الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ كذلكة المفتي ] الفائدة السادسة والعشرون : في حكم كذلكة المفتي ، ولا يخلو من حالين إما أن يعلم صواب جواب من تقدمه بالفتيا أو لا يعلم ، فإن علم صواب جوابه فله أن يكذلك ، وهل الأولى له الكذلكة أو الجواب المستقل ؟ فيه تفصيل ، فلا يخلو المبتدئ إما أن يكون أهلا أو متسلقا متعاطيا ما ليس له بأهل ، فإن كان الثاني فتركه الكذلكة أولى مطلقا ; إذ في كذلكته تقرير له على الإفتاء ، وهو كالشهادة له بالأهلية ، وكان بعض أهل العلم يضرب على فتوى من كتب وليس بأهل ، فإن لم يتمكن من ذلك خوف الفتنة منه فقد قيل : لا يكتب معه في الورقة ، ويرد السائل ، وهذا نوع تحامل .

والصواب أنه يكتب في الورقة الجواب ، ولا يأنف من الإخبار بدين الله الذي يجب عليه الإخبار به لكتابة من ليس بأهل ; فإن هذا ليس عذرا عند الله ورسوله وأهل العلم في كتمان الحق ، بل هذا نوع رياسة وكبر ، والحق لله عز وجل ، فكيف يجوز أن يعطل حق الله ويكتم دينه لأجل كتابة من ليس بأهل ؟ وقد نص الإمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازة فرأى فيها منكرا لا يقدر على إزالته أنه لا يرجع ، ونص على أنه إذا دعي إلى وليمة عرس فرأى فيها منكرا لا يقدر على إزالته أنه يرجع ، فسألت شيخنا عن الفرق فقال : لأن الحق في الجنازة للميت ، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر ، والحق في الوليمة لصاحب البيت ، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة ، وإن كان المبتدي بالجواب أهلا للإفتاء فلا يخلو إما أن يعلم المكذلك صواب [ ص: 161 ] جوابه أو لا يعلم ، فإن لم يعلم صوابه لم يجز له أن يكذلك تقليدا له ; إذ لعله أن يكون قد غلط ، ولو نبه لرجع ، وهو معذور ، وليس المكذلك معذورا ، بل مفت بغير علم ، ومن أفتى بغير علم فإثمه على من أفتاه ، وهو أحد المفتين الثلاثة الذين ثلثاهم في النار ، وإن علم أنه قد أصاب فلا يخلو إما أن تكون المسألة ظاهرة لا يخفى وجه الصواب فيها بحيث لا يظن بالمكذلك أنه قلده فيما لا يعلم أو تكون خفية ، فإن كانت ظاهرة فالأولى الكذلكة لأنه إعانة على البر والتقوى ، وشهادة للمفتي بالصواب ، وبراءة من الكبر والحمية ، وإن كانت خفية بحيث يظن بالمكذلك أنه وافقه تقليدا محضا فإن أمكنه إيضاح ما أشكله الأول وزيادة بيان أو ذكر قيد أو تنبيه على أمر أغفله فالجواب المستقل أولى ، وإن لم يمكنه ذلك فإن شاء كذلك ، وإن شاء أجاب استقلالا .

فإن قيل : ما الذي يمنعه من الكذلكة إذا لم يعلم صوابه تقليدا له كما قلد المبتدي من فوقه ؟ فإذا أفتى الأول بالتقليد المحض فما الذي يمنع المكذلك من تقليده ؟ قيل : الجواب من وجوه ، أحدها : أن الكلام في المفتي الأول أيضا ، فقد نص الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة على أنه لا يحل للرجل أن يفتي بغير علم ، حكي في ذلك الإجماع ، وقد تقدم ذكر ذلك مستوفى .

الثاني : أن هذا الأول وإن جاز له التقليد للضرورة فهذا المكذلك المتكلف لا ضرورة له إلى تقليده ، بل هذا من بناء الضعيف على الضعيف ، وذلك لا يسوغ ، كما لا تسوغ الشهادة على الشهادة ، وكما لا يجوز المسح على الخفين على طهارة التيمم ، ونظائر ذلك كثيرة .

الثالث : أن هذا لو ساغ لصار الناس كلهم مفتين ; إذ ليس هذا بجواز تقليد المفتي أولى من غيره ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية