ولما [كان] بين كونه صلى الله عليه وسلم أبا لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتما منافاة قال: ولكن كان في علم الله غيبا وشهادة أنه رسول الله الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية، أما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم [ ص: 364 ] عليه تلك البنوة شيئا من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوقير والطاعة وحرمة الأزواج، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم [منه] فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به، وقد بلغكم قوله تعالى: ادعوهم لآبائهم ووظيفة الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر، فهو لا يدعو أحدا من رجالكم بعد هذا ابنه.
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافيا لأبوة الرجال قال: وخاتم النبيين أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، فلا يولد بعده من يكون نبيا، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد [يولد منه] مبلغ الرجال، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكراما له [لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفا، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلا لكان نبيا بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكراما له]، روى أحمد عن وابن ماجه وعن أنس رضي الله عنهما ابن عباس إبراهيم: "لو عاش لكان صديقا نبيا" ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابنه نحوه عن [ ص: 365 ] وللبخاري رضي الله عنه، البراء بن عازب من حديث وللبخاري ابن أبي أوفى رضي الله عنه: لو قضى أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه، ولكن لا نبي بعده. والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقا ولا يتجدد بعده أيضا استنباء نبي مطلقا، فقد آل الأمر إلى أن التقدير: ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه [كان] - مع أنه رسول الله - ختاما للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتما على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة [الإدلاء بأنثى أو] كونه رسولا وخاتما، صونا لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان [ذلك] بشر لم يكن إلا ولدا له، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف [بها] إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائنا من كان، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام وأما [ ص: 366 ] تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئا منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قرره من يريد الله من العلماء، فيعود الاستبصار [كما روي في بعض الآثار] "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" وأما إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضي الله عنه لجميع ما وهن من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة يأجوج ومأجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن ما نقل عن رضي الله عنه في مرثيته حسان بن ثابت لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:
مضى ابنك محمود العواقب لم يشب ... بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل
رأى أنه إن عاش ساواك في العلا
... فآثر أن يبقى وحيدا بلا مثل
وقال رحمه الله في آخر كتابه الاقتصاد: إن الأمة فهمت من هذا اللفظ - أي لفظ هذه الآية - ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبدا، وعدم رسول بعده أبدا، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص، وقال: إن من أوله بتخصيص النبيين [ ص: 367 ] بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه من أنواع الهذيان، لا يمنع الحكم بتكفيره، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه: الغزالي
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام [غير] قادح في هذا النص، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته، وهو قد كان نبيا قبله لم يستجد له شيء لم يكن، [فلم يكن] ذلك قادحا في الختم وهو مثبت لشرف نبينا صلى الله عليه وسلم، ولولا هو لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخا لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كان المقام في هذا البت بأنه لا يكون له ولد يصير رجلا مقام إحاطة العلم، كان التقدير: لأنه سبحانه أحاط علما بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد ذكر فيصير رجلا وكان الله [أي] الذي له كل صفة كمال أزلا وأبدا بكل شيء [ ص: 368 ] من ذلك وغيره عليما فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر: واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علما وصفة برهان جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع [عنده] وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام. انتهى. وقد بينت في سورة النحل أن [مدار] مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية.