وأخرج عن ابن جرير ابن عباس أنها ومجاهد مكة، وروي هذا عن ابن زيد وقتادة وعطية، وأخرج وغيره عن ابن أبي حاتم سليم بن عمر قال: صحبت زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من حفصة مكة إلى المدينة فأخبرت أن قد قتل فرجعت وقالت: ارجعوا بي فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله تعالى وتلت ما في الآية، ولعلها أرادت أنها مثلها ويمكن حمل ما روي عن الخبر ومن معه على ذلك، والمعنى جعلها الله تعالى مثلا لأهل عثمان مكة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فجوزوا بما جوزوا، ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا. ولعله المختار كانت آمنة قيل: ذات أمن لا يأتي عليها ما يوجب الخوف كما يأتي على بعض القرى من إغارة أهل الشر عليها وطلب الإيقاع بها مطمئنة ساكنة قارة لا يحدث فيها ما يوجب الانزعاج كما يحدث في بعض القرى من الفتن بين أهاليها ووقوع بعضهم في بعض فإنها قلما تأمن من إغارة شرير عليها وهيهات هيهات أن ترى شخصين متصادقين فيها:
والمرء يخشى من أبيه وابنه ويخونه فيها أخوه وجاره
وقيل: يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث إن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان، وفي البحر أنه زيادة في الأمن يأتيها رزقها أقواتها رغدا واسعا من كل مكان من جميع نواحيها، وغير أسلوب هذه الصفة عما تقدم إلى ما ترى لما أن إتيان الرزق متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر، وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم:
ثلاثة ليس لها نهايه الأمن والصحة والكفايه
فآمنة إشارة إلى الأمن (ومطمئنة) إلى الصحة (ويأتيها رزقها) إلخ إلى الكفاية، وجعل سبب الاطمئنان ملاءمة هواء البلد لأمزجة أهله وفيه تأمل فكفرت بأنعم الله جمع نعمة كشدة وأشد على ترك الاعتداد بالتاء لأن المطرد جمع فعل على أفعل لا فعلة، وقال الفاضل اليمني: اسم جمع للنعمة، وقطرب: جمع نعم بضم النون كبؤس وأبؤس، والنعم عنده بمعنى النعيم، وحمل على ذلك قولهم: هذا يوم طعم ونعم، وعند غيره بمعنى النعمة، والمراد بالنعم ما تضمنته الآية قبل ولعله في قوة نعم كثيرة بل هو كذلك، وفي إيثار جمع القلة إيذان بأن كفران نعم قليلة أوجبت هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) [ ص: 243 ] شبه أثر الجوع والخوف وضررهما الغاشي باللباس بجامع الإحاطة والاشتمال فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارة للإصابة، وأوثرت للدلالة على شدة التأثير التي تفوت لو استعملت الإصابة، وبينوا العلاقة بأن المدرك من أثر الضرر شبه بالمدرك من طعم المر البشع من باب استعارة محسوس لمعقول لأن الوجدانيات لزت في قرن العقليات، وكذا يقال في الأول، ولشيوع استعمال الإذاقة في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة ولذا جعل إيقاعها على اللباس تجريدا، فإن التجريد إنما يحسن أو يصح بالحقيق أو ما ألحق بها من المجاز الشائع، فلا فرق في هذا بين أذاقها إياه وأصابها به، وإنما لم يقل: فكساها إيثارا للترشيح لئلا يفوت ما تفيده الإذاقة من التأثير والإدراك وطعم الجوع لما في اللباس من الدلالة على الشمول. وصاحب المفتاح حمل اللباس على انتفاع اللون ورثاثة الهيئة اللازمين للجوع والخوف، والاستعارة حينئذ من باب استعارة المحسوس للمحسوس، وما ذكر أولا أولى إذ لا يجل موقع الإذاقة وتكون الإصابة أبلغ موقعا.
ونقل عن الأصحاب أن لفظ اللباس عندهم تخييل، وبين ذلك بأن يشبه الجوع والخوف في التأثير بذي لباس قاصد للتأثير مبالغ فيه فيخترع له صورة كاللباس ويطلق عليها اسمه واعترض بأن ذلك لا يلائم بلاغة القرآن العظيم لأن الجوع إذا شبه بالمؤثر القاصد الكامل فيما تولاه ناسب أن تخترع له صورة ما يكون آلة للتأثير لا صورة اللباس الذي لا مدخل له فيه، وتعقب بأن صاحب المفتاح يرى أن التخييلية مستعملة في أمر وهمي توهمه المتكلم شبيها بمعناه الحقيقي فاللباس إذا كان تخييلا يجوز أن يكون المراد به أمرا مشتملا على الجوع اشتمال اللباس كالقحط ومشتملا على الخوف كإحاطة العدو فلا وجه لقوله: صورة اللباس مما لا دخل له في التأثير، والقول بأنه لا يناسب مع الفاعل إلا ذكر الآلة للتأثير مما لم يصرح به أحد من القوم ولا يتأتى التزامه في كل مكنية، ألا تراك لو قلت: مسافة القريض ما زال يطويها حتى نزل ببابه على تشبيه المدح بمسافر ثبت له المسافة تخييلا وما بعده ترشيح كانت استعارة حسنة وليس قرينتها آلة لذلك الفاعل بل أمر من لوازمه، ومثله كثير في كلام البلغاء انتهى.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يفيد عند صحيح التخيل تمييز ما نقل عن الأصحاب على ما ذكر أولا ولا مساواته له، والمشهور أن في ( لباس ) استعارتين تصريحية ومكنية، وبين ذلك بأن شبه ما غشي الإنسان عند الجوع والخوف من أثر الضرر من حيث الاشتمال باللباس فاستعير له اسمه ومن حيث الكراهة بالطعم المر البشع فيكون استعارة مصرحة نظرا إلى الأول ومكنية إلى الثانية وتكون الإذاقة تخييلا، وفيه بحث مشهور بين الطلبة، وجوز أن يكون لباس الجوع كلجين الماء أي أذاقها الله الجوع الذي هو في الإحاطة كاللباس، والأول أيضا أولى، ومثل ذلك قول كثير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال
فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبة صون الرداء. لما يلقي عليه وأضاف إليه الغمر وهو في وصف المعروف استعارة جرت مجرى الحقيقة وحقيقته من الغمرة وهي معظم الماء وكثرته، وتقديم الجوع الناشئ من فقدان الرزق على ( الخوف ) المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بين ذلك وبين إتيان الرزق.
وفي مصحف «لباس الخوف والجوع» بتقديم الخوف، وكذا قرأ أبي عبد الله إلا أنه لم يذكر اللباس وعد ذلك تفسيرا لا قراءة، وروى أبو حيان عن العباس أنه قرأ «والخوف» بالنصب عطفا على ( لباس ) [ ص: 244 ] وجعله أبي عمرو على حذف مضاف وإقامة المضاف مقامه أي ولباس الخوف. الزمخشري
وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، وفي مقابلة ما تقدم بالجوع والخوف فقط ما يشير إلى عد الأمن والاطمئنان كالشيء الواحد وإلا فكان الظاهر فأذاقها الله لباس الجوع والخوف والانزعاج بما كانوا يصنعون فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور، وما موصولة والعائد محذوف أي يصنعونه، وجوز أن تكون مصدرية والباب على الوجهين بسببية والضميران قيل: عائدان على- أهل- المقدر المضاف إلى القرية بعد ما عادت الضمائر السابقة إلى لفظها، وقيل: عائدات إلى القرية مرادا بها أهلها.
وفي إرشاد العقل السليم أسند ما ذكر إلى أهل القرية تحقيقا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة، وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران الصنيعة صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة ولقد جاءهم من تتمة التمثيل، والضمير فيه عائد على من عاد إليه الضميران قبله، وجيء بذلك لبيان أن ما صنعوه من كفران الله تعالى لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله تعالى على الخلق أيضا أي ولقد جاء أهل تلك القرية رسول منهم أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم بسوء عاقبة ما هم عليه فكذبوه في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر، فالفاء فصيحة وعدم ذكر ما أفصحت عنه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم فأخذهم العذاب المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا منه ما سمعت وهم ظالمون أي حال التباسهم بالظلم وهو الكفران والتكذيب غير مقلعين عنه بما ذاقوا من المقدمات الزاجرة عنه، وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد.
وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أو لهم ولمن سار سيرتهم كافة أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب فقد كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم ولا يمر ببالهم طيف من الخوف ولا يزعج قط قلوبهم مزعج وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول تحار في إدراك سمو مرتبة العقول صلى الله تعالى عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله تعالى وكذبوه عليه الصلاة والسلام فأذاقهم الله تعالى لباس الجوع والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى الله تعالى عليه وسلم « يوسف ». اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني
ما أصابهم من جدب شديد وأزمة ما عليها مزيد فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحروقة والعلهز وهو طعام يتخذ في سني المجاعة من الدم والوبر وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا ما اختاره شيخ الإسلام وقال: إنه الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام، وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى: ولقد جاءهم لأهل مكة والكلام انتقال إلى ذكر حالهم صريحا بعد ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد [ ص: 245 ] صلى الله تعالى عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل عن التحقيق كيف لا