتغييره. فالشارع يسمح بتغيير الاجتهاد في أمور الدين والدنيا، بحسب ما يلوح من مستجدات قد تعدل من تقييمنا للمستقبل، حتى لو حلف الإنسان -والحلف بالله تعالى أمر عظيم- فإن الشرع يرخص لنا في ترك مقتضى اليمين ولا يلزمنا بأدائه، فهذا درس في منع الجمود على الرأي الواحد أو النظر الواحد. وإنما شرعت الكفارة مراعاة لحق الله تعالى وواجب تعظيمه في القلوب. [ ص: 117 ]
- النهي عن الـ «لو» تحرير لرهائن الماضي
إن مقصـود النهي عن اللو تحرير الإنسان من الماضي وقيوده، وتوجيه طاقته ونظره إلى المستقـبل. لا يريد الإسـلام أن يكون المرء أسيرا لزمن انقضى بل يريده مقبلا على المستقبل ووعوده. ويعرف علم النفس الحديث نوعا من الناس يمكن أن أسميهم بـ: «أسرى الماضي»، فحياتهم كلها عبارة عن اللو ومحكومة به. فكأن الماضي استغرقهم حتى فقدوا الصلة بالحاضر والإحسـاس بالمستقبل، بل قد يقع هـذا لمجتمعات أو مجموعات بشرية بأكملها، وذلك حين تعجز عن التعامل الإيجابي مع الماضي ووقائعه [27] . [ ص: 118 ]