[ ص: 16 ] فصل
في بيان
nindex.php?page=treesubj&link=28741وجه الدلالة على أن القرآن معجز
قد ثبت بما بينا في الفصل الأول أن نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - مبنية على دلالة معجزة القرآن . فيجب أن نبين وجه الدلالة من ذلك :
قد ذكر العلماء أن الأصل في هذا هو : أن يعلم أن القرآن ، الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف ، هو الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه هو الذي تلاه على من في عصره ثلاثا وعشرين سنة .
والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر ، الذي يقع عنده العلم الضروري به .
وذلك أنه قام به في المواقف ، وكتب به إلى البلاد ، وتحمله عنه إليها من تابعه ، وأورده على غيره ممن لم يتابعه . حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد ، ولا يخيل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه ، ويأخذه على غيره ، ويأخذه غيره على الناس ، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها ، وتعدى إلى الملوك المصاقبة لهم ، كملك
الروم والعجم والقبط والحبش ، وغيرهم من ملوك الأطراف .
ولما ورد ذلك مضادا لأديان أهل ذلك العصر كلهم ، ومخالفا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة في الكفر - وقف جميع أهل الخلاف على جملته ، ووقف جميع أهل دينه الذين أكرمهم الله بالإيمان على جملته وتفاصيله ، وتظاهر بينهم ، حتى حفظه الرجال ، وتنقلت به الرحال ، وتعلمه الكبير والصغير ؛ إذ كان عمدة دينهم ، وعلما عليه ، والمفروض تلاوته في صلواتهم ، والواجب استعماله في أحكامهم .
[ ص: 17 ] ثم تناقله خلف عن سلف هم مثلهم في كثرتهم وتوفر دواعيهم على نقله ، حتى انتهى إلينا ، على ما وصفناه من حاله .
فلن يتشكك أحد ، ولا يجوز أن يتشكك ، مع وجود هذه الأسباب ، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى . فهذا أصل .
وإذا ثبت هذا الأصل وجودا ، فإنا نقول : إنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله ، وقرعهم على ترك الإتيان به ، طول السنين التي وصفناها ، فلم يأتوا بذلك . وهذا أصل ثان .
والذي يدل على هذا الأصل : أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين .
وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=14فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون .
فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه ، ودليلا على وحدانيته .
وذلك يدل عندنا على
nindex.php?page=treesubj&link=18626_28658بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن تعلم بالقرآن الوحدانية ، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل ؛ لأن القرآن كلام الله - عز وجل - ، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا .
فقلنا : إذا ثبت بما نبينه إعجازه ، وأن الخلق لا يقدرون عليه - ثبت أن الذي أتى به غيرهم ، وأنه إنما يختص بالقدرة عليه من يختص بالقدرة عليهم ، وأنه صدق . وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقا ، وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل امتنع أن يعرف من طريق القرآن ، بل
[ ص: 18 ] يمكن عندنا أن يعرف من الوجهين .
وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل ؛ لأنه خارج عن مقصود كلامنا ، ولكنا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه .
ومن ذلك قوله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه ، ولم يأتوا بمثله .
وفي هذا أمران : أحدهما التحدي إليه . والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل . والذي يدل على ذلك النقل المتواتر الذي يقع به العلم الضروري ، فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين .
وإن قال قائل : لعله لم يقرأ عليهم الآيات التي فيها ذكر التحدي ، وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن - : كان ذلك قولا باطلا ، يعلم بطلانه بمثل ما يعلم به بطلان قول من زعم أن القرآن أضعاف هذا ! وهو يبلغ حمل جمل ! وأنه كتم ، وسيظهره [
المهدي ! ! !
أو يدعي أن هذا القرآن ليس هو الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما هو شيء وضعه
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر أو
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان - رضي الله عنهما - ، حيث وضع المصحف .
أو يدعي فيه زيادة أو نقصانا .
وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه ، ووعده الحق .
وحكاية قول من قال ذلك يغني عن الرد عليه . لأن العدد الذين أخذوا القرآن في الأمصار وفي البوادي ، وفي الأسفار والحضر ، وضبطوه حفظا ،
[ ص: 19 ] من بين صغير وكبير ، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف - لا يجوز عليهم السهو والنسيان ، ولا التخليط فيه والكتمان .
ولو زادوا أو نقصوا أو غيروا لظهر . وقد علمت أن شعر
امرئ القيس وغيره - على أنه لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن ، ولا أن يحفظ كحفظه ، ولا أن يضبط كضبطه ، ولا أن تمس الحاجة إليه إمساسها إلى القرآن - لو زيد فيه بيت ، أو نقص منه بيت ، لا ، بل لو غير فيه لفظ - لتبرأ منه أصحابه ، وأنكره أربابه .
فإذا كان ذلك مما لا يمكن أن يكون في شعر
امرئ القيس ونظرائه ، مع أن الحاجة إليه تقع لحفظ العربية ، فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه في القرآن ، مع شدة الحاجة إليه في الصلاة التي هي أصل الدين ، ثم في الأحكام والشرائع ، واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه :
فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها ، وصحة أدائها .
ومنهم من يحفظه للشرائع والفقه .
ومنهم من يضبطه ليعرف تفسيره ومعانيه .
ومنهم من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة .
ومن الملحدين من يحصله لينظر في عجيب شأنه .
وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة والآراء المتباينة - على كثرة أعدادهم ، واختلاف بلادهم ، وتفاوت أغراضهم - أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان ؟ !
ويبين ذلك : أنك إذا تأملت ما ذكر في أكثر السور مما بينا ، ومن نظائره في رد قومه عليه ورد غيرهم ، وقولهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=31لو نشاء لقلنا مثل هذا وقول بعضهم : إن ذلك سحر ، وقول بعضهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=7ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق إلى الوجوه التي يصرف إليها قولهم في الطعن عليه .
[ ص: 20 ] فمنهم من يستهين بها ويجعل ذلك سببا لتركه الإتيان بمثله .
ومنهم من يزعم أنه مفترى ، فلذلك لا يأتي بمثله .
ومنهم من يزعم أنه دارس ، وأنه أساطير الأولين .
وكرهنا أن نذكر كل آية تدل على تحديه ، لئلا يقع التطويل .
ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما لجاز على كله . ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا لجاز ذلك في كله .
فثبت بما بيناه أنه تحداهم به ، وأنهم لم يأتوا بمثله . وهذا الفصل قد بينا أن الجميع قد ذكروه وبنوا عليه .
فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم بعده أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه .
والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن : أنه تحداهم إليه حتى طال التحدي ، وجعله دلالة على صدقه ونبوته ، وضمن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذريتهم ، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا ، وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه ، بأمر قريب ، هو عادتهم في لسانهم ، ومألوف من خطابهم ، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال ، وإكثار المراء والجدال ، وعن الجلاء عن الأوطان ، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي .
فلما لم تحصل هناك معارضة منهم ، علم أنهم عاجزون عنها .
يبين ذلك أن العدو يقصد لدفع قول عدوه بكل ما قدر عليه من المكايد ، لا سيما مع استعظامه ما بدهه بالمجيء من خلع آلهته ، وتسفيه رأيه في ديانته ، وتضليل آبائه ، والتغريب عليه بما جاء به ، وإظهار أمر يوجب الانقياد لطاعته ، والتصرف على حكم إرادته ، والعدول عن إلفه وعادته ، والانخراط في سلك الأتباع بعد أن كان متبوعا ، والتشييع بعد
[ ص: 21 ] أن كان مشيعا ، وتحكيم الغير في ماله ، وتسليطه إياه على جملة أحواله ، والدخول تحت تكاليف شاقة ، وعبادات متعبة ، بقوله ، وقد علم أن بعض هذه الأحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه .
هذا ، والحمية حميتهم ، والهمم الكبيرة هممهم ، وقد بذلوا له السيف فأخطروا بنفوسهم وأموالهم . فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرد عليه وإلى تكذيبه بأهون سعيهم ومألوف أمرهم ، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين ، أو ينقطع دونه وتين ، أو يشتمل به خاطر ، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به ، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها متطلع ، والرتبة التي ليس فوقها منزع ؟ !
ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره ، وتكذيب قوله ، وتفريق جمعه ، وتشتيت أسبابه ، وكان من صدق به يرجع على أعقابه ، ويعود في مذهب أصحابه .
فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك ، مع طول المدة ، ووقوع الفسحة ، وكان أمره يتزايد حالا فحالا ، ويعلو شيئا فشيئا ، وهم على العجز عن القدح في آيته ، والطعن بما يؤثر في دلالته - علم مما بينا أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته ، ولا على توهين حجته .
وقد أخبر الله تعالى عنهم : أنهم
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58قوم خصمون وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=97وتنذر به قوما لدا ، وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=4خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين .
وعلم أيضا ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن ، مما حكى الله - عز وجل - عنهم من قولهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=31لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين وقولهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=36ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا [ ص: 22 ] بهذا في آبائنا الأولين وقالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=6يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون وقالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=3أفتأتون السحر وأنتم تبصرون وقالوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=36أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ، وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=4وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=8وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=91الذين جعلوا القرآن عضين .
إلى آيات كثيرة في نحو هذا ، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم ، متعجبين من عجزهم ، يفزعون إلى نحو هذه الأمور : من تعليل وتعذير ، ومدافعة بما وقع التحدي إليه ، ووجد الحث عليه .
وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب ، وجاهدوه ونابذوه ، وقطعوا الأرحام ، وأخطروا بأنفسهم ، وطالبوه بالآيات والإتيان بالملائكة وغير ذلك من المعجزات ، يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من الوجوه .
فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم - وذلك يدحض حجته ، ويفسد دلالته ، ويبطل أمره - فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة ، ويتركون الأمر الخفيف ؟ !
هذا مما يمتنع وقوعه في العادات ، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء .
وإلى هذا الموضع قد استقصى أهل العلم الكلام ، وأكثروا في هذا المعنى وأحكموه .
ويمكن أن يقال : إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به ، لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة ، وهم على ما هم عليه من
[ ص: 23 ] الذرابة والسلاقة ، والمعرفة بوجوه الفصاحة ؛ وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته ، وأنهم يضعفون عن مجاراته . ويكرر فيما جاء به ذكر عجزهم عن مثل ما يأتي به ، ويقرعهم ويؤنبهم عليه ، ويدرك آماله فيهم ، وينجح ما سعى له في تركهم المعارضة .
وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه ، وتفخيم أمره ، حتى يتلو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هدى للمتقين ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله .
إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن . فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع منها ، ومنها ما ينفرد فيها . وذلك مما يدعوهم إلى المباراة ، ويحضهم على المعارضة ، وإن لم يكن متحديا إليه .
ألا ترى أنهم قد ينافر شعراؤهم بعضهم بعضا ؟ ولهم في ذلك مواقف معروفة ، وأخبار مشهورة ، وآثار منقولة مذكورة . وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة ، ويتبجحون بذلك ، ويتفاخرون بينهم .
[ ص: 24 ] فلن يجوز - والحال هذه - أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها ، تحداهم أو لم يتحدهم إليها .
ولو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر ، لوجب في ذلك أمر آخر ، وهو : أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به ، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه ، وتعمل نظمه في الحال .
فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق ، وخطبة متقدمة ، ورسالة سالفة ، ونظم بديع ، ولا عارضوه به فقالوا : هذا أفصح مما جئت به وأغرب منه أو هو مثله - علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل ، وأنه لم يوجد له نظير .
ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا ، ولعرفناه ، كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية ، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب ، وأدي إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد ، وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم ، وصنوف فصاحاتهم .
فإن قيل : الذي بني عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن : أنه وقع
nindex.php?page=treesubj&link=18626_20759_28899التحدي إلى الإتيان بمثله ، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه . فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب - وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه . وما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي ، وأن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال .
قيل : إنما احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة ، وإظهار وجه البرهان على الكافة . لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة بأن يدعيها من ظهرت عليه ، ولا تظهر على مدع لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله . فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة بالتحدي وجب فيها التحدي . لأنه تزول بذلك الشبهة عن الكل ، وينكشف للجميع أن العجز واقع عن المعارضة . وإلا كان مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب ، ويفتن في مصارف الكلام ، وكان كاملا في فصاحته ، جامعا للمعرفة بوجوه الصناعة - لو أنه احتج عليه بالقرآن ، وقيل له : إن الدلالة على النبوة والآية للرسالة ما تلوته عليك منه ،
[ ص: 25 ] لكان ذلك بالغا في إيجاب الحجة عليه ، وتماما في إلزامه فرض المصير إليه .
ومما يؤكد هذا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا الآحاد إلى الإسلام ، محتجا عليهم بالقرآن ، لأنا نعلم ضرورة أنه لم يلزمهم تصديقه تقليدا ، ونعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه ، إنما دخلوا على بصيرة . ولم نعلمه قال لهم : ارجعوا إلى جميع الفصحاء ، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتي .
بل لما رآهم يعلمون إعجازه ، ألزمهم حكمه فقبلوه ، وتابعوا الحق ، وبادروا إليه مستسلمين ، ولم يشكوا في صدقه ، ولم يرتابوا في وجه دلالته .
فمن كانت بصيرته أقوى ، ومعرفته أبلغ ، كان إلى القبول منه أسبق . ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز ، أو خفي عليه بعض شروط المعجزات وأدلة النبوات - كان أبطأ إلى القبول ، حتى تكاملت أسبابه ، واجتمعت له بصيرته ، وترادفت عليه مواده .
وهذا فصل يجب أن يتمم القول فيه من بعد ، فليس هذا بموضع له .
ويبين ما قلناه : أن هذه الآية علم يلزم الكل قبوله والانقياد له ؛ وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه ، ومعرفة وجه دلالته ؛ لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه . وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة . فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم ، وجرى مجراهم في توجه الحجة عليه .
وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان ، من هذا الشأن ، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة . فربما حل في ذلك محل الأعجمي ، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه .
وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده ، أو الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما - من غور هذا الشأن - ما يعرف من استكمل معرفة
[ ص: 26 ] جميع تصاريف الخطاب ووجوه الكلام وطرق البراعة . فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه لعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه .
فأما من كان متناهيا في معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة ، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه . وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه ، حتى سبر الحال بعجز أهل اللسان عنه ! وهذا خطأ من القول .
فصح من هذا الوجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أوحي إليه القرآن عرف كونه معجزا ، أو عرف - بأن قيل له : إنه دلالة وعلم على نبوتك . - أنه كذلك ، من قبل أن يقرأه على غيره أو يتحدى إليه سواه .
ولذلك قلنا : إن
nindex.php?page=treesubj&link=28899_18626_20759المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح ، متى سمع القرآن عرف أنه معجز ؛ لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه ، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه ، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو . وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر على أنه علم على نبوته ، ودلالة على رسالته بأن يقال له : إن هذه آية لنبي ، وإنها ظهرت عليه ، وادعاها معجزة له ، وبرهانا على صدقه .
فإن قيل : فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر ، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه . فكذلك البليغ ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن ، فهو يخفى عليه عجز غيره .
قيل : هو مع مستقر العادة ، وإن عجز عن قول الشعر ، وعلم أنه مفحم ، فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم .
ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن ، علم عجز غيره عنه ، وأنه كهو ، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء .
[ ص: 27 ] إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أن يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه . فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة - وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام ، وأنواع الخطاب ، ووجد القرآن مباينا لها - علم خروجه عن العادة ، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات ، فهو لا يجوزه من نفسه ، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره ، إلا على وجه نقض العادة ، بل يرى وقوعه موقع المعجزة . وهذا وإن كان يفارق فلق البحر ، وإخراج اليد البيضاء ونحو ذلك من وجه ، فهو أنه يستوي الناس في معرفة عجزهم عنه ، بكونه ناقضا للعادة ، من غير تأمل شديد ، ولا نظر بعيد . فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل ، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات ، والكشف عن أمور نحن ذاكروها بعد هذا الموضع . فكل واحد منهما يؤول إلى مثل حكم صاحبه ، في الجمع الذي قدمناه .
ومما يبين ما قلناه - : من أن البليغ المتناهي في وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن ، وتكون معرفته حجة عليه ، إذا تحدي إليه وعجز عن مثله ، وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره ، وما الذي يصنع ذلك بالغير . - فهو ما روي في الحديث
أن nindex.php?page=showalam&ids=67جبير بن مطعم ورد على النبي صلى الله عليه وسلم في معنى حليف له ، أراد أن يفاديه ، فدخل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=1والطور nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=2وكتاب مسطور في صلاة الفجر ، قال : فلما انتهى إلى قوله : nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=7إن عذاب ربك لواقع nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=8ما له من دافع ، قال : خشيت أن يدركني العذاب . فأسلم .
وفي حديث آخر : أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سمع سورة
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=1طه فأسلم .
وقد روي أن قوله - عز وجل - في أول " حم " السجدة إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=4فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون نزلت في
شيبة وعتبة ابني ربيعة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12026وأبي سفيان بن حرب ،
وأبي جهل . وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه
قريش ،
بعتبة بن ربيعة [ ص: 28 ] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليكلمه ، وكان حسن الحديث ، عجيب البيان بليغ الكلام ؛ وأرادوا أن يأتيهم بما عنده ، فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة حم السجدة ، من أولها حتى انتهى إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=13فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، فوثب مخافة العذاب ، فاستحكوه ما سمع فذكر أنه لم يفهم منه كلمة واحدة ، ولا اهتدى لجوابه .
ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرد . فقال له
nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون : لتعلموا أنه من عند الله ، إذ لم يهتد لجوابه .
وأبين من ذلك قول الله - عز وجل - :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=6وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه فجعل سماعه حجة عليه بنفسه ، فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه .
فإن قيل : لو كان كذلك على ما قلتم ، لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه .
قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن صوارفهم كانت كثيرة ، منها أنهم كانوا يشكون : ففيهم من يشك في إثبات الصانع ، وفيهم من يشك في التوحيد ، وفيهم من يشك في النبوة . ألا ترى
أن nindex.php?page=showalam&ids=12026أبا سفيان بن حرب ، لما جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسلم عام الفتح ، قال له النبي - عليه السلام - : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : بلى . فشهد ، قال : أما آن لك أن تشهد أني رسول الله ؟ قال : أما هذه ففي النفس منها شيء ؟ ! .
فكانت وجوه شكوكهم مختلفة ، وطرق شبههم متباينة : فمنهم من قلت شبهه ، وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر ، فأسلم . ومنهم من كثرت شبهه ، أو أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها ، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية ، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر ، وراعى واعتبر ، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله ، فلذلك وقف أمره .
[ ص: 29 ] ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة ، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة - لتوافوا إلى القبول جملة واحدة .
فإن قيل : فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه إعجاز القرآن ؟ وما الوجه الذي يتطرق به إليه ، والمنهاج الذي يسلكه ، حتى يقف به على جلية الأمر فيه ؟
قيل : هذا سبيله أن يفرد له فصل .
* * *
فإن قيل : فلم زعمتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات ، وتصرفهم في أجناس الفصاحات ؟ وهلا قلتم : إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه من هذه الطرق الغريبة - كان على مثل نظم القرآن قادرا ، وإنما يصرفه الله عنه ضربا من الصرف ، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضربا من المنع ، أو تقصر دواعيه إليه دونه ، مع قدرته عليه . ليتكامل ما أراده الله من الدلالة ، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة ؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين ، لم يعجز عن نظم مثلها ، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى ، وكذلك الثالثة ، حتى يتكامل قدر الآية والسورة ؟
فالجواب : أنه لو صح ذلك لصح لكل من أمكنه نظم ربع بيت ، أو مصراع من بيت - أن ينظم القصائد ويقول الأشعار ، وصح لكل ناطق - قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة - نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة ! ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن .
على أن ذلك لو لم يكن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع ، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه ، ومنع من مقدار الفصاحة في نظمه ، كان أبلغ في الأعجوبة ، إذا صرفوا عن الإتيان بمثله ، ومنعوا من معارضته ، وعدلت دواعيهم عنه ، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع ، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب .
[ ص: 30 ] على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه ، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف . لأنهم لم يتحدوا إليه ، ولم تلزمهم حجته .
فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله ، علم أن ما ادعاه القائل " بالصرفة " ظاهر البطلان .
وفيه معنى آخر ، وهو : أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاما مطمعا لم يخف عليهم ، ولم يشتبه لديهم .
ومن كان متناهيا في فصاحته لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال .
فإن قال صاحب السؤال : إنه قد يطمع في ذلك .
قيل له : أنت تزيد على هذا فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن ، وقد يزيد عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه ، ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظا ومعنى ! ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه ، ويحسبه ظان من أمره . والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد . ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب ، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطإ بين الغلط ، وأن هذا التقدير من جنس من حكى الله - تعالى - قوله في محكم كتابه :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=18إنه فكر وقدر nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فقتل كيف قدر nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=20ثم قتل كيف قدر nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=21ثم نظر nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=22ثم عبس وبسر nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=23ثم أدبر واستكبر nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=24فقال إن هذا إلا سحر يؤثر nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=25إن هذا إلا قول البشر فهم يعبرون عن دعواهم : أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله ، وأن ذلك من قول البشر ؛ لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته .
ومما يبطل ما ذكروا من القول " بالصرفة " أنه لو كانت المعارضة ممكنة - وإنما منع منها " الصرفة " - لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع هو المعجز ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه .
[ ص: 31 ] وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم : أن الكل قادرون على الإتيان بمثله ، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به .
ولا بأعجب من قول فريق منهم : إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله - تعالى - في هذا الباب ، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد .
* * *
فإن قيل : فهل تقولون بأن
nindex.php?page=treesubj&link=29785غير القرآن من كلام الله - عز وجل - معجز ، كالتوراة والإنجيل والصحف ؟
قيل : ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف ، وإن كان معجزا كالقرآن فيما يتضمن من الأخبار عن الغيوب .
وإنما لم يكن معجزا لأن الله - تعالى - لم يصفه بما وصف به القرآن ، ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن .
ولمعنى آخر ، وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ، ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز ، ولكنه يتقارب . وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة ، ويقولون : ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب . ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد ، من الأسماء ما نعرف من اللغة ، وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناوله العربية ، وكذلك التصرف في الاستعارات والإشارات ، ووجوه الاستعمالات البديعة ، التي يجيء تفصيلها بعد هذا .
ويشهد لذلك من القرآن : أن الله تعالى وصفه بأنه :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بلسان عربي مبين . وكرر ذلك في مواضع كثيرة ، وبين أنه رفعه عن أن يجعله أعجميا .
فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته ، لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة . وأنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله : إنه عربي مبين ، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم ، ولا يحتاجون في تفسيره إلى سواهم ، فلا يمتنع أن يفيد ما قلناه أيضا ، كما أفاد بظاهره ما قدمناه .
ويبين ذلك أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة ، وهم من أهل
[ ص: 32 ] البراعة فيها ، وفي العربية ، فقد وقفوا على أنه ليس فيها من التفاضل والفصاحة ، ما يقع في العربية . ومعنى آخر ، وهو أنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم ، ولا ادعى لهم المسلمون . فعلم أن الإعجاز مما يختص به القرآن .
ويبين هذا أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة ، على ما قد اتفق في العربية . وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة ، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتى في العربية . وكذلك لا يتأتى في الفارسية جميع الوجوه التي تتبين فيها الفصاحة ، على ما يتأتى في العربية .
فإن قيل : فإن المجوس تزعم أن كتاب
زرادشت ، وكتاب
ماني معجزان ؟
قيل : الذي يتضمنه كتاب
ماني ، من طرق النيرنجات ، وضروب من الشعوذة ، ليس يقع فيها إعجاز . ويزعمون أن في الكتاب الحكم ، وهي حكم منقولة ، متداولة على الألسن ، لا تختص بها أمة دون أمة ، وإن كان بعضهم أكثر اهتماما بها ، وتحصيلا لها ، وجمعا لأبوابها .
وقد ادعى قوم أن
nindex.php?page=showalam&ids=16420 " ابن المقفع " عارض القرآن ، وإنما فزعوا إلى " الدرة " و " التليمية " . وهما كتابان : أحدهما يتضمن حكما منقولة ، توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل . فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى .
والآخر في شيء من الديانات ، وقد تهوس فيه بما لا يخفى على متأمل .
وكتابه الذي بيناه في الحكم ، منسوخ من كتاب
بزرجمهر في الحكمة . فأي صنع له في ذلك ؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به ؟
وبعد ، فليس يوجد له كتاب يدعي مدع أنه عارض فيه القرآن ، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ، ثم مزق ما جمع ، واستحيا لنفسه من إظهاره . فإن كان كذلك ، فقد أصاب وأبصر القصد ، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ثم يلوح له رشده ، ويتبين له أمره ، وينكشف له عجزه . ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه ، لم يخف علينا موضع غفلته ، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته .
ومتى أمكن أن تدعي
الفرس في شيء من كتبها أنه معجز في حسن تأليفه ، وعجيب نظمه ؟
[ ص: 16 ] فَصْلٌ
فِي بَيَانِ
nindex.php?page=treesubj&link=28741وَجْهِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ
قَدْ ثَبَتَ بِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْنِيَّةٌ عَلَى دَلَالَةِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ . فَيَجِبُ أَنْ نُبَيِّنَ وَجْهَ الدَّلَالَةِ مِنْ ذَلِكَ :
قَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا هُوَ : أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ ، الَّذِي هُوَ مَتْلُوٌّ مَحْفُوظٌ مَرْسُومٌ فِي الْمَصَاحِفِ ، هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَلَاهُ عَلَى مَنْ فِي عَصْرِهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً .
وَالطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ هُوَ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ ، الَّذِي يَقَعُ عِنْدَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِهِ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَامَ بِهِ فِي الْمَوَاقِفِ ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى الْبِلَادِ ، وَتَحَمَّلَهُ عَنْهُ إِلَيْهَا مَنْ تَابَعَهُ ، وَأَوْرَدَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُتَابِعْهُ . حَتَّى ظَهَرَ فِيهِمُ الظُّهُورَ الَّذِي لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يُخَيَّلُ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مَنْ أَتَى بِقُرْآنٍ يَتْلُوهُ ، وَيَأْخُذُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَيَأْخُذُهُ غَيْرُهُ عَلَى النَّاسِ ، حَتَّى انْتَشَرَ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كُلِّهَا ، وَتَعَدَّى إِلَى الْمُلُوكِ الْمُصَاقِبَةِ لَهُمْ ، كَمَلِكِ
الرُّومِ وَالْعَجَمِ وَالْقِبْطِ وَالْحَبَشِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ .
وَلَمَّا وَرَدَ ذَلِكَ مُضَادًّا لِأَدْيَانِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ كُلِّهِمْ ، وَمُخَالِفًا لِوُجُوهِ اعْتِقَادَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْكُفْرِ - وَقَفَ جَمِيعُ أَهْلِ الْخِلَافِ عَلَى جُمْلَتِهِ ، وَوَقَفَ جَمِيعُ أَهْلِ دِينِهِ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ عَلَى جُمْلَتِهِ وَتَفَاصِيلِهِ ، وَتَظَاهَرَ بَيْنَهُمْ ، حَتَّى حَفِظَهُ الرِّجَالُ ، وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الرِّحَالُ ، وَتَعَلَّمَهُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ ؛ إِذْ كَانَ عُمْدَةَ دِينِهِمْ ، وَعَلَمًا عَلَيْهِ ، وَالْمَفْرُوضَ تِلَاوَتُهُ فِي صَلَوَاتِهِمْ ، وَالْوَاجِبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحْكَامِهِمْ .
[ ص: 17 ] ثُمَّ تَنَاقَلَهُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ هُمْ مِثْلُهُمْ فِي كَثْرَتِهِمْ وَتَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى نَقْلِهِ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا ، عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ حَالِهِ .
فَلَنْ يَتَشَكَّكَ أَحَدٌ ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يَتَشَكَّكَ ، مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ، فِي أَنَّهُ أَتَى بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى . فَهَذَا أَصْلٌ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ وُجُودًا ، فَإِنَّا نَقُولُ : إِنَّهُ تَحَدَّاهُمْ إِلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ ، وَقَرَّعَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِتْيَانِ بِهِ ، طُولَ السِّنِينَ الَّتِي وَصَفْنَاهَا ، فَلَمْ يَأْتُوا بِذَلِكَ . وَهَذَا أَصْلٌ ثَانٍ .
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي الْمَوَاضِعِ الْكَثِيرَةِ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=24فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ .
وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مَنِ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=14فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
فَجَعَلَ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مِنْهُ ، وَدَلِيلًا عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ .
وَذَلِكَ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=18626_28658بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُعْلَمَ بِالْقُرْآنِ الْوَحْدَانِيَّةُ ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ الْكَلَامُ حَتَّى يُعْلَمَ الْمُتَكَلِّمُ أَوَّلًا .
فَقُلْنَا : إِذَا ثَبَتَ بِمَا نُبَيِّنُهُ إِعْجَازُهُ ، وَأَنَّ الْخَلْقَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ - ثَبَتَ أَنَّ الَّذِي أَتَى بِهِ غَيْرُهُمْ ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مَنْ يَخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُ صِدْقٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَا يَتَضَمَّنُهُ صِدْقًا ، وَلَيْسَ إِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ امْتَنَعَ أَنْ يُعْرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْقُرْآنِ ، بَلْ
[ ص: 18 ] يُمْكِنُ عِنْدَنَا أَنْ يُعْرَفَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ .
وَلَيْسَ الْغَرَضُ تَحْقِيقَ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ مَقْصُودِ كَلَامِنَا ، وَلَكِنَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=33أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَقَدْ ثَبَتَ بِمَا بَيَّنَّاهُ أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ .
وَفِي هَذَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا التَّحَدِّي إِلَيْهِ . وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا لَهُ بِمِثْلٍ . وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ النَّقْلُ الْمُتَوَاتِرُ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ ، فَلَا يُمْكِنُ جُحُودُ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ .
وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَعَلَّهُ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ التَّحَدِّي ، وَإِنَّمَا قَرَأَ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ - : كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بَاطِلًا ، يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِمِثْلِ مَا يُعْلَمُ بِهِ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ أَضْعَافُ هَذَا ! وَهُوَ يَبْلُغُ حِمْلَ جَمَلٍ ! وَأَنَّهُ كُتِمَ ، وَسَيُظْهِرُهُ [
اَلْمَهْدِيُّ ! ! !
أَوْ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ وَضَعَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ أَوْ
nindex.php?page=showalam&ids=7عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، حَيْثُ وُضِعَ الْمُصْحَفُ .
أَوْ يَدَّعِي فِيهِ زِيَادَةً أَوْ نُقْصَانًا .
وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ حِفْظَ كِتَابِهِ أَنْ يَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَوْ مِنْ خَلْفِهِ ، وَوَعْدُهُ الْحَقُّ .
وَحِكَايَةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ يُغْنِي عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِ . لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقُرْآنَ فِي الْأَمْصَارِ وَفِي الْبَوَادِي ، وَفِي الْأَسْفَارِ وَالْحَضَرِ ، وَضَبَطُوهُ حِفْظًا ،
[ ص: 19 ] مِنْ بَيْنِ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، وَعَرَفُوهُ حَتَّى صَارَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَرْفٌ - لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ ، وَلَا التَّخْلِيطُ فِيهِ وَالْكِتْمَانُ .
وَلَوْ زَادُوا أَوْ نَقَصُوا أَوْ غَيَّرُوا لَظَهَرَ . وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ شِعْرَ
امْرِئِ الْقَيْسِ وَغَيْرِهِ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ ظُهُورَ الْقُرْآنِ ، وَلَا أَنْ يُحْفَظَ كَحِفْظِهِ ، وَلَا أَنْ يُضْبَطَ كَضَبْطِهِ ، وَلَا أَنْ تَمَسَّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ إِمْسَاسَهَا إِلَى الْقُرْآنِ - لَوْ زِيدَ فِيهِ بَيْتٌ ، أَوْ نُقِصَ مِنْهُ بَيْتٌ ، لَا ، بَلْ لَوْ غُيِّرَ فِيهِ لَفْظٌ - لَتَبَرَّأَ مِنْهُ أَصْحَابُهُ ، وَأَنْكَرَهُ أَرْبَابُهُ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي شِعْرِ
امْرِئِ الْقَيْسِ وَنُظَرَائِهِ ، مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ تَقَعُ لِحِفْظِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَوْ يُمْكِنُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْقُرْآنِ ، مَعَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الدِّينِ ، ثُمَّ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ ، وَاشْتِمَالِ الْهِمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى ضَبْطِهِ :
فَمِنْهُمْ مَنْ يَضْبِطُهُ لِإِحْكَامِ قِرَاءَتِهِ وَمَعْرِفَةِ وُجُوهِهَا ، وَصِحَّةِ أَدَائِهَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفَظُهُ لِلشَّرَائِعِ وَالْفِقْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْبِطُهُ لِيَعْرِفَ تَفْسِيرَهُ وَمَعَانِيَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ بِحِفْظِهِ الْفَصَاحَةَ وَالْبَلَاغَةَ .
وَمِنَ الْمُلْحِدِينَ مَنْ يُحَصِّلُهُ لِيَنْظُرَ فِي عَجِيبِ شَأْنِهِ .
وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْهِمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالْآرَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ - عَلَى كَثْرَةِ أَعْدَادِهِمْ ، وَاخْتِلَافِ بِلَادِهِمْ ، وَتَفَاوُتِ أَغْرَاضِهِمْ - أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكِتْمَانِ ؟ !
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ مَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ السُّوَرِ مِمَّا بَيَّنَّا ، وَمِنْ نَظَائِرِهِ فِي رَدِّ قَوْمِهِ عَلَيْهِ وَرَدِّ غَيْرِهِمْ ، وَقَوْلِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=31لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إِنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=7مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ إِلَى الْوُجُوهِ الَّتِي يُصْرَفُ إِلَيْهَا قَوْلُهُمْ فِي الطَّعْنِ عَلَيْهِ .
[ ص: 20 ] فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَهِينُ بِهَا وَيَجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِهِ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُفْتَرًى ، فَلِذَلِكَ لَا يَأْتِي بِمِثْلِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ دَارِسٌ ، وَأَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ .
وَكَرِهْنَا أَنْ نَذْكُرَ كُلَّ آيَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَحَدِّيهِ ، لِئَلَّا يَقَعَ التَّطْوِيلُ .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مَكْتُومًا لِجَازَ عَلَى كُلِّهِ . وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مَوْضُوعًا لَجَازَ ذَلِكَ فِي كُلِّهِ .
فَثَبَتَ بِمَا بَيَّنَّاهُ أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِهِ ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ . وَهَذَا الْفَصْلُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ ذَكَرُوهُ وَبَنَوْا عَلَيْهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يُعْلَمَ بَعْدَهُ أَنَّ تَرْكَهُمْ لِلْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ كَانَ لِعَجْزِهِمْ عَنْهُ .
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ : أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى طَالَ التَّحَدِّي ، وَجَعَلَهُ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ ، وَضَمَّنَ أَحْكَامَهُ اسْتِبَاحَةَ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَسَبْيَ ذُرِّيَّتِهِمْ ، فَلَوْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى تَكْذِيبِهِ لَفَعَلُوا ، وَتَوَصَّلُوا إِلَى تَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ ، بِأَمْرٍ قَرِيبٍ ، هُوَ عَادَتُهُمْ فِي لِسَانِهِمْ ، وَمَأْلُوفٌ مِنْ خِطَابِهِمْ ، وَكَانَ ذَلِكَ يُغْنِيهِمْ عَنْ تَكَلُّفِ الْقِتَالِ ، وَإِكْثَارِ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ ، وَعَنِ الْجَلَاءِ عَنِ الْأَوْطَانِ ، وَعَنْ تَسْلِيمِ الْأَهْلِ وَالذُّرِّيَّةِ لِلسَّبْيِ .
فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلْ هُنَاكَ مُعَارَضَةٌ مِنْهُمْ ، عُلِمَ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْهَا .
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَدُوَّ يَقْصِدُ لِدَفْعِ قَوْلِ عَدُوِّهُ بِكُلِّ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَكَايِدِ ، لَا سِيَّمَا مَعَ اسْتِعْظَامِهِ مَا بَدَهَهُ بِالْمَجِيءِ مِنْ خَلْعِ آلِهَتِهِ ، وَتَسْفِيهِ رَأْيِهِ فِي دِيَانَتِهِ ، وَتَضْلِيلِ آبَائِهِ ، وَالتَّغْرِيبِ عَلَيْهِ بِمَا جَاءَ بِهِ ، وَإِظْهَارِ أَمْرٍ يُوجِبُ الِانْقِيَادَ لِطَاعَتِهِ ، وَالتَّصَرُّفَ عَلَى حُكْمِ إِرَادَتِهِ ، وَالْعُدُولَ عَنْ إِلْفِهِ وَعَادَتِهِ ، وَالِانْخِرَاطَ فِي سِلْكِ الْأَتْبَاعِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَتْبُوعًا ، وَالتَّشْيِيعِ بَعْدَ
[ ص: 21 ] أَنْ كَانَ مُشَيَّعًا ، وَتَحْكِيمَ الْغَيْرِ فِي مَالِهِ ، وَتَسْلِيطَهُ إِيَّاهُ عَلَى جُمْلَةِ أَحْوَالِهِ ، وَالدُّخُولَ تَحْتَ تَكَالِيفَ شَاقَّةٍ ، وَعِبَادَاتٍ مُتْعِبَةٍ ، بِقَوْلِهِ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِمَّا يَدْعُو إِلَى سَلْبِ النُّفُوسِ دُونَهُ .
هَذَا ، وَالْحَمِيَّةُ حَمِيَّتُهُمْ ، وَالْهِمَمُ الْكَبِيرَةُ هِمَمُهُمْ ، وَقَدْ بَذَلُوا لَهُ السَّيْفَ فَأَخْطَرُوا بِنُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَتَوَصَّلُوا إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ وَإِلَى تَكْذِيبِهِ بِأَهْوَنِ سَعْيِهِمْ وَمَأْلُوفِ أَمْرِهِمْ ، وَمَا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرَقَ فِيهِ جَبِينٌ ، أَوْ يَنْقَطِعَ دُونَهُ وَتِينٌ ، أَوْ يَشْتَمِلَ بِهِ خَاطِرٌ ، وَهُوَ لِسَانُهُمُ الَّذِي يَتَخَاطَبُونَ بِهِ ، مَعَ بُلُوغِهِمْ فِي الْفَصَاحَةِ النِّهَايَةَ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا مُتَطَلَّعٌ ، وَالرُّتْبَةَ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا مَنْزَعٌ ؟ !
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَوْ عَارَضُوهُ بِمَا تَحَدَّاهُمْ إِلَيْهِ لَكَانَ فِيهِ تَوْهِينُ أَمْرِهِ ، وَتَكْذِيبُ قَوْلِهِ ، وَتَفْرِيقُ جَمْعِهِ ، وَتَشْتِيتُ أَسْبَابِهِ ، وَكَانَ مَنْ صَدَّقَ بِهِ يَرْجِعُ عَلَى أَعْقَابِهِ ، وَيَعُودُ فِي مَذْهَبِ أَصْحَابِهِ .
فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ ، وَوُقُوعِ الْفُسْحَةِ ، وَكَانَ أَمْرُهُ يَتَزَايَدُ حَالًا فَحَالًا ، وَيَعْلُو شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَهُمْ عَلَى الْعَجْزِ عَنِ الْقَدْحِ فِي آيَتِهِ ، وَالطَّعْنِ بِمَا يُؤَثِّرُ فِي دَلَالَتِهِ - عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ ، وَلَا عَلَى تَوْهِينِ حُجَّتِهِ .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : أَنَّهُمْ
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=58قَوْمٌ خَصِمُونَ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=97وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ، وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=4خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ .
وَعُلِمَ أَيْضًا مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ مِنْ وُجُوهِ اعْتِرَاضِهِمْ عَلَى الْقُرْآنِ ، مِمَّا حَكَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=31لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَقَوْلِهِمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=36مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا [ ص: 22 ] بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ وَقَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=6يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ وَقَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=3أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وَقَالُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=36أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=4وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=5وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=8وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=91الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ .
إِلَى آيَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي نَحْوِ هَذَا ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَحَيِّرِينَ فِي أَمْرِهِمْ ، مُتَعَجِّبِينَ مِنْ عَجْزِهِمْ ، يَفْزَعُونَ إِلَى نَحْوِ هَذِهِ الْأُمُورِ : مِنْ تَعْلِيلٍ وَتَعْذِيرٍ ، وَمُدَافَعَةٍ بِمَا وَقَعَ التَّحَدِّي إِلَيْهِ ، وَوُجِدَ الْحَثُّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ عُلِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ نَاصَبُوهُ الْحَرْبَ ، وَجَاهَدُوهُ وَنَابَذُوهُ ، وَقَطَّعُوا الْأَرْحَامَ ، وَأَخْطَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ ، وَطَالَبُوهُ بِالْآيَاتِ وَالْإِتْيَانِ بِالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ ، يُرِيدُونَ تَعْجِيزَهُ لِيَظْهَرُوا عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ .
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقْدِرُوا عَلَى مُعَارَضَتِهِ الْقَرِيبَةِ السَّهْلَةِ عَلَيْهِمْ - وَذَلِكَ يَدْحَضُ حُجَّتَهُ ، وَيُفْسِدُ دَلَالَتَهُ ، وَيُبْطِلُ أَمْرَهُ - فَيَعْدِلُونَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ عَلَيْهَا مَزِيدٌ فِي الْمُنَابَذَةِ وَالْمُعَادَاةِ ، وَيَتْرُكُونَ الْأَمْرَ الْخَفِيفَ ؟ !
هَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ فِي الْعَادَاتِ ، وَلَا يَجُوزُ اتِّفَاقُهُ مِنَ الْعُقَلَاءِ .
وَإِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَدِ اسْتَقْصَى أَهْلُ الْعِلْمِ الْكَلَامَ ، وَأَكْثَرُوا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَحْكَمُوهُ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَّفِقَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْمُعَارَضَةِ ، وَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ
[ ص: 23 ] الذَّرَابَةِ وَالسَّلَاقَةِ ، وَالْمَعْرِفَةِ بِوُجُوهِ الْفَصَاحَةِ ؛ وَهُوَ يَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مُبَارَاتِهِ ، وَأَنَّهُمْ يَضْعُفُونَ عَنْ مُجَارَاتِهِ . وَيُكَرِّرُ فِيمَا جَاءَ بِهِ ذِكْرَ عَجْزِهِمْ عَنْ مِثْلِ مَا يَأْتِي بِهِ ، وَيُقَرِّعُهُمْ وَيُؤَنِّبُهُمْ عَلَيْهِ ، وَيُدْرِكُ آمَالَهُ فِيهِمْ ، وَيَنْجَحُ مَا سَعَى لَهُ فِي تَرْكِهِمُ الْمُعَارَضَةَ .
وَهُوَ يَذْكُرُ فِيمَا يَتْلُوهُ تَعْظِيمَ شَأْنِهِ ، وَتَفْخِيمَ أَمْرِهِ ، حَتَّى يَتْلُوَ قَوْلَهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ، وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=2يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ، وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=44وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=2هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ، وَقَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهُ .
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ شَأْنِ الْقُرْآنِ . فَمِنْهَا مَا يَتَكَرَّرُ فِي السُّورَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا ، وَمِنْهَا مَا يَنْفَرِدُ فِيهَا . وَذَلِكَ مِمَّا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُبَارَاةِ ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَدِّيًا إِلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ يُنَافِرُ شُعَرَاؤُهُمْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مَوَاقِفُ مَعْرُوفَةٌ ، وَأَخْبَارٌ مَشْهُورَةٌ ، وَآثَارٌ مَنْقُولَةٌ مَذْكُورَةٌ . وَكَانُوا يَتَنَافَسُونَ عَلَى الْفَصَاحَةِ وَالْخَطَابَةِ وَالذَّلَاقَةِ ، وَيَتَبَجَّحُونَ بِذَلِكَ ، وَيَتَفَاخَرُونَ بَيْنَهُمْ .
[ ص: 24 ] فَلَنْ يَجُوزَ - وَالْحَالُ هَذِهِ - أَنْ يَتَغَافَلُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ لَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهَا ، تَحَدَّاهُمْ أَوْ لَمْ يَتَحَدَّهُمْ إِلَيْهَا .
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَبِيلُ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ ، لَوَجَبَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْدُورًا لِلْعِبَادِ لَكَانَ قَدِ اتَّفَقَ إِلَى وَقْتِ مَبْعَثِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُعَارِضُوهُ بِهِ ، وَكَانُوا لَا يَفْتَقِرُونَ إِلَى تَكَلُّفِ وَضْعِهِ ، وَتَعَمُّلِ نَظْمِهِ فِي الْحَالِ .
فَلَمَّا لَمْ نَرَهُمُ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِكَلَامٍ سَابِقٍ ، وَخُطْبَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ ، وَرِسَالَةٍ سَالِفَةٍ ، وَنَظْمٍ بَدِيعٍ ، وَلَا عَارَضُوهُ بِهِ فَقَالُوا : هَذَا أَفْصَحُ مِمَّا جِئْتَ بِهِ وَأَغْرَبُ مِنْهُ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ - عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ ، وَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ .
وَلَوْ كَانَ وُجِدَ لَهُ مِثْلٌ لَكَانَ يُنْقَلُ إِلَيْنَا ، وَلَعَرَفْنَاهُ ، كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا أَشْعَارُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَلَامُ الْفُصَحَاءِ وَالْحُكَمَاءِ مِنَ الْعَرَبِ ، وَأُدِّيَ إِلَيْنَا كَلَامُ الْكُهَّانِ وَأَهْلِ الرَّجَزِ وَالسَّجْعِ وَالْقَصِيدِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ بَلَاغَاتِهِمْ ، وَصُنُوفِ فَصَاحَاتِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي تَثْبِيتِ مُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ : أَنَّهُ وَقَعَ
nindex.php?page=treesubj&link=18626_20759_28899التَّحَدِّي إِلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، وَأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْهُ بَعْدَ التَّحَدِّي إِلَيْهِ . فَإِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ وَعَرَفَ وَجْهَ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فِي هَذَا الْبَابِ - وَجَبَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْهُ . وَمَا ذَكَرْتُمْ يُوجِبُ سُقُوطَ تَأْثِيرِ التَّحَدِّي ، وَأَنَّ مَا أَتَى بِهِ قَدْ عُرِفَ الْعَجْزُ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ .
قِيلَ : إِنَّمَا احْتِيجَ إِلَى التَّحَدِّي لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَإِظْهَارِ وَجْهِ الْبُرْهَانِ عَلَى الْكَافَّةِ . لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ إِذَا ظَهَرَتْ فَإِنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً بِأَنْ يَدَّعِيَهَا مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ ، وَلَا تَظْهَرُ عَلَى مُدَّعٍ لَهَا إِلَّا وَهِيَ مَعْلُومَةٌ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . فَإِذَا كَانَ يَظْهَرُ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهَا لِلْكَافَّةِ بِالتَّحَدِّي وَجَبَ فِيهَا التَّحَدِّي . لِأَنَّهُ تَزُولُ بِذَلِكَ الشُّبْهَةُ عَنِ الْكُلِّ ، وَيَنْكَشِفُ لِلْجَمِيعِ أَنَّ الْعَجْزَ وَاقِعٌ عَنِ الْمُعَارَضَةِ . وَإِلَّا كَانَ مُقْتَضَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْفَصْلِ أَنَّ مَنْ كَانَ يَعْرِفُ وُجُوهَ الْخِطَابِ ، وَيَفْتَنُّ فِي مَصَارِفِ الْكَلَامِ ، وَكَانَ كَامِلًا فِي فَصَاحَتِهِ ، جَامِعًا لِلْمَعْرِفَةِ بِوُجُوهِ الصِّنَاعَةِ - لَوْ أَنَّهُ احْتُجَّ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ ، وَقِيلَ لَهُ : إِنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالْآيَةَ لِلرِّسَالَةِ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْهُ ،
[ ص: 25 ] لَكَانَ ذَلِكَ بَالِغًا فِي إِيجَابِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ ، وَتَمَامًا فِي إِلْزَامِهِ فَرْضَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ .
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ دَعَا الْآحَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ ، مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ ، لِأَنَّا نَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُمْ تَصْدِيقَهُ تَقْلِيدًا ، وَنَعْلَمُ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يُقَلِّدُوهُ ، إِنَّمَا دَخَلُوا عَلَى بَصِيرَةٍ . وَلَمْ نَعْلَمْهُ قَالَ لَهُمُ : ارْجِعُوا إِلَى جَمِيعِ الْفُصَحَاءِ ، فَإِنْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فَقَدْ ثَبَتَتْ حُجَّتِي .
بَلْ لَمَّا رَآهُمْ يَعْلَمُونَ إِعْجَازَهُ ، أَلْزَمَهُمْ حُكْمَهُ فَقَبِلُوهُ ، وَتَابَعُوا الْحَقَّ ، وَبَادَرُوا إِلَيْهِ مُسْتَسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَشُكُّوا فِي صِدْقِهِ ، وَلَمْ يَرْتَابُوا فِي وَجْهِ دَلَالَتِهِ .
فَمَنْ كَانَتْ بَصِيرَتُهُ أَقْوَى ، وَمَعْرِفَتُهُ أَبْلَغَ ، كَانَ إِلَى الْقَبُولِ مِنْهُ أَسْبَقَ . وَمَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْإِعْجَازِ ، أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ شُرُوطِ الْمُعْجِزَاتِ وَأَدِلَّةِ النُّبُوَّاتِ - كَانَ أَبْطَأَ إِلَى الْقَبُولِ ، حَتَّى تَكَامَلَتْ أَسْبَابُهُ ، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ بَصِيرَتُهُ ، وَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِ مَوَادُّهُ .
وَهَذَا فَصْلٌ يَجِبُ أَنْ يُتَمَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ مِنْ بَعْدُ ، فَلَيْسَ هَذَا بِمَوْضِعٍ لَهُ .
وَيُبَيِّنُ مَا قُلْنَاهُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَمٌ يَلْزَمُ الْكُلَّ قَبُولُهُ وَالِانْقِيَادُ لَهُ ؛ وَقَدْ عَلِمْنَا تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي إِدْرَاكِهِ ، وَمَعْرِفَةِ وَجْهِ دَلَالَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُعْجِزٌ إِلَّا بِأَنْ يَعْلَمَ عَجْزَ الْعَرَبِ عَنْهُ . وَهُوَ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَى أُمُورٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ صَنْعَةِ الْفَصَاحَةِ . فَإِذَا عَرَفَ عَجْزَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ حَلَّ مَحَلَّهُمْ ، وَجَرَى مَجْرَاهُمْ فِي تَوَجُّهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَا يَعْرِفُ الْمُتَوَسِّطَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ ، مِنْ هَذَا الشَّأْنِ ، مَا يَعْرِفُهُ الْعَالِي فِي هَذِهِ الصَّنْعَةِ . فَرُبَّمَا حَلَّ فِي ذَلِكَ مَحَلَّ الْأَعْجَمِيِّ ، فِي أَنْ لَا تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ حَتَّى يَعْرِفَ عَجْزَ الْمُتَنَاهِي فِي الصَّنْعَةِ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يَعْرِفُ الْمُتَنَاهِي فِي مَعْرِفَةِ الشِّعْرِ وَحْدَهُ ، أَوِ الْغَايَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْخُطَبِ أَوِ الرَّسَائِلِ وَحْدَهُمَا - مِنْ غَوْرِ هَذَا الشَّأْنِ - مَا يَعْرِفُ مَنِ اسْتَكْمَلَ مَعْرِفَةَ
[ ص: 26 ] جَمِيعِ تَصَارِيفِ الْخِطَابِ وَوُجُوهِ الْكَلَامِ وَطُرُقِ الْبَرَاعَةِ . فَلَا تَكُونُ الْحُجَّةُ قَائِمَةً عَلَى الْمُخْتَصِّ بِبَعْضِ هَذِهِ الْعُلُومِ بِانْفِرَادِهَا دُونَ تَحَقُّقِهِ لِعَجْزِ الْبَارِعِ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ كُلِّهَا عَنْهُ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي مَعْرِفَةِ وُجُوهِ الْخِطَابِ وَطُرُقِ الْبَلَاغَةِ وَالْفُنُونِ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا إِظْهَارُ الْفَصَاحَةِ ، فَهُوَ مَتَى سَمِعَ الْقُرْآنَ عَرَفَ إِعْجَازَهُ . وَإِنْ لَمْ نَقُلْ ذَلِكَ أَدَّى هَذَا الْقَوْلُ إِلَى أَنْ يُقَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْرِفْ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ ، حَتَّى سَبَرَ الْحَالَ بِعَجْزِ أَهْلِ اللِّسَانِ عَنْهُ ! وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْقَوْلِ .
فَصَحَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُوحِيَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ عَرَفَ كَوْنَهُ مُعْجِزًا ، أَوْ عَرَفَ - بِأَنْ قِيلَ لَهُ : إِنَّهُ دَلَالَةٌ وَعَلَمٌ عَلَى نُبُوَّتِكَ . - أَنَّهُ كَذَلِكَ ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يَتَحَدَّى إِلَيْهِ سِوَاهُ .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28899_18626_20759الْمُتَنَاهِيَ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْعِلْمِ بِالْأَسَالِيبِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّفَاصُحُ ، مَتَى سَمِعَ الْقُرْآنَ عَرَفَ أَنَّهُ مُعْجِزٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِنْ حَالِ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَعْرِفُ مِنْ حَالِ غَيْرِهِ مِثْلَ مَا يَعْرِفُ مِنْ حَالِ نَفْسِهِ ، فَيَعْلَمُ أَنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ كَعَجْزِهِ هُوَ . وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إِلَى اسْتِدْلَالٍ آخَرَ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ ، وَدَلَالَةٌ عَلَى رِسَالَتِهِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ : إِنَّ هَذِهِ آيَةٌ لِنَبِيٍّ ، وَإِنَّهَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ ، وَادَّعَاهَا مُعْجِزَةً لَهُ ، وَبُرْهَانًا عَلَى صِدْقِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ مِنَ الْفُصَحَاءِ مَنْ يَعْلَمُ عَجْزَ نَفْسِهِ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ ، وَلَا يَعْلَمُ مَعَ ذَلِكَ عَجْزَ غَيْرِهِ عَنْهُ . فَكَذَلِكَ الْبَلِيغُ ، وَإِنْ عَلِمَ عَجْزَ نَفْسِهِ عَنْ مِثْلِ الْقُرْآنِ ، فَهُوَ يَخْفَى عَلَيْهِ عَجْزُ غَيْرِهِ .
قِيلَ : هُوَ مَعَ مُسْتَقِرِّ الْعَادَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مُفْحَمٌ ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ لَا يَنْفَكُّونَ مِنْ وُجُودِ الشُّعَرَاءِ فِيهِمْ .
وَمَتَى عَلِمَ الْبَلِيغُ الْمُتَنَاهِي فِي صُنُوفِ الْبَلَاغَاتِ عَجْزَهُ عَنِ الْقُرْآنِ ، عَلِمَ عَجْزَ غَيْرِهِ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ كَهُوَ ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ حَالَهُ وَحَالَ غَيْرِهِ فِي هَذَا الْبَابِ سَوَاءٌ .
[ ص: 27 ] إِذْ لَيْسَ فِي الْعَادَةِ مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ قُدْرَةُ أَحَدٍ مِنَ الْبُلَغَاءِ عَلَيْهِ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ مَثَلٌ فِي الْعَادَةِ - وَعَرَفَ هَذَا النَّاظِرُ جَمِيعَ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ ، وَأَنْوَاعَ الْخِطَابِ ، وَوَجَدَ الْقُرْآنَ مُبَايِنًا لَهَا - عَلِمَ خُرُوجَهُ عَنِ الْعَادَةِ ، وَجَرَى مَجْرَى مَا يَعْلَمُ أَنَّ إِخْرَاجَ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ مِنَ الْجَيْبِ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَاتِ ، فَهُوَ لَا يُجَوِّزُهُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يُجَوِّزُ وُقُوعَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، إِلَّا عَلَى وَجْهِ نَقْضِ الْعَادَةِ ، بَلْ يَرَى وُقُوعَهُ مَوْقِعَ الْمُعْجِزَةِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يُفَارِقُ فَلْقَ الْبَحْرِ ، وَإِخْرَاجَ الْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ ، فَهُوَ أَنَّهُ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي مَعْرِفَةِ عَجْزِهِمْ عَنْهُ ، بِكَوْنِهِ نَاقِضًا لِلْعَادَةِ ، مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ شَدِيدٍ ، وَلَا نَظَرٍ بَعِيدٍ . فَإِنَّ النَّظَرَ فِي مَعْرِفَةِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ ، وَيَفْتَقِرُ إِلَى مُرَاعَاةِ مُقَدِّمَاتٍ ، وَالْكَشْفِ عَنْ أُمُورٍ نَحْنُ ذَاكِرُوهَا بَعْدَ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَؤُولُ إِلَى مِثْلِ حُكْمِ صَاحِبِهِ ، فِي الْجَمْعِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا قُلْنَاهُ - : مِنْ أَنَّ الْبَلِيغَ الْمُتَنَاهِيَ فِي وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ يَعْرِفُ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ ، وَتَكُونُ مَعْرِفَتُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، إِذَا تُحُدِّيَ إِلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مِثْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَظِرْ وُقُوعَ التَّحَدِّي فِي غَيْرِهِ ، وَمَا الَّذِي يَصْنَعُ ذَلِكَ بِالْغَيْرِ . - فَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ
أَنَّ nindex.php?page=showalam&ids=67جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ وَرَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى حَلِيفٍ لَهُ ، أَرَادَ أَنْ يُفَادِيَهُ ، فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ سُورَةَ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=1وَالطُّورِ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=2وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، قَالَ : فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ : nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=7إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=8مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ، قَالَ : خَشِيتُ أَنْ يُدْرِكَنِي الْعَذَابُ . فَأَسْلَمَ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ سُورَةَ
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=1طه فَأَسْلَمَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي أَوَّلِ " حم " السَّجْدَةِ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=4فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ نَزَلَتْ فِي
شَيْبَةَ وَعُتْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12026وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ،
وَأَبِي جَهْلٍ . وَذَكَرَ أَنَّهُمْ بَعَثُوا هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ وُجُوهِ
قُرَيْشٍ ،
بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ [ ص: 28 ] إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُكَلِّمَهُ ، وَكَانَ حَسَنَ الْحَدِيثِ ، عَجِيبَ الْبَيَانِ بَلِيغَ الْكَلَامِ ؛ وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِمَا عِنْدَهُ ، فَقَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةَ حم السَّجْدَةِ ، مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=13فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةً عَادٍ وَثَمُودَ ، فَوَثَبَ مَخَافَةَ الْعَذَابِ ، فَاسْتَحْكَوْهُ مَا سَمِعَ فَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ كَلِمَةً وَاحِدَةً ، وَلَا اهْتَدَى لِجَوَابِهِ .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِمْ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاحْتِجَاجِ وَالرَّدِّ . فَقَالَ لَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=5559عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ : لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، إِذْ لَمْ يَهْتَدِ لِجَوَابِهِ .
وَأَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=6وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ فَجَعَلَ سَمَاعَهُ حُجَّةً عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ سَمَاعُهُ إِيَّاهُ حُجَّةً عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ عَلَى مَا قُلْتُمْ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْفُصَحَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي إِسْلَامِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِهِ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صَوَارِفَهُمْ كَانَتْ كَثِيرَةً ، مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُكُّونَ : فَفِيهِمْ مَنْ يَشُكُّ فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ ، وَفِيهِمْ مَنْ يَشُكُّ فِي التَّوْحِيدِ ، وَفِيهِمْ مَنْ يَشُكُّ فِي النُّبُوَّةِ . أَلَا تَرَى
أَنَّ nindex.php?page=showalam&ids=12026أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ، لَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُسْلِمَ عَامَ الْفَتْحِ ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ قَالَ : بَلَى . فَشَهِدَ ، قَالَ : أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَشْهَدَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ ؟ ! .
فَكَانَتْ وُجُوهُ شُكُوكِهِمْ مُخْتَلِفَةً ، وَطُرُقُ شُبَهِهِمْ مُتَبَايِنَةً : فَمِنْهُمْ مَنْ قَلَّتْ شُبَهُهُ ، وَتَأَمَّلَ الْحُجَّةَ حَقَّ تَأَمُّلِهَا وَلَمْ يَسْتَكْبِرْ ، فَأَسْلَمَ . وَمِنْهُمْ مَنْ كَثُرَتْ شُبَهُهُ ، أَوْ أَعْرَضَ عَنْ تَأَمُّلِ الْحُجَّةِ حَقَّ تَأَمُّلِهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَاغَةِ عَلَى حُدُودِ النِّهَايَةِ ، فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَى أَنْ نَظَرَ وَاسْتَبْصَرَ ، وَرَاعَى وَاعْتَبَرَ ، وَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَتَأَمَّلَ عَجْزَ غَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَلِذَلِكَ وَقَفَ أَمْرُهُ .
[ ص: 29 ] وَلَوْ كَانُوا فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَانَتْ صَوَارِفُهُمْ وَأَسْبَابُهُمْ مُتَّفِقَةً - لَتَوَافَوْا إِلَى الْقَبُولِ جُمْلَةً وَاحِدَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَعْرِفُ الْبَلِيغُ الَّذِي وَصَفْتُمُوهُ إِعْجَازَ الْقُرْآنِ ؟ وَمَا الْوَجْهُ الَّذِي يَتَطَرَّقُ بِهِ إِلَيْهِ ، وَالْمِنْهَاجُ الَّذِي يَسْلُكُهُ ، حَتَّى يَقِفَ بِهِ عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ فِيهِ ؟
قِيلَ : هَذَا سَبِيلُهُ أَنْ يُفْرَدَ لَهُ فَصْلٌ .
* * *
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْبُلَغَاءَ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى صُنُوفِ الْبَلَاغَاتِ ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي أَجْنَاسِ الْفَصَاحَاتِ ؟ وَهَلَّا قُلْتُمْ : إِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْبَدِيعَةِ بِوَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الْغَرِيبَةِ - كَانَ عَلَى مِثْلِ نَظْمِ الْقُرْآنِ قَادِرًا ، وَإِنَّمَا يَصْرِفُهُ اللَّهُ عَنْهُ ضَرْبًا مِنَ الصَّرْفِ ، أَوْ يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ضَرْبًا مِنَ الْمَنْعِ ، أَوْ تَقْصُرُ دَوَاعِيهِ إِلَيْهِ دُونَهُ ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ . لِيَتَكَامَلَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ الدَّلَالَةِ ، وَيَحْصُلَ مَا قَصَدَهُ مِنْ إِيجَابِ الْحُجَّةِ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى نَظْمِ كَلِمَتَيْنِ بَدِيعَتَيْنِ ، لَمْ يَعْجِزْ عَنْ نَظْمِ مِثْلِهَا ، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ قَدَرَ عَلَى ضَمِّ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ ، حَتَّى يَتَكَامَلَ قَدْرُ الْآيَةِ وَالسُّورَةِ ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَصَحَّ لِكُلِّ مَنْ أَمْكَنَهُ نَظْمُ رُبْعِ بَيْتٍ ، أَوْ مِصْرَاعٍ مِنْ بَيْتٍ - أَنْ يَنْظِمَ الْقَصَائِدَ وَيَقُولَ الْأَشْعَارَ ، وَصَحَّ لِكُلِّ نَاطِقٍ - قَدْ يَتَّفِقُ فِي كَلَامِهِ الْكَلِمَةُ الْبَدِيعَةُ - نَظْمُ الْخُطَبِ الْبَلِيغَةِ وَالرَّسَائِلِ الْعَجِيبَةِ ! وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ سَائِغٍ وَلَا مُمْكِنٍ .
عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ جِهَةِ نَظْمِهِ الْمُمْتَنِعِ ، لَكَانَ مَهْمَا حَطَّ مِنْ رُتْبَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ ، وَمَنَعَ مِنْ مِقْدَارِ الْفَصَاحَةِ فِي نَظْمِهِ ، كَانَ أَبْلَغَ فِي الْأُعْجُوبَةِ ، إِذَا صُرِفُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، وَمُنِعُوا مِنْ مُعَارَضَتِهِ ، وَعَدَلَتْ دَوَاعِيهِمْ عَنْهُ ، فَكَانَ يَسْتَغْنِي عَنْ إِنْزَالِهِ عَلَى النَّظْمِ الْبَدِيعِ ، وَإِخْرَاجِهِ فِي الْمَعْرِضِ الْفَصِيحِ الْعَجِيبِ .
[ ص: 30 ] عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانُوا صُرِفُوا عَلَى مَا ادَّعَاهُ ، لَمْ يَكُنْ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَصْرُوفِينَ عَمَّا كَانَ يَعْدِلُ بِهِ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَعَجِيبِ الرَّصْفِ . لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَحَدَّوْا إِلَيْهِ ، وَلَمْ تَلْزَمْهُمْ حُجَّتُهُ .
فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي كَلَامِ مَنْ قَبْلَهُ مِثْلُهُ ، عُلِمَ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْقَائِلُ " بِالصَّرْفَةِ " ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ .
وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّ أَهْلَ الصَّنْعَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ إِذَا سَمِعُوا كَلَامًا مُطْمِعًا لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَشْتَبِهْ لَدَيْهِمْ .
وَمَنْ كَانَ مُتَنَاهِيًا فِي فَصَاحَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَطْمَعَ فِي مِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ بِحَالٍ .
فَإِنْ قَالَ صَاحِبُ السُّؤَالِ : إِنَّهُ قَدْ يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : أَنْتَ تَزِيدُ عَلَى هَذَا فَتَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّ قَدْ يُضَارِعُ الْقُرْآنَ ، وَقَدْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْفَصَاحَةِ وَلَا يَتَحَاشَاهُ ، وَيَحْسَبُ أَنَّ مَا أَلَّفَهُ فِي الْجُزْءِ وَالطَّفْرَةِ هُوَ أَبْدَعُ وَأَغْرَبُ مِنَ الْقُرْآنِ لَفْظًا وَمَعْنًى ! وَلَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ عَلَى مَا يُقَدِّرُهُ مُقَدِّرٌ فِي نَفْسِهِ ، وَيَحْسَبُهُ ظَانٌّ مِنْ أَمْرِهِ . وَالْمَرْجُوعُ فِي هَذَا إِلَى جُمْلَةِ الْفُصَحَاءِ دُونَ الْآحَادِ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا وَجْهَ امْتِنَاعِهِ عَنِ الْفَصِيحِ الْبَلِيغِ ، وَنُمَيِّزُهُ فِي ذَلِكَ عَنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ الْخِطَابِ ، لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا يُقَدِّرُهُ مِنْ مُسَاوَاةِ كَلَامِ النَّاسِ بِهِ تَقْدِيرٌ ظَاهِرُ الْخَطَإِ بَيِّنُ الْغَلَطِ ، وَأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ مِنْ جِنْسِ مَنْ حَكَى اللَّهُ - تَعَالَى - قَوْلَهُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=18إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=19فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=20ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=21ثُمَّ نَظَرَ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=22ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=23ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=24فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=25إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ فَهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنْ دَعْوَاهُمْ : أَنَّهُمْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الْبَشَرِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ فَلَيْسَ يَقَعُ فِيهِ التَّفَاضُلُ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَتَجَاوَزُ إِمْكَانَ مُعَارَضَتِهِ .
وَمِمَّا يُبْطِلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ الْقَوْلِ " بِالصَّرْفَةِ " أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ مُمْكِنَةً - وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْهَا " الصَّرْفَةُ " - لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُعْجِزًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَنْعُ هُوَ الْمُعْجِزَ ، فَلَا يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ فَضِيلَةً عَلَى غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ .
[ ص: 31 ] وَلَيْسَ هَذَا بِأَعْجَبَ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ فَرِيقٌ مِنْهُمْ : أَنَّ الْكُلَّ قَادِرُونَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِوَجْهِ تَرْتِيبٍ لَوْ تَعَلَّمُوهُ لَوَصَلُوا إِلَيْهِ بِهِ .
وَلَا بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ : إِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ الْبَشَرِ وَكَلَامِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي هَذَا الْبَابِ ، وَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِعْجَازُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ .
* * *
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ تَقُولُونَ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29785غَيْرَ الْقُرْآنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مُعْجِزٌ ، كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالصُّحُفِ ؟
قِيلَ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُعْجِزٍ فِي النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْجِزًا كَالْقُرْآنِ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُعْجِزًا لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يَصِفْهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ الْقُرْآنَ ، وَلِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ التَّحَدِّي إِلَيْهِ كَمَا وَقَعَ التَّحَدِّي إِلَى الْقُرْآنِ .
وَلِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ اللِّسَانَ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ مِنْ وُجُوهِ الْفَصَاحَةِ ، مَا يَقَعُ بِهِ التَّفَاضُلُ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْإِعْجَازِ ، وَلَكِنَّهُ يَتَقَارَبُ . وَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَنَا يَذْكُرُونَ هَذَا فِي سَائِرِ الْأَلْسِنَةِ ، وَيَقُولُونَ : لَيْسَ يَقَعُ فِيهَا مِنَ التَّفَاوُتِ مَا يَتَضَمَّنُ التَّقْدِيمَ الْعَجِيبَ . وَيُمْكِنُ بَيَانُ ذَلِكَ بِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنَ الْأَلْسِنَةِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا نَعْرِفُ مِنَ اللُّغَةِ ، وَكَذَلِكَ لَا نَعْرِفُ فِيهَا الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَنَاوَلُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ عَلَى مَا تَتَنَاوَلُهُ الْعَرَبِيَّةُ ، وَكَذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي الِاسْتِعَارَاتِ وَالْإِشَارَاتِ ، وَوُجُوهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ الْبَدِيعَةِ ، الَّتِي يَجِيءُ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ هَذَا .
وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِأَنَّهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ . وَكَرَّرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ رَفَعَهُ عَنْ أَنْ يَجْعَلَهُ أَعْجَمِيًّا .
فَلَوْ كَانَ يُمْكِنُ فِي لِسَانِ الْعَجَمِ إِيرَادُ مِثْلِ فَصَاحَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِيَرْفَعَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ . وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ فَائِدَةِ قَوْلِهِ : إِنَّهُ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ، أَنَّهُ مِمَّا يَفْهَمُونَهُ وَلَا يَفْتَقِرُونَ فِيهِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى غَيْرِهِمْ ، وَلَا يَحْتَاجُونَ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى سِوَاهُمْ ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُفِيدَ مَا قُلْنَاهُ أَيْضًا ، كَمَا أَفَادَ بِظَاهِرِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ .
وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَرَفُوا تِلْكَ الْأَلْسِنَةَ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ
[ ص: 32 ] الْبَرَاعَةِ فِيهَا ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ ، فَقَدْ وَقَفُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مِنَ التَّفَاضُلِ وَالْفَصَاحَةِ ، مَا يَقَعُ فِي الْعَرَبِيَّةِ . وَمَعْنًى آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّا لَمْ نَجِدْ أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ادَّعَوُا الْإِعْجَازَ لِكِتَابِهِمْ ، وَلَا ادَّعَى لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ . فَعُلِمَ أَنَّ الْإِعْجَازَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ الْقُرْآنُ .
وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الشِّعْرَ لَا يَتَأَتَّى فِي تِلْكَ الْأَلْسِنَةِ ، عَلَى مَا قَدِ اتَّفَقَ فِي الْعَرَبِيَّةِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَّفِقُ مِنْهَا صِنْفٌ أَوْ أَصْنَافٌ ضَيِّقَةٌ ، لَمْ يَتَّفِقْ فِيهَا مِنَ الْبَدِيعِ مَا يُمْكِنُ وَيَتَأَتَّى فِي الْعَرَبِيَّةِ . وَكَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَارِسِيَّةِ جَمِيعُ الْوُجُوهِ الَّتِي تَتَبَيَّنُ فِيهَا الْفَصَاحَةُ ، عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِي الْعَرَبِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ الْمَجُوسَ تَزْعُمُ أَنَّ كِتَابَ
زَرَادُشْتَ ، وَكِتَابَ
مَانِي مُعْجِزَانِ ؟
قِيلَ : الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ كِتَابُ
مَانِي ، مِنْ طُرُقِ النِّيرَنْجَاتِ ، وَضُرُوبٍ مِنَ الشَّعْوَذَةِ ، لَيْسَ يَقَعُ فِيهَا إِعْجَازٌ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الْحِكَمَ ، وَهِيَ حِكَمٌ مَنْقُولَةٌ ، مُتَدَاوَلَةٌ عَلَى الْأَلْسُنِ ، لَا تَخْتَصُّ بِهَا أُمَّةٌ دُونَ أُمَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ اهْتِمَامًا بِهَا ، وَتَحْصِيلًا لَهَا ، وَجَمْعًا لِأَبْوَابِهَا .
وَقَدِ ادَّعَى قَوْمٌ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=16420 " ابْنَ الْمُقَفَّعِ " عَارَضَ الْقُرْآنَ ، وَإِنَّمَا فَزِعُوا إِلَى " الدُّرَّةِ " وَ " التَّلِيمِيَّةِ " . وَهُمَا كِتَابَانِ : أَحَدُهُمَا يَتَضَمَّنُ حِكَمًا مَنْقُولَةً ، تُوجَدُ عِنْدَ حُكَمَاءِ كُلِّ أُمَّةٍ مَذْكُورَةٍ بِالْفَضْلِ . فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ بَدِيعٌ مِنْ لَفْظٍ وَلَا مَعْنًى .
وَالْآخَرُ فِي شَيْءٍ مِنَ الدِّيَانَاتِ ، وَقَدْ تَهَوَّسَ فِيهِ بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلٍ .
وَكِتَابُهُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْحِكَمِ ، مَنْسُوخٌ مِنْ كِتَابِ
بُزُرْجُمْهِرَ فِي الْحِكْمَةِ . فَأَيُّ صُنْعٍ لَهُ فِي ذَلِكَ ؟ وَأَيُّ فَضِيلَةٍ حَازَهَا فِيمَا جَاءَ بِهِ ؟
وَبَعْدُ ، فَلَيْسَ يُوجَدُ لَهُ كِتَابٌ يَدَّعِي مُدَّعٍ أَنَّهُ عَارَضَ فِيهِ الْقُرْآنَ ، بَلْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ مُدَّةً ، ثُمَّ مَزَّقَ مَا جَمَعَ ، وَاسْتَحْيَا لِنَفْسِهِ مِنْ إِظْهَارِهِ . فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ، فَقَدْ أَصَابَ وَأَبْصَرَ الْقَصْدَ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِ الْحَالُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يَلُوحُ لَهُ رُشْدُهُ ، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَمْرُهُ ، وَيَنْكَشِفُ لَهُ عَجْزُهُ . وَلَوْ كَانَ بَقِيَ عَلَى اشْتِبَاهِ الْحَالِ عَلَيْهِ ، لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا مَوْضِعُ غَفْلَتِهِ ، وَلَمْ يَشْتَبِهْ لَدَيْنَا وَجْهُ شُبْهَتِهِ .
وَمَتَى أَمْكَنَ أَنْ تَدَّعِي
الْفُرْسُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهَا أَنَّهُ مُعْجِزٌ فِي حُسْنِ تَأْلِيفِهِ ، وَعَجِيبِ نَظْمِهِ ؟