[ ] الفائدة الثانية والستون : قد تكرر لكثير من أهل الإفتاء الإمساك عما يفتون بها مما يعلمون أنه الحق إذا خالف غرض السائل ولم يوافقه ، وكثير منهم يسأله عن غرضه ، فإن صادفه عنه كتب له ، وإلا دله على مفت أو مذهب يكون غرضه عنده ، وهذا غير جائز على الإطلاق ، بل لا بد فيه من تفصيل ، فإن كان المسئول عنه من مسائل العلم والسنة أو من المسائل العلميات التي فيها نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسع المفتي تركه إلى غرض السائل ، بل لا يسعه توقفه في الإفتاء به على غرض السائل ، بل ذلك إثم عظيم ، وكيف يسعه من الله أن يقدم غرض السائل على الله ورسوله ؟ وإن كانت المسألة من المسائل الاجتهادية التي يتجاذب أعنتها الأقوال والأقيسة ، فإن لم يترجح له قول منها لم يسع له أن يترجح لغرض السائل ، وإن ترجح له قول منها وظن أنه الحق فأولى بذلك ; فإن السائل إنما يسأل عما يلزمه في الحكم ويسعه عند الله ، فإن عرفه المفتي أفتاه به سواء وافق غرضه أو خالفه ، ولا يسعه ذلك أيضا إذا علم أن السائل يدور على من يفتيه بغرضه في تلك المسألة فيجعل استفتاءه تنفيذا لغرضه ، لا تعبدا لله بأداء حقه ، ولا يسعه أن يدله على غرضه أين كان ، بل ولا يجب عليه أن يفتي هذا الضرب من الناس ; فإنهم لا يستفتون ديانة ، وإنما يستفتون توصلا إلى حصول أغراضهم بأي طريق اتفق ، فلا يجب على المفتي مساعدتهم ; فإنهم لا يريدون الحق ، بل يريدون أغراضهم بأي طريق وافق ، ولهذا إذا وجدوا أغراضهم في أي مذهب اتفق اتبعوه في ذلك الموضع وتمذهبوا به ، كما يفعله أرباب الخصومات بالدعاوى عند الحكام ، ولا يقصد أحدهم حاكما بعينه ، بل أي حاكم نفذ غرضه عنده صار إليه . لا يسع المفتي أن يجعل غرض السائل سائق حكمه
وقال شيخنا رحمه الله مرة : أنا مخير بين إفتاء هؤلاء وتركهم ; فإنهم لا يستفتون للدين ، بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت ، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إلي ، [ ص: 200 ] بخلاف من يسأل عن دينه ، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حق من جاءه يتحاكم إليه لأجل غرضه لا لالتزامه لدينه صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } فهؤلاء لما لم يلتزموا دينه لم يلزمه الحكم بينهم ، والله تعالى أعلم .