وقال يعني به كفار هذه الأمة مقاتل: لما ليوفينهم ربك أعمالهم أي أجزيه أعمالهم، ولام ليوفينهم واقعة في جواب القسم، أي والله ليوفينهم، و(لما) بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر وحمزة وحفص، وأبي جعفر، وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة، واختلفوا في تخريجها فقال المبرد: إن أصل (لما) هذه لما منونا، وقد قرئ كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لممته إذا جمعته، ولا يقال إنها (لما) المنونة وقف عليها بالألف، وأجري الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان: إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه لا يعرف بناء فعلى من لم، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع، وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاء الله تعالى. أبو عبيدة:
وقيل: (لما) المخففة وشددت في الوقف ثم أجري الوصل مجرى الوقف، وحينئذ فالإعراب ما ستعرفه أيضا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدا، وقيل: إنها بمعنى إلا، وإلا تقع زائدة كما في قوله: حلفت يمينا غير ذي مثنوية يمين امرئ إلا بها غير آثم
فلا يبعد أن (لما) التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا، وعن المازني أن أن المشددة هنا نافية، و(لما) بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تثقيل أن النافية، ولنصب -كل- والنافية لا تنصب، وقال الحوفي: (إن) على ظاهرها، و(لما) بمعنى إلا كما في قولك: نشدتك بالله إلا فعلت، وضعفه بأن (لما) هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق؛ وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو علي إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت: إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا، وقيل: إن (لما) هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان، وإلى هذا ذهب أبو حيان: المهدوي، وقال وتبعه جماعة منهم الفراء: نصر الشيرازي: إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله، وقد جاء هذا الأصل في قوله:
وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة على رأسه تلقى اللسان من الفم
واللام على هذين الوجهين قيل: موطئة للقسم، ونقل عن الفارسي -وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة- من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو: والله لئن أكرمتني لأكرمتك، وليس ما دخلت عليه جواب القسم، بل ما يأتي بعدها، وكان مذهبه كمذهب أنه لا يجب دخولها على الشرط، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا، وقيل: إنها اللام الداخلة في خبر إن، ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر، والقسم وجوابه صلة أو صفة، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربك، ومن ومجرورها على الوجه الثاني [ ص: 150 ] في موضع الخبر لأن، والجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك، قال في البحر: وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال، وفي تفسير القاضي وغيره إن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، وفيه أيضا ما فيه، ففي المغني إن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت انتهى، وقال الأخفش الدماميني: كيف يستقيم تعليل الحذف بالاستثقال وقد اجتمعت في قوله تعالى: (على أمم ممن معك) ثماني ميمات انتهى، وأنشد على ما ذهب إليه قول الشاعر: الفراء
وإني لما أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
إذا قلت: سيروا إن ليلى لعلها جرى دون ليلى مائل القرن أعضب
وقال الجلبي: وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل: إنه دال عليه وليس بذاك، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه وقرأ الفراء، نافع أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل، ولا يضر زوال الشبه اللفظي، وإلى ذلك ذهب البصريون، وذكر وابن كثير أن مذهبهم جواز أعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، ونقل عن أبو حيان منهم أنه قال: أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول: إن عمرا لمنطلق. سيبويه
وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل، وتأول الآية بجعل (كلا) منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلا مثلا وليس بشيء، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين، وفي الارتشاف إن الكوفيين [ ص: 151 ] لا يجوزون تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق، و (كلا) اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن، والجملة القسمية وجوابها صلة، وإلى هذا ذهب الفراء، واختار في اللام مذهبه، وفي (ما) كونها نكرة موصوفة، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه؛ وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع، وقرأ الطبري عن أبو بكر بتخفيف إن وتشديد لما، وقرأ عاصم الكسائي بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكر في تخريج القراءتين قبل، وقرأ وأبو عمرو أبي، بخلاف عنه، والحسن وأبان بن تغلب، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد، وخرجت على أن أن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره، و (لما) بمعنى إلا أي ما كل إلا أقسم والله ليوفينهم، وأنكر مجيء (لما) بمعنى إلا في كلام العرب، وقال أبو عبيدة إن جعلها هنا بمعنى إلا وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا وإلا قمت عنا، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلا لا في نثر ولا في شعر؛ ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلا زيدا ولا التفات إلا إنكارهما، والقراءة المتواترة في الفراء: وإن كل لما جميع لدينا محضرون ، و إن كل نفس لما عليها حافظ تثبت ما أنكراه.
وقد نص الخليل وسيبويه على مجيء ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكون العرب خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه. والكسائي
وقرأ الزهري، وسليمان بن أرقم (وإن كلا لما) بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم: لممت الشيء إذا جمعته كما مر ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في ليوفينهم عند وضعفه. أبي البقاء
وقال إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة، وكان المصدر حينئذ بمعنى اسم المفعول، وذكر أبو علي: في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل: وإن كلا جميعا كقوله تعالى: الزمخشري فسجد الملائكة كلهم أجمعون وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد.
وقال إنها منصوبة –بليوفينهم- على حد قولهم: قياما لا أقومن، والتقدير توفية جامعة لأعمالهم ابن جني: ليوفينهم وخبر ( إن في ذلك ) جملة القسم وجوابه، وروى أن في مصحف أبو حاتم وإن من كل إلا ليوفينهم وخرج على أن أن نافية ومن زائدة. أبي
وقرأ نحو ذلك إلا أنه أسقط من وهو حرف الأعمش رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر، قيل: وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين ابن مسعود إنه بما يعملون خبير أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، والجملة قيل: توكيد للوعد والوعيد، فإنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة، وحينئذ تتأتى توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
[ ص: 152 ] وقرأ (تعملون) على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ابن هرمز