[ ص: 57 ] فصل
في نفي السجع من القرآن
ذهب أصحابنا كلهم إلى
nindex.php?page=treesubj&link=28914نفي السجع من القرآن ، وذكره الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أبو الحسن الأشعري - رضي الله عنه - في غير موضع من كتبه .
وذهب كثير ممن يخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن . وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام ، وأنه من الأجناس التي يقع فيها التفاضل في البيان والفصاحة ، كالتجنيس والالتفات ، وما أشبه ذلك من الوجوه التي تعرف بها الفصاحة .
وأقوى ما يستدلون به عليه : اتفاق الكل على أن
موسى أفضل من
هارون - عليهما السلام - ، ولمكان السجع قيل في موضع :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=70هارون وموسى . ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون ، قيل : :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=48موسى وهارون . قالوا : وهذا يفارق أمر الشعر ؛ لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصودا إليه ، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي نسميه شعرا ، وذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم ، كما يتفق وجوده من الشاعر . وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير ، لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه .
ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى " السجع " . قال أهل اللغة : هو موالاة الكلام على وزن واحد . وقال
ابن دريد : " سجعت الحمامة " معناه : رددت صوتها . وأنشد :
طربت فأبكتك الحمام السواجع تميل بها ضحوا غصون نوائع
النوائع : الموائل ، من قولهم : جائع نائع ، أي متمايل ضعفا .
وهذا الذي يزعمونه غير صحيح ، ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز .
[ ص: 58 ] ولو جاز أن يقولوا : هو سجع معجز ، لجاز لهم أن يقولوا : شعر معجز .
وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفي الشعر ؛ لأن الكهانة تنافي النبوات ، وليس كذلك الشعر .
وقد روي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذين جاؤوه وكلموه في شأن الجنين : كيف ندي من لا شرب ولا أكل ، ولا صاح فاستهل ، أليس دمه قد يطل ؟ فقال : " أسجاعة كسجاعة الجاهلية ؟ " ، وفي بعضها : " أسجعا كسجع الكهان " ، فرأى ذلك مذموما لم يصح أن يكون في دلالته .
والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم ؛ لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعا ، لأن ما يكون به الكلام سجعا يختص ببعض الوجوه دون بعض ؛ لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع .
وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن ، لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى . وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه ، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ . ومتى ارتبط المعنى بالسجع ، كانت إفادة السجع كإفادة غيره ، ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع ، كان مستجلبا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى .
فإن قيل : فقد يتفق في القرآن ما يكون من القبيلين جميعا ، فيجب أن تسموا أحدهما سجعا .
قيل : الكلام في تفصيل هذا خارج عن غرض كتابنا ، وإلا كنا نأتي على فصل فصل من أول القرآن إلى آخره ، ونبين في الموضع الذي يدعون الاستغناء عن السجع من الفوائد ما لا يخفى ، ولكنه خارج عن غرض كتابنا . وهذا القدر يحقق الفرق بين الموضعين .
ثم إن سلم لهم مسلم موضعا أو مواضع معدودة ، وزعم أن وقوع ذلك موقع الاستراحة في الخطاب إلى الفواصل لتحسين الكلام بها ، وهي الطريقة
[ ص: 59 ] التي يباين القرآن بها سائر الكلام ، وزعم أن الوجه في ذلك أنه من الفواصل ، أو زعم أن ذلك وقع غير مقصود إليه - فإن ذلك إذا اعترض في الخطاب لم يعد سجعا ، على ما قد بينا في القليل من الشعر ، كالبيت الواحد ، والمصراع ، والبيتين من الرجز ، ونحو ذلك يعرض فيه ، فلا يقال إنه شعر ؛ لأنه لا يقع مقصودا إليه ، وإنما يقع مغمورا في الخطاب ، وكذلك حال السجع الذي يزعمونه ويقدرونه .
ويقال لهم : لو كان الذي في القرآن على ما تقدرونه سجعا : لكان مذموما مرذولا ؛ لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه ، واختلفت طرقه ، كان قبيحا من الكلام . وللسجع منهج مرتب محفوظ ، وطريق مضبوط ، متى أخل به المتكلم وقع الخلل في كلامه ، ونسب إلى الخروج عن الفصاحة . كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئا ، وكان شعره مرذولا ، وربما أخرجه عن كونه شعرا .
وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعا متقارب الفواصل ، متداني المقاطع ، وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه ، وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير ، وهذا في السجع غير مرضي ولا محمود .
فإن قيل : متى خرج السجع من المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه ، خرج من أن يكون سجعا ، وليس على المتكلم أن يلتزم أن يكون كلامه كله سجعا ، بل يأتي به طورا ثم يعدل عنه إلى غيره ، ثم قد يرجع إليه .
قيل : متى وقع أحد مصراعي البيت مخالفا للآخر ، كان تخليطا وخبطا ، وكذلك متى اضطرب أحد مصراعي الكلام المسجع وتفاوت كان خبطا .
وقد علم أن فصاحة القرآن غير مذمومة في الأصل ، فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا الوجه من الاضطراب .
[ ص: 60 ] ولو كان الكلام الذي هو في صورة السجع منه لما تحيروا فيه ، ولكانت الطباع تدعو إلى المعارضة ؛ لأن السجع غير ممتنع عليهم ، بل هو عادتهم ، فكيف تنقض العادة بما هو نفس العادة ، وهو غير خارج عنها ولا متميز منها ؟ وقد يتفق في الشعر كلام متزن على منهاج السجع وليس بسجع عندهم . وذلك نحو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13823البحتري :
تشكى الوجى ، والليل ملتبس الدجا غريرية الأنساب مرت بقيعها
وقوله :
قريب المدى حتى يكون إلى الندى عدو البنى حتى تكون معالي
ورأيت بعضهم يرتكب هذا ، فيزعم أنه سجع مداخل !
ونظيره من القرآن قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=27ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أمرنا مترفيها ففسقوا فيها . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=24أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=48والتوراة والإنجيل nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49ورسولا إلى بني إسرائيل . وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4إني وهن العظم مني .
ولو كان ذلك عندهم سجعا لم يتحيروا فيه ذلك التحير ، حتى سماه بعضهم سحرا ، وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به ويصرفونه إليه ويتوهمونه فيه . وهم في الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه ، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم ، المألوفة لديهم .
والذي تكلمنا به في هذا الفصل كلام على جملة دون التفصيل .
[ ص: 61 ] ونحن نذكر بعد هذا في التفصيل ، ما يكشف عن مباينة ذلك وجوه السجع .
ومن جنس السجع المعتاد عندهم ، قول
أبي طالب لسيف بن ذي يزن : " أنبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه ، ونبت زرعه ، في أكرم موطن ، وأطيب معدن " . وما يجري هذا المجرى من الكلام .
والقرآن مخالف لهذه الطريقة مخالفته للشعر وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم .
ولا معنى لقولهم : إن ذلك مشتق من ترديد الحمامة صوتها على نسق واحد وروي غير مختلف ؛ لأن ما جرى هذا المجرى لا يبنى على الاشتقاق وحده ؛ ولو بني عليه لكان الشعر سجعا ، لأن رويه يتفق ولا يختلف ، وتتردد القوافي على طريقة واحدة .
وأما الأمور التي يستريح إليها الكلام ، فإنها تختلف : فربما كان ذلك يسمى قافية ، وذلك إنما يكون في الشعر ، وربما كان ما ينفصل عنده الكلامان مقاطع السجع ، وربما سمي ذلك فواصل .
nindex.php?page=treesubj&link=28914وفواصل القرآن - مما هو مختص بها - لا شركة بينه وبين سائر الكلام فيها ولا تناسب .
وأما ما ذكروه من تقديم
موسى على
هارون - عليهما السلام - في موضع ، وتأخيره عنه في موضع لمكان السجع وتساوي مقاطع الكلام - فليس بصحيح ؛ لأن الفائدة عندنا غير ما ذكروه . وهي : أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة ، تؤدي معنى واحدا من الأمر الصعب ، الذي تظهر به الفصاحة ، وتتبين به البلاغة . وأعيد كثير من القصص في مواضع كثيرة مختلفة ، على ترتيبات متفاوتة ، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا .
ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ
[ ص: 62 ] لهم تؤدي تلك المعاني ونحوها ، وجعلوها بإزاء ما جاء به ، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه ، وإلى مساواته فيما حكى وجاء به . وكيف وقد قال لهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . فعلى هذا يكون المقصد - بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها - إظهار الإعجاز على الطريقين جميعا ، دون السجع الذي توهموه .
فإن قال قائل : القرآن مختلط من أوزان كلام العرب ، ففيه من جنس خطبهم ، ورسائلهم ، وشعرهم ، وسجعهم ، وموزون كلامهم الذي هو غير مقفى ، ولكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع ، لبراعته وفصاحته .
قيل : قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ونثر ، وكلام مقفى غير موزون وكلام موزون غير مقفى ، ونظم موزون ليس بمقفى كالخطب والسجع ، ونظم مقفى موزون له روي .
ومن هذه الأقسام ما هو سجية الأغلب من الناس ، فتناوله أقرب ، وسلوكه لا يتعذر . ومنه ما هو أصعب تناولا ، كالموزون عند بعضهم ، والشعر عند الآخرين .
وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن تقع لهم بأحد أمرين : إما بتعمل وتكلف وتعلم وتصنع ، أو باتفاق من الطبع وقذف من النفس على اللسان للحاجة إليه .
ولو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع ، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم ، ويعرض على ألسنتهم ، وتجيش به خواطرهم ، ولا ينصرف عنه الكل ، مع شدة الدواعي إليه .
ولو كان طريقه التعلم لتصنعوه ولتعلموه والمهلة لهم فسيحة ، والأمد واسع .
[ ص: 63 ] * * *
وقد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم ؟ فقد قيل : إنه اتفق في الأصل غير مقصود إليه ، على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام ، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه قد تألفه الأسماع وتقبله النفوس - تتبعوه من بعد وتعملوه . وحكى لي بعضهم عن
أبي عمر غلام ثعلب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15611ثعلب : أن العرب تعلم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول ، يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ويسمون ذلك الوضع " المتير " واشتقاقه من المتر ، وهو الجذب أو القطع ، يقال : مترت الحبل ؛ أي قطعته أو جذبته . ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره ، فيحتمل ما قاله .
وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا .
وقد يحتمل - على قول من قال : إن اللغة اصطلاح - أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم .
وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر ، وأنهم وقفوا على ما يتصرف إليه القول من وجوه التفاصح ، وتواقفوا بينهم على ذلك .
ويمكن أن يقال : إن التواضع وقع على أصل الباب ، وكذلك التوقيف ، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب ، وإن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى ، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد ، وبنوا عليه وطلبوه ، ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الإطراب بوزنها ، وتهش النفوس إليها ، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها ، واختبار طرق من تنزيلها ، وعرفهم محاسن الكلام ، ودلهم على كل طريقة عجيبة ، ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن ، وأن القدر الذي تتناهى إليه قدرهم هو ما لم يخرج عن لغتهم ، ولم يشذ من جميع كلامهم ، بل قد عرض في خطابهم ، ووجدوا أن
[ ص: 64 ] هذا لما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد والحاجة الماسة إليه ، مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر ، وتكامل أحوالهم فيه - دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة ومعجزة على الرسالة . ولولا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته وحسن انتظامه ، فلأن يقدروا بعد التنبيه على وجهه والتحدي إليه ، أولى أن يبادروا إليه ، لو كان لهم إليه سبيل .
ولو كان الأمر على ما ذكره السائل : لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم ، ولا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم ، ولكانوا يسرعون إلى الجواب ويبادرون إلى المعارضة .
ومعلوم من حالهم أن الواحد منهم يقصد إلى الأمور البعيدة عن الوهم ، والأسباب التي لا يحتاج إليها ، فيكثر فيها من شعر ورجز ، ونجد من يعينه على نقله عنه ، على ما قدمنا ذكره من وصف الإبل ونتاجها ؛ وكثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا .
ثم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والذرابة ، ويتنافرون فيه وتجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار ، على ما لا يخفى على أهله .
فاستدللنا بتحيرهم في أمر القرآن على خروجه عن عادة كلامهم ، ووقوعه موقعا يخرق العادات . وهذه سبيل المعجزات .
فبان بما قلنا
nindex.php?page=treesubj&link=18626_20759_28899أن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الأسجاع ، لا يخرجها عن حدها ، ولا يدخلها في باب السجع .
وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء ، فكان بعض مصاريعه كلمتين ، وبعضها أربع كلمات ، ولا يرون في ذلك فصاحة ، بل يرونه عجزا .
فلو رأوا أن ما تلي عليهم من القرآن سجع ؛ لقالوا : نحن نعارضه بسجع
[ ص: 65 ] معتدل ، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن ، ونتجاوز حده في البراعة والحسن .
ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع تارة إلى غيره ثم رجع إليه ؛ لأن ما تخلل بين الأمرين يؤذن بأن وضع الكلام غير ما قدروه من التسجيع ؛ لأنه لو كان من باب السجع لكان أرفع نهاياته ، وأبعد غاياته .
ولا بد لمن جوز السجع فيه وسلك ما سلكوه من أن يسلم ما ذهب إليه
النظام ،
وعباد بن سليمان ،
وهشام الفوطي ، ويذهب مذهبهم ، في أنه ليس في نظم القرآن وتأليفه إعجاز ، وأنه يمكن معارضته ، وإنما صرفوا عنه ضربا من الصرف .
ويتضمن كلامه تسليم الخبط في طريقة النظم ، وأنه منتظم من فرق شتى ، ومن أنواع مختلفة ينقسم إليها خطابهم ولا يخرج عنها ، ويستهين ببديع نظمه وعجيب تأليفه الذي وقع التحدي إليه . وكيف يعجزهم الخروج عن السجع والرجوع إليه ، وقد علمنا عادتهم في خطبهم وكلامهم أنهم كانوا لا يلزمون أبدا طريقة السجع والوزن ، بل كانوا يتصرفون في أنواع مختلفة ، فإذا ادعوا على القرآن مثل ذلك لم يجدوا فاصلة بين نظمي الكلامين .
[ ص: 57 ] فَصْلٌ
فِي نَفْيِ السَّجْعِ مِنَ الْقُرْآنِ
ذَهَبَ أَصْحَابُنَا كُلُّهُمْ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28914نَفْيِ السَّجْعِ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ
nindex.php?page=showalam&ids=13711أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ - رِضَيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُخَالِفُهُمْ إِلَى إِثْبَاتِ السَّجْعِ فِي الْقُرْآنِ . وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبِينُ بِهِ فَضْلُ الْكَلَامِ ، وَأَنَّهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا التَّفَاضُلُ فِي الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ ، كَالتَّجْنِيسِ وَالِالْتِفَاتِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْفَصَاحَةُ .
وَأَقْوَى مَا يَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَيْهِ : اتِّفَاقُ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ
مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ
هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - ، وَلِمَكَانِ السَّجْعِ قِيلَ فِي مَوْضِعٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=70هَارُونَ وَمُوسَى . وَلَمَّا كَانَتِ الْفَوَاصِلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ ، قِيلَ : :
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=48مُوسَى وَهَارُونَ . قَالُوا : وَهَذَا يُفَارِقُ أَمْرَ الشِّعْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْخِطَابِ إِلَّا مَقْصُودًا إِلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ كَانَ دُونَ الْقَدْرِ الَّذِي نُسَمِّيهِ شِعْرًا ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مَا يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مِنَ الْمُفْحَمِ ، كَمَا يَتَّفِقُ وُجُودُهُ مِنَ الشَّاعِرِ . وَأَمَّا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ السَّجْعِ فَهُوَ كَثِيرٌ ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ كُلُّهُ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ .
وَيَبْنُونَ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَحْدِيدِ مَعْنَى " السَّجْعِ " . قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : هُوَ مُوَالَاةُ الْكَلَامِ عَلَى وَزْنٍ وَاحِدٍ . وَقَالَ
ابْنُ دُرَيْدٍ : " سَجَعَتِ الْحَمَامَةُ " مَعْنَاهُ : رَدَّدَتْ صَوْتَهَا . وَأَنْشَدَ :
طَرِبْتَ فَأَبْكَتْكَ الْحَمَامُ السَّوَاجِعُ تَمِيلُ بِهَا ضَحْوًا غُصُونٌ نَوَائِعُ
النَّوَائِعُ : الْمَوَائِلُ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : جَائِعٌ نَائِعٌ ، أَيْ مُتَمَايِلٌ ضَعْفًا .
وَهَذَا الَّذِي يَزْعُمُونَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ سَجْعًا لَكَانَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ أَسَالِيبِ كَلَامِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ إِعْجَازٌ .
[ ص: 58 ] وَلَوْ جَازَ أَنْ يَقُولُوا : هُوَ سَجْعٌ مُعْجِزٌ ، لَجَازَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : شِعْرٌ مُعْجِزٌ .
وَكَيْفَ وَالسَّجْعُ مِمَّا كَانَ يَأْلَفُهُ الْكُهَّانُ مِنَ الْعَرَبِ ، وَنَفْيُهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَجْدَرُ بِأَنْ يَكُونَ حُجَّةً مِنْ نَفْيِ الشِّعْرِ ؛ لِأَنَّ الْكَهَانَةَ تُنَافِي النُّبُوَّاتِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشِّعْرُ .
وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلَّذِينِ جَاؤُوهُ وَكَلَّمُوهُ فِي شَأْنِ الْجَنِينِ : كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ ، وَلَا صَاحَ فَاسْتَهَلَّ ، أَلَيْسَ دَمُهُ قَدْ يُطَلُّ ؟ فَقَالَ : " أَسَجَّاعَةً كَسَجَّاعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ ؟ " ، وَفِي بَعْضِهَا : " أَسَجْعًا كَسَجْعِ الْكُهَّانِ " ، فَرَأَى ذَلِكَ مَذْمُومًا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِي دَلَالَتِهِ .
وَالَّذِي يُقَدِّرُونَهُ أَنَّهُ سَجْعٌ فَهُوَ وَهْمٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى مِثَالِ السَّجْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَجْعًا ، لِأَنَّ مَا يَكُونُ بِهِ الْكَلَامُ سَجْعًا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ مِنَ الْكَلَامِ يَتْبَعُ الْمَعْنَى فِيهِ اللَّفْظَ الَّذِي يُؤَدِّي السَّجْعَ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا اتَّفَقَ مِمَّا هُوَ فِي تَقْدِيرِ السَّجْعِ مِنَ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقَعُ فِيهِ تَابِعًا لِلْمَعْنَى . وَفَصْلٌ بَيْنَ أَنْ يَنْتَظِمَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ بِأَلْفَاظِهِ الَّتِي تُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ فِيهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مُنْتَظِمًا دُونَ اللَّفْظِ . وَمَتَى ارْتَبَطَ الْمَعْنَى بِالسَّجْعِ ، كَانَتْ إِفَادَةُ السَّجْعِ كَإِفَادَةِ غَيْرِهِ ، وَمَتَى انْتَظَمَ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ دُونَ السَّجْعِ ، كَانَ مُسْتَجْلَبًا لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ دُونَ تَصْحِيحِ الْمَعْنَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يَتَّفِقُ فِي الْقُرْآنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْقَبِيلَيْنِ جَمِيعًا ، فَيَجِبُ أَنْ تُسَمُّوا أَحَدَهُمَا سَجْعًا .
قِيلَ : الْكَلَامُ فِي تَفْصِيلِ هَذَا خَارِجٌ عَنْ غَرَضِ كِتَابِنَا ، وَإِلَّا كُنَّا نَأْتِي عَلَى فَصْلٍ فَصْلٍ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ ، وَنُبَيِّنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَدَّعُونَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ السَّجْعِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَا يَخْفَى ، وَلَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ غَرَضِ كِتَابِنَا . وَهَذَا الْقَدْرُ يُحَقِّقُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ .
ثُمَّ إِنْ سَلَّمَ لَهُمْ مُسَلِّمٌ مَوْضِعًا أَوْ مَوَاضِعَ مَعْدُودَةً ، وَزَعَمَ أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مَوْقِعَ الِاسْتِرَاحَةِ فِي الْخِطَابِ إِلَى الْفَوَاصِلِ لِتَحْسِينِ الْكَلَامِ بِهَا ، وَهَيَ الطَّرِيقَةُ
[ ص: 59 ] الَّتِي يُبَايِنُ الْقُرْآنُ بِهَا سَائِرَ الْكَلَامِ ، وَزَعَمَ أَنَّ الْوَجْهَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنَ الْفَوَاصِلِ ، أَوْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ - فَإِنَّ ذَلِكَ إِذَا اعْتَرَضَ فِي الْخِطَابِ لَمْ يُعَدَّ سَجْعًا ، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي الْقَلِيلِ مِنَ الشِّعْرِ ، كَالْبَيْتِ الْوَاحِدِ ، وَالْمِصْرَاعِ ، وَالْبَيْتَيْنِ مِنَ الرَّجَزِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يَعْرِضُ فِيهِ ، فَلَا يُقَالُ إِنَّهُ شِعْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ مَقْصُودًا إِلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مَغْمُورًا فِي الْخِطَابِ ، وَكَذَلِكَ حَالُ السَّجْعِ الَّذِي يَزْعُمُونَهُ وَيُقَدِّرُونَهُ .
وَيُقَالُ لَهُمْ : لَوْ كَانَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا تُقَدِّرُونَهُ سَجْعًا : لَكَانَ مَذْمُومًا مَرْذُولًا ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ إِذَا تَفَاوَتَتْ أَوْزَانُهُ ، وَاخْتَلَفَتْ طُرُقُهُ ، كَانَ قَبِيحًا مِنَ الْكَلَامِ . وَلِلسَّجْعِ مَنْهَجٌ مُرَتَّبٌ مَحْفُوظٌ ، وَطَرِيقٌ مَضْبُوطٌ ، مَتَى أَخَلَّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ وَقَعَ الْخَلَلُ فِي كَلَامِهِ ، وَنُسِبَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْفَصَاحَةِ . كَمَا أَنَّ الشَّاعِرَ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْوَزْنِ الْمَعْهُودِ كَانَ مُخْطِئًا ، وَكَانَ شِعْرُهُ مَرْذُولًا ، وَرُبَّمَا أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ شِعْرًا .
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ بَعْضَ مَا يَدَّعُونَهُ سَجْعًا مُتَقَارِبُ الْفَوَاصِلِ ، مُتَدَانِي الْمُقَاطِعِ ، وَبَعْضَهَا مِمَّا يَمْتَدُّ حَتَّى يَتَضَاعَفَ طُولُهُ عَلَيْهِ ، وَتَرِدَ الْفَاصِلَةُ عَلَى ذَلِكَ الْوَزْنِ الْأَوَّلِ بَعْدَ كَلَامٍ كَثِيرٍ ، وَهَذَا فِي السَّجْعِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ وَلَا مَحْمُودٍ .
فَإِنْ قِيلَ : مَتَى خَرَجَ السَّجْعُ مِنَ الْمُعْتَدِلِ إِلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ، خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَجْعًا ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ أَنْ يَلْتَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ كُلُّهُ سَجْعًا ، بَلْ يَأْتِي بِهِ طَوْرًا ثُمَّ يَعْدِلُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ ، ثُمَّ قَدْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ .
قِيلَ : مَتَى وَقَعَ أَحَدُ مِصْرَاعَيِ الْبَيْتِ مُخَالِفًا لِلْآخَرِ ، كَانَ تَخْلِيطًا وَخَبْطًا ، وَكَذَلِكَ مَتَى اضْطَرَبَ أَحَدُ مِصْرَاعَيِ الْكَلَامِ الْمُسَجَّعِ وَتَفَاوَتَ كَانَ خَبْطًا .
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ فِي الْأَصْلِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا نَحْوُ هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الِاضْطِرَابِ .
[ ص: 60 ] وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ فِي صُورَةِ السَّجْعِ مِنْهُ لَمَا تَحَيَّرُوا فِيهِ ، وَلَكَانَتِ الطِّبَاعُ تَدْعُو إِلَى الْمُعَارَضَةِ ؛ لِأَنَّ السَّجْعَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَيْهِمْ ، بَلْ هُوَ عَادَتُهُمْ ، فَكَيْفَ تُنْقَضُ الْعَادَةُ بِمَا هُوَ نَفْسُ الْعَادَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا وَلَا مُتَمَيِّزٍ مِنْهَا ؟ وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي الشِّعْرِ كَلَامٌ مُتَّزِنٌ عَلَى مِنْهَاجِ السَّجْعِ وَلَيْسَ بِسَجْعٍ عِنْدِهِمْ . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=13823الْبُحْتُرِيِّ :
تَشَكَّى الْوَجَى ، وَاللَّيْلُ مُلْتَبِسُ الدُّجَا غُرَيْرِيَّةُ الْأَنْسَابِ مَرْتٌ بَقِيعُهَا
وَقَوْلِهِ :
قَرِيبُ الْمَدَى حَتَّى يَكُونَ إِلَى النَّدَى عَدُوُّ الْبُنَى حَتَّى تَكُونَ مَعَالِي
وَرَأَيْتُ بَعْضَهُمْ يَرْتَكِبُ هَذَا ، فَيَزْعُمُ أَنَّهُ سَجْعٌ مُدَاخَلٌ !
وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=27ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ . وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا . وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=24أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ . وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=48وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=49وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ . وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=4إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ سَجْعًا لَمْ يَتَحَيَّرُوا فِيهِ ذَلِكَ التَّحَيُّرَ ، حَتَّى سَمَّاهُ بَعْضُهُمْ سِحْرًا ، وَتَصَرَّفُوا فِيمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهِ وَيَصْرِفُونَهُ إِلَيْهِ وَيَتَوَهَّمُونَهُ فِيهِ . وَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ عَارِفُونَ بِعَجْزِهِمْ عَنْ طَرِيقِهِ ، وَلَيْسَ الْقَوْمُ بِعَاجِزِينَ عَنْ تِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَهُمُ ، الْمَأْلُوفَةِ لَدَيْهِمْ .
وَالَّذِي تَكَلَّمْنَا بِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَلَامٌ عَلَى جُمْلَةٍ دُونَ التَّفْصِيلِ .
[ ص: 61 ] وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا فِي التَّفْصِيلِ ، مَا يَكْشِفُ عَنْ مُبَايَنَةِ ذَلِكَ وُجُوهَ السَّجْعِ .
وَمِنْ جِنْسِ السَّجْعِ الْمُعْتَادِ عِنْدَهُمْ ، قَوْلُ
أَبِي طَالِبٍ لِسَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ : " أَنْبَتَكَ مَنْبِتًا طَابَتْ أَرُومَتُهُ ، وَعَزَّتْ جُرْثُومَتُهُ ، وَثَبَتَ أَصْلُهُ ، وَبَسَقَ فَرْعُهُ ، وَنَبَتَ زَرْعُهُ ، فِي أَكْرَمِ مَوْطِنٍ ، وَأَطْيَبِ مَعْدِنٍ " . وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الْكَلَامِ .
وَالْقُرْآنُ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ مُخَالَفَتَهُ لِلشِّعْرِ وَسَائِرِ أَصْنَافِ كَلَامِهِمُ الدَّائِرِ بَيْنَهُمْ .
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ : إِنَّ ذَلِكَ مُشْتَقٌّ مِنْ تَرْدِيدِ الْحَمَامَةِ صَوْتَهَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَرَوِيٍّ غَيْرِ مُخْتَلِفٍ ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى لَا يُبْنَى عَلَى الِاشْتِقَاقِ وَحْدَهُ ؛ وَلَوْ بُنِيَ عَلَيْهِ لَكَانَ الشِّعْرُ سَجْعًا ، لِأَنَّ رَوِيَّهُ يَتَّفِقُ وَلَا يَخْتَلِفُ ، وَتَتَرَدَّدُ الْقَوَافِي عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَأَمَّا الْأُمُورُ الَّتِي يَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا الْكَلَامُ ، فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ : فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ يُسَمَّى قَافِيَةً ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الشِّعْرِ ، وَرُبَّمَا كَانَ مَا يَنْفَصِلُ عِنْدَهُ الْكَلَامَانِ مَقَاطِعَ السَّجْعِ ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ ذَلِكَ فَوَاصَلُ .
nindex.php?page=treesubj&link=28914وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ - مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهَا - لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكَلَامِ فِيهَا وَلَا تَنَاسُبَ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَقْدِيمِ
مُوسَى عَلَى
هَارُونَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فِي مَوْضِعٍ ، وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ لِمَكَانِ السَّجْعِ وَتَسَاوِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ - فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْفَائِدَةَ عِنْدَنَا غَيْرُ مَا ذَكَرُوهُ . وَهِيَ : أَنَّ إِعَادَةَ ذِكْرِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرِ الصَّعْبِ ، الَّذِي تَظْهَرُ بِهِ الْفَصَاحَةُ ، وَتَتَبَيَّنُ بِهِ الْبَلَاغَةُ . وَأُعِيدَ كَثِيرٌ مِنَ الْقَصَصِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ ، عَلَى تَرْتِيبَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ ، وَنُبِّهُوا بِذَلِكَ عَلَى عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مُبْتَدَأً بِهِ وَمُكَرَّرًا .
وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ تَمَكُّنٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ لَقَصَدُوا تِلْكَ الْقِصَّةَ وَعَبَّرُوا عَنْهَا بِأَلْفَاظٍ
[ ص: 62 ] لَهُمْ تُؤَدِّي تِلْكَ الْمَعَانِيَ وَنَحْوَهَا ، وَجَعَلُوهَا بِإِزَاءِ مَا جَاءَ بِهِ ، وَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إِلَى تَكْذِيبِهِ ، وَإِلَى مُسَاوَاتِهِ فِيمَا حَكَى وَجَاءَ بِهِ . وَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ لَهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=34فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ . فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَقْصِدُ - بِتَقْدِيمِ بَعْضِ الْكَلِمَاتِ وَتَأْخِيرِهَا - إِظْهَارَ الْإِعْجَازِ عَلَى الطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، دُونَ السَّجْعِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الْقُرْآنُ مُخْتَلَطٌ مِنْ أَوْزَانِ كَلَامِ الْعَرَبِ ، فَفِيهِ مِنْ جِنْسِ خُطَبِهِمْ ، وَرَسَائِلِهِمْ ، وَشِعْرِهِمْ ، وَسَجْعِهِمْ ، وَمَوْزُونِ كَلَامِهِمُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُقَفًّى ، وَلَكِنَّهُ أَبْدَعَ فِيهِ ضَرْبًا مِنَ الْإِبْدَاعِ ، لِبَرَاعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ .
قِيلَ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ يَنْقَسِمُ إِلَى نَظْمٍ وَنَثْرٍ ، وَكَلَامٍ مُقَفًّى غَيْرِ مَوْزُونٍ وَكَلَامٍ مَوْزُونٍ غَيْرِ مُقَفًّى ، وَنَظْمٍ مَوْزُونٍ لَيْسَ بِمُقَفًّى كَالْخُطَبِ وَالسَّجْعِ ، وَنَظْمٍ مُقَفًّى مَوْزُونٍ لَهُ رَوِيٌ .
وَمِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَا هُوَ سَجِيَّةُ الْأَغْلَبِ مِنَ النَّاسِ ، فَتَنَاوُلُهُ أَقْرَبُ ، وَسُلُوكُهُ لَا يَتَعَذَّرُ . وَمِنْهُ مَا هُوَ أَصْعَبُ تَنَاوُلًا ، كَالْمَوْزُونِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ، وَالشِّعْرِ عِنْدَ الْآخَرِينَ .
وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَقَعَ لَهُمْ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إِمَّا بِتَعَمُّلٍ وَتَكَلُّفٍ وَتَعَلُّمٍ وَتَصَنُّعٍ ، أَوْ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الطَّبْعِ وَقَذْفٍ مِنَ النَّفْسِ عَلَى اللِّسَانِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجُوزُ اتِّفَاقُهُ مِنَ الطَّبَائِعِ ، لَمْ يَنْفَكَّ الْعَالَمُ مِنْ قَوْمٍ يَتَّفِقُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ، وَيَعْرِضُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ ، وَتَجِيشُ بِهِ خَوَاطِرُهُمْ ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ الْكُلُّ ، مَعَ شِدَّةِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ طَرِيقَهُ التَّعَلُّمُ لَتَصَنَّعُوهُ وَلَتَعَلَّمُوهُ وَالْمُهْلَةُ لَهُمْ فَسِيحَةٌ ، وَالْأَمَدُ وَاسِعٌ .
[ ص: 63 ] * * *
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الشِّعْرِ كَيْفَ اتَّفَقَ لَهُمْ ؟ فَقَدْ قِيلَ : إِنَّهُ اتَّفَقَ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَقْصُودٍ إِلَيْهِ ، عَلَى مَا يَعْرِضُ مِنْ أَصْنَافِ النِّظَامِ فِي تَضَاعِيفِ الْكَلَامِ ، ثُمَّ لَمَّا اسْتَحْسَنُوهُ وَاسْتَطَابُوهُ وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدْ تَأْلَفُهُ الْأَسْمَاعُ وَتَقْبَلُهُ النُّفُوسُ - تَتَبَّعُوهُ مِنْ بَعْدُ وَتَعَمَّلُوهُ . وَحَكَى لِي بَعْضُهُمْ عَنْ
أَبِي عُمَرَ غُلَامِ ثَعْلَبٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15611ثَعْلَبٍ : أَنَّ الْعَرَبَ تُعَلِّمُ أَوْلَادَهَا قَوْلَ الشِّعْرِ بِوَضْعٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ ، يُوضَعُ عَلَى بَعْضِ أَوْزَانِ الشِّعْرِ كَأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ :
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْوَضْعَ " الْمَتِيرَ " وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْمَتْرِ ، وَهُوَ الْجَذْبُ أَوِ الْقَطْعُ ، يُقَالُ : مَتَرْتُ الْحَبْلَ ؛ أَيْ قَطَعْتُهُ أَوْ جَذَبْتُهُ . وَلَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْهُمْ غَيْرُهُ ، فَيُحْتَمَلُ مَا قَالَهُ .
وَأَمَّا مَا وَقَعَ السَّبْقُ إِلَيْهِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ أَوَّلًا .
وَقَدْ يُحْتَمَلُ - عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ اللُّغَةَ اصْطِلَاحٌ - أَنَّهُمْ تَوَاضَعُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ النَّظْمِ .
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ ، وَأَنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ وُجُوهِ التَّفَاصُحِ ، وَتَوَاقَفُوا بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ التَّوَاضُعَ وَقَعَ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ ، وَكَذَلِكَ التَّوْقِيفُ ، وَلَمْ يَقَعْ عَلَى فُنُونِ تَصَرُّفِ الْخِطَابِ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَلَى لِسَانِ بَعْضِهِمْ مِنَ النَّظْمِ مَا أَجْرَى ، وَفَطِنُوا لِحُسْنِهِ فَتَتَبَّعُوهُ مِنْ بَعْدُ ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ وَطَلَبُوهُ ، وَرَتَّبُوا فِيهِ الْمَحَاسِنَ الَّتِي يَقَعُ الْإِطْرَابُ بِوَزْنِهَا ، وَتَهَشُّ النُّفُوسُ إِلَيْهَا ، وَجَمَعَ دَوَاعِيَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ عَلَى اسْتِحْسَانِ وُجُوهٍ مِنْ تَرْتِيبِهَا ، وَاخْتِبَارِ طُرُقٍ مِنْ تَنْزِيلِهَا ، وَعَرَّفَهُمْ مَحَاسِنَ الْكَلَامِ ، وَدَلَّهُمْ عَلَى كُلِّ طَرِيقَةٍ عَجِيبَةٍ ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ عَجْزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ ، وَأَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي تَتَنَاهَى إِلَيْهِ قُدَرُهُمْ هُوَ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ لُغَتِهِمْ ، وَلَمْ يَشِذَّ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِهِمْ ، بَلْ قَدْ عَرَضَ فِي خِطَابِهِمْ ، وَوَجَدُوا أَنَّ
[ ص: 64 ] هَذَا لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ مَعَ التَّحَدِّي وَالتَّقْرِيعِ الشَّدِيدِ وَالْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إِلَيْهِ ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِطَرِيقِ وَضْعِ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، وَتَكَامُلِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ - دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ لِيَكُونَ دَلَالَةً عَلَى النُّبُوَّةِ وَمُعْجِزَةً عَلَى الرِّسَالَةِ . وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْقَوْمُ إِذَا اهْتَدَوْا فِي الِابْتِدَاءِ إِلَى وَضْعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ إِلَيْهَا الْخِطَابُ عَلَى بَرَاعَتِهِ وَحُسْنِ انْتِظَامِهِ ، فَلَأَنْ يَقْدِرُوا بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَى وَجْهِهِ وَالتَّحَدِّي إِلَيْهِ ، أَوْلَى أَنْ يُبَادِرُوا إِلَيْهِ ، لَوْ كَانَ لَهُمْ إِلَيْهِ سَبِيلٌ .
وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ : لَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَحَيَّرُوا فِي أَمْرِهِمْ ، وَلَا تَدْخُلَ عَلَيْهِمْ شُبْهَةٌ فِيمَا نَابَهُمْ ، وَلَكَانُوا يُسْرِعُونَ إِلَى الْجَوَابِ وَيُبَادِرُونَ إِلَى الْمُعَارَضَةِ .
وَمَعْلُومٌ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَقْصِدُ إِلَى الْأُمُورِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْوَهْمِ ، وَالْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهَا ، فَيُكْثِرُ فِيهَا مِنْ شِعْرٍ وَرَجَزٍ ، وَنَجِدُ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْهُ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ وَصْفِ الْإِبِلَ وَنِتَاجِهَا ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ أَمْرِهَا لَا فَائِدَةَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا .
ثُمَّ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِاللَّسَنِ وَالذَّلَاقَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالذَّرَابَةِ ، وَيَتَنَافَرُونَ فِيهِ وَتَجْرِي بَيْنَهُمْ فِيهِ الْأَسْبَابُ الْمَنْقُولَةُ فِي الْآثَارِ ، عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِهِ .
فَاسْتَدْلَلْنَا بِتَحَيُّرِهِمْ فِي أَمْرِ الْقُرْآنِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ عَادَةِ كَلَامِهِمْ ، وَوُقُوعِهِ مَوْقِعًا يَخْرِقُ الْعَادَاتِ . وَهَذِهِ سَبِيلُ الْمُعْجِزَاتِ .
فَبَانَ بِمَا قُلْنَا
nindex.php?page=treesubj&link=18626_20759_28899أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْفَوَاصِلِ مُتَنَاسِبَةً مَوْقِعَ النَّظَائِرِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْأَسْجَاعِ ، لَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَدِّهَا ، وَلَا يُدْخِلُهَا فِي بَابِ السَّجْعِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ يَذُمُّونَ كُلَّ سَجْعٍ خَرَجَ عَنِ اعْتِدَالِ الْأَجْزَاءِ ، فَكَانَ بَعْضُ مَصَارِيعِهِ كَلِمَتَيْنِ ، وَبَعْضُهَا أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ، وَلَا يَرَوْنَ فِي ذَلِكَ فَصَاحَةً ، بَلْ يَرَوْنَهُ عَجْزًا .
فَلَوْ رَأَوْا أَنَّ مَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ سَجْعٌ ؛ لَقَالُوا : نَحْنُ نُعَارِضُهُ بِسَجْعٍ
[ ص: 65 ] مُعْتَدِلٍ ، فَنَزِيدُ فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ ، وَنَتَجَاوَزُ حَدَّهُ فِي الْبَرَاعَةِ وَالْحُسْنِ .
وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ تَرَكَ السَّجْعَ تَارَةً إِلَى غَيْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ غَيْرُ مَا قَدَّرُوهُ مِنَ التَّسْجِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ السَّجْعِ لَكَانَ أَرْفَعَ نِهَايَاتِهِ ، وَأَبْعَدَ غَايَاتِهِ .
وَلَا بُدَّ لِمَنْ جَوَّزَ السَّجْعَ فِيهِ وَسَلَكَ مَا سَلَكُوهُ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
النَّظَّامُ ،
وَعَبَّادُ بْنُ سُلَيْمَانَ ،
وَهُشَامٌ الْفُوَطِيُّ ، وَيَذْهَبُ مَذْهَبَهُمْ ، فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ وَتَأْلِيفِهِ إِعْجَازٌ ، وَأَنَّهُ يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ ، وَإِنَّمَا صُرِفُوا عَنْهُ ضَرْبًا مِنَ الصَّرْفِ .
وَيَتَضَمَّنُ كَلَامُهُ تَسْلِيمَ الْخَبْطِ فِي طَرِيقَةِ النَّظْمِ ، وَأَنَّهُ مُنْتَظِمٌ مِنْ فِرَقٍ شَتَّى ، وَمِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ يَنْقَسِمُ إِلَيْهَا خِطَابُهُمْ وَلَا يَخْرُجُ عَنْهَا ، وَيَسْتَهِينُ بِبَدِيعِ نَظْمِهِ وَعَجِيبِ تَأْلِيفِهِ الَّذِي وَقَعَ التَّحَدِّي إِلَيْهِ . وَكَيْفَ يُعْجِزُهُمُ الْخُرُوجُ عَنِ السَّجْعِ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا عَادَتَهُمْ فِي خُطَبِهِمْ وَكَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَلْزَمُونَ أَبَدًا طَرِيقَةَ السَّجْعِ وَالْوَزْنِ ، بَلْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَإِذَا ادَّعَوْا عَلَى الْقُرْآنِ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ يَجِدُوا فَاصِلَةً بَيْنَ نَظْمَيِ الْكَلَامَيْنِ .