الفائدة الثالثة والعشرون : ذكر [ خصال يجب تحققها فيمن ينصب نفسه للفتيا ] في كتابه في الخلع عن الإمام أبو عبد الله بن بطة أنه قال : أحمد ، أولها : أن تكون له نية ، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور . ( لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال )
والثانية : أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة .
الثالثة : أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفته .
الرابعة : الكفاية وإلا مضغه الناس .
الخامسة : معرفة الناس ، وهذا مما يدل على جلالة ومحله من العلم والمعرفة ; فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى ، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه . أحمد
[ ] فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى ; فإنها روح العمل وقائده وسائقه ، والعمل تابع لها يبنى عليها ، يصح بصحتها ويفسد بفسادها وبها يستجلب التوفيق ، وبعدمها يحصل الخذلان ، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة ، فكم [ ص: 153 ] بين مريد بالفتوى وجه الله ورضاه والقرب منه وما عنده ، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته وما يناله منه تخويفا أو طمعا ، فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب . النية ومنزلتها
هذا يفتي لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع ، وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع وهو المشار إليه وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما ، فالله المستعان .
وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه ، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به ; فالمخلص له المهابة والمحبة ، وللآخر المقت والبغضاء .
[ ] وأما قوله : " أن يكون له حلم ووقار وسكينة " فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار ; فإنها كسوة علمه وجماله ، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس ، وقال بعض السلف : ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم . العلم والحلم والوقار والسكينة
والناس ههنا أربعة أقسام ، فخيارهم من أوتي الحلم والعلم ، وشرارهم من عدمهما ، الثالث : من أوتي علما بلا حلم ، الرابع : عكسه فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله .
وضد الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات ; فالحليم لا يستفزه البدوات ، ولا يستخفه الذين لا يعلمون ، ولا يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل .
بل هو وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور عليه ولا تملكه أوائلها ، وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة ; فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد ، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير فيؤثره ويصير عليه وعند الشر فيصبر عنه ; فالعلم يعرفه رشده والحلم يثبته عليه ، وإذا شئت أن ترى بصيرا بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته ، وإذا شئت أن ترى صابرا على المشاق لا بصيرة له رأيته ، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له ولا بصيرة رأيته ، وإذا شئت أن ترى بصيرا صابرا لم تكد ، فإذا رأيته فقد رأيت إمام هدى حقا فاستمسك بغرزه .
والوقار والسكينة ثمرة الحلم ونتيجته .
ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة ، وأذهاننا الجامدة ، وعباراتنا الناقصة ، ولكن نحن أبناء الزمان ، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم ، ولكل زمان دولة ورجال .
[ ص: 154 ] حقيقة السكينة ] فالسكينة فعيلة من السكون ، وهو طمأنينة القلب واستقراره ، وأصلها في القلب ، ويظهر أثرها على الجوارح ، وهي عامة وخاصة .
فسكينة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - أخص مراتبها وأعلى أقسامها كالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافرا إلى ما أضرم له أعداء الله من النار ، فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر ، وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم وقد استغاث بنو إسرائيل : يا موسى إلى أين تذهب بنا ؟ هذا البحر أمامنا وهذا فرعون خلفنا ، وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له نداء ونجاء كلاما حقيقة سمعه حقيقة بأذنه ، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانا مبينا ، وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة ، وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما ، وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره ; فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر ، وهي من أعظم معجزاته عند أرباب البصائر ، فإن الكذاب - ولا سيما على الله - أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطرابا في مثل هذه المواطن ; فلو لم يكن للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم .
[ السكينة الخاصة ] وأما الخاصة فتكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم ، وهي سكينة الإيمان ، وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك ، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والأرض وكان الله عليما حكيما } فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم ، وهي السكينة عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه مثل رضي الله عنه ، وذلك يوم عمر بن الخطاب الحديبية ، قال الله - سبحانه وتعالى - يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا إليها : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } لما علم الله - سبحانه وتعالى - ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لما منعهم [ ص: 155 ] كفار قريش من دخول بيت الله ، وحبسوا الهدي عن محله ، واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة ، فاضطربت قلوبهم ، وقلقت ولم تطق الصبر ، فعلم - تعالى - ما فيها ، فثبتها بالسكينة رحمة منه ورأفة ولطفا ، وهو اللطيف الخبير ، وتحتمل الآية وجها آخر ، وهو أنه - سبحانه - علم ما في قلوبهم من الإيمان والخير ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها واضطرابها ، والظاهر أن الآية تعم الأمرين ، وهو أنه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون معه إلى إنزال السكينة وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب إنزالها ، ثم قال بعد ذلك : { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما } لما كانت حمية الجاهلية توجب من الأقوال والأعمال ما يناسبها جعل الله في قلوب أوليائه سكينة تقابل حمية الجاهلية ، وفي ألسنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور ، فكان حظ ، المؤمنين السكينة في قلوبهم ، وكلمة التقوى على ألسنتهم ، وحظ أعدائهم حمية الجاهلية في قلوبهم ، وكلمة الفجور والعدوان على ألسنتهم ; فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جندا من جند الله أيد بها الله رسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب أوليائه وألسنتهم .
وثمرة هذه السكينة الطمأنينة للخير تصديقا وإيقانا وللأمر تسليما وإذعانا ، فلا تدع شبهة تعارض الخير ولا إرادة تعارض الأمر ، فلا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة من مرور الوساوس الشيطانية التي يبتلى بها العبد ليقوى إيمانه ، ويعلو عند الله ميزانه ، بمدافعتها وردها وعدم السكون إليها ، فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند الله .
فصل :
[ السكينة عند القيام بوظائف العبودية ] ومنها السكينة عند القيام بوظائف العبودية ، وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على الله - تعالى - بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه ، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها ، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال { لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه } .
فإن قلت : قد ذكرت أقسامها ونتيجتها وثمرتها وعلامتها ، فما أسبابها الجالبة لها ؟ [ أسباب السكينة ] قلت : سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه ، وكلما اشتدت هذه [ ص: 156 ] المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع والخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها ، فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به ، ولقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصول أعمال القلب ، وفروعها كلها في كلمة واحدة ، وهي قوله في الإحسان { } فتأمل كل مقام من مقامات الدين ، وكل عمل من أعمال القلوب ، كيف تجد هذا أصله ومنبعه ؟ . أن تعبد الله كأنك تراه
والمقصود أن العبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان ليثبت قلبه ولا يزيغ ، وعند الوساوس والخطرات القادحة في أعمال الإيمان لئلا تقوى وتصير هموما وغموما وإرادات ينقص بها إيمانه ، وعند أسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه ، وعند أسباب الفرح لئلا يطمح به مركبه فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب ترحا وحزنا ، وكم ممن أنعم الله عليه بما يفرحه فجمح به مركب الفرح وتجاوز الحد فانقلب ترحا عاجلا ، ولو أعين بسكينة تعدل فرحه لأريد به الخير ، وبالله التوفيق ، وعند هجوم الأسباب المؤلمة على اختلافها الظاهرة والباطنة ، فما أحوجه إلى السكينة حينئذ ، وما أنفعها له ، وأجداها عليه ، وأحسن عاقبتها ، .
والسكينة في هذه المواطن علامة على الظفر ، وحصول المحبوب ، واندفاع المكروه ، وفقدها علامة على ضد ذلك ، لا يخطئ هذا ولا هذا ، والله المستعان .
[ الاضطلاع بالعلم ] وأما قوله " أن يكون قويا على ما هو فيه ، وعلى معرفته " أي مستظهرا مضطلعا بالعلم متمكنا منه ، غير ضعيف فيه ; فإنه إذا كان ضعيفا قليل البضاعة غير مضطلع به أحجم عن الحق في موضع ينبغي فيه الإقدام لقلة علمه بمواضع الإقدام والإحجام ، فهو يقدم في غير موضعه ، ويحجم في غير موضعه ، ولا بصيرة له بالحق ، ولا قوة له على تنفيذه ; فالمفتي محتاج إلى قوة في العلم وقوة في التنفيذ ، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له .
[ الكفاية ] وأما قوله " الرابعة الكفاية وإلا مضغه الناس " فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم ، فلا يأكل منهم شيئا إلا أكلوا من لحمه وعرضه أضعافه ، وقد كان شيء من مال ، وكان لا يتروى في بذله ويقول : لولا ذلك لتمندل [ ص: 157 ] بنا هؤلاء ; فالعالم إذا منح غناء فقد أعين على تنفيذ علمه ، وإذا احتاج إلى الناس فقد مات علمه وهو ينظر . لسفيان الثوري
[ ] وأما قوله " الخامسة معرفة الناس " فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم ، فإن لم يكن فقيها فيه فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق أحدهما على الآخر ، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح ، فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه ، والمحق بصورة المبطل وعكسه ، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال ، وتصور له الزنديق في صورة الصديق ، والكاذب في صورة الصادق ، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور ، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا ، بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم ، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال ، وذلك كله من دين الله كما تقدم بيانه ، وبالله التوفيق معرفة الناس