المسألة الرابعة :
روي أن
اليهود حين اختاروا يوم السبت قالوا : إن الله ابتدأ الخلقة يوم الأحد ، وأتمها يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فنحن نترك العمل يوم السبت .
فأكذبهم الله في قولهم بقوله تعالى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام } الآية .
فلما تركوا العمل في يوم السبت بالتزامهم ، وابتدعوه برأيهم الفاسد ، واختيارهم الفائل ، كان منهم من رعاه ، ومنهم من اخترمه فسخط الله على الجميع ، حسبما تقدم في سورة الأعراف .
واختار الله لنا يوم الجمعة ، فقبلنا خيرة ربنا لنا ، والتزمنا من غير مثنوية ما
[ ص: 171 ] ألزمنا ، وعرفنا مقدار فضله ، فقال لنا في الحديث الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=18673nindex.php?page=treesubj&link=26391خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، و فيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح إلى حين تطلع الشمس ، شفقا من الساعة ، إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه } في حديث طويل هذا أكثره .
وجمع لنا فيه الوجهين : فضل العمل في الآخرة ، وجواز العمل في الدنيا ، وخشي علينا رسول الله ما جرى لمن كان قبلنا من التنطع في يومهم الذي اختاروه ، فمنعنا من صيامه ، فقال : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30124nindex.php?page=treesubj&link=2539لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ، ولا ليلتها بقيام } .
وعلى ذلك كثير من العلماء .
ورأى
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك أن صومه جائز كسائر الأيام . وقال : إن بعض أهل العلم في زمانه كان يصومه ، وأراه كان يتحراه .
ونهي النبي عن تخصيصه أشبه بحال العالم اليوم فإنهم يخترعون في الشريعة ما يلحقهم بمن تقدم ، ويسلكون به سنتهم ; وذلك مذموم على لسان الرسول ; فإن الله شرع فيه الصلاة ، ولم يشرع فيه الصيام ، وشرع فيه الذكر والدعاء ; فوجب الاقتفاء لسنته ، والاقتصار على ما أبان من شرعته ، والفرار عن الرهبانية المبتدعة ، و الخشية من الباطل المذموم على لسان الرسول .
[ ص: 172 ]
المسألة الخامسة :
قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10902فيه خلق آدم } يعني : جمع فيه خلقه ، ونفخ فيه الروح ، وهذا فضل بين .
وقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=25274فيه أهبط إلى الأرض } يخفى وجه الفضل فيه ; ولكن العلماء أشاروا إلى أن وجه التفضيل فيه أنه تيب عليه من ذنبه ، وهبط إلى الأرض لوعد ربه ، حين قال : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إني جاعل في الأرض خليفة } .
فلما سبق الوعد به حققه الله له في ذلك ، ونفاذ الوعد خير كثير ، وفضل عظيم ، ووجه الفضل في موته أن الله جعل له ذلك اليوم للقائه .
فإن قيل : فقد جعل الله
لمحمد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وقتا للقائه .
قلنا : يكون هذا أيضا فضلا ، يشترك فيه مع يوم الجمعة ، ويبقى ليوم الجمعة فضله الذي أعطاه الله له زائدا على سائر أيام الجمعة ; ومن شارك شيئا في وجه ، وساواه فيه لا يمتنع أن يفضله في وجوه أخر سواه .
وأما وجه تفضيله في قيام الساعة فيه فلأن يوم القيامة أفضل الأيام ، فجعل قدومه في أفضل الأوقات ، وتكون فاتحته في أكرم أوقات سائر الأيام ، ومن فضله استشعار كل دابة ، وتشوقها إليه ; لما يتوقع فيه من قيام الساعة ; إذ هو وقت فنائها ، وحين اقتصاصها وجزائها ، حاش الجن والإنس اللذين ركبت فيهما الغفلة التي تردد فيها الآدمي بين الخوف والرجاء ، وهما ركنا التكليف ، ومعنى القيام بالأمر والنهي ، و فائدة جريان الأعمال على الوعد والوعيد ، وتمام الفضل ، ووجه الشرف تلك الساعة التي ينشر الباري فيها رحمته ، ويفيض في الخلق نيله ، ويظهر فيها كرمه ; فلا يبقى داع إلا يستجيب له ، ولا كرامة إلا ويؤتيها ، ولا رحمة إلا يبثها لمن تأهب لها ، واستشعر بها ، ولم يكن غافلا عنها .
ولما كان وقتا مخصوصا بالفضل من بين سائر الأوقات قرنه الله بأفضل الحالات للعبد ، وهي حالة الصلاة ، فلا عبادة أفضل منها ، ولا حالة أخص بالعبد من تلك الحالة ; لأن الله جمع فيها عبادات الملائكة كلهم ; إذ منهم قائم لا يبرح عن قيامه
[ ص: 173 ] وراكع لا يرفع عن ركوعه ، وساجد لا يتفصى من سجوده ، فجمع الله لبني
آدم عبادات الملائكة في عبادة واحدة .
وقد جاء في الحديث : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11141إن العبد إذا نام في سجوده باهى الله به ملائكته ، يقول : يا ملائكتي ، انظروا عبدي ، روحه عندي ، وبدنه في طاعتي } .
وصارت هذه الساعة في الأيام كليلة القدر في الليالي في معنى الإبهام ، لما بيناه من قبل في أن إبهامها أصلح للعباد من تعيينها لوجهين : أحدهما : أنها لو علمت وهتكوا حرمتها ما أمهلوا ، وإذا أبهمت عليهم عم عملهم اليوم كله والشهر كله ، كما أبهمت الكبائر في الطرف الآخر ، وهو جانب السيئات ، ليجتنب العبد الذنوب كلها ; فيكون ذلك أخلص له ، فإذا أراد العبد تحصيل ليلة القدر فليقم الحول على رأي
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، أو الشهر كله على رأي آخرين ، أو العشر الأواخر على رأي كل أحد .
ولقد كنت في البيت المقدس ثلاثة أحوال ، وكان بها متعبد يترصد ساعة الجمعة في كل جمعة ، فإذا كان هذا يوم الجمعة مثلا خلا بربه من طلوع الفجر إلى الضحى ، ثم انصرف ، فإذا كان في الجمعة الثانية خلا بربه من الضحى إلى زوال الشمس ، فإذا كان في الجمعة الثالثة خلا بربه من زوال الشمس إلى العصر ، ثم انقلب ، فإذا كان في الجمعة الرابعة خلا بربه من العصر إلى مغرب الشمس ، فتحصل له الساعة في أربع جمع ، فاستحسن الناس ذلك منه .
وقال لنا شيخنا
nindex.php?page=showalam&ids=14703أبو بكر الفهري : هذا لا يصح له ; لأن من الممكن أن تكون في اليوم الذي يرصدها من الزوال إلى العصر تكون من العصر إلى الغروب ، وفي اليوم الذي تكون من العصر إلى الغروب يترصدها هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلى الضحى ; إذ يمكن أن تنتقل في كل جمعة ، ولا تثبت على ساعة واحدة في كل يوم ; يشهد لصحة ذلك انتقال ليلة القدر في ليالي الشهر ; فإنها تكون في كل عام في ليلة ، لا تكون فيها في العام الآخر .
[ ص: 174 ]
والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب لهم عليها علامة مرة ، فوجدوا تلك العلامة ليلة سبع وعشرين ، وسأله آخر متى ينزل : فإنه شاسع الدار ؟ فقال له : انزل ليلة ثلاث وعشرين ، وما كان صلى الله عليه وسلم ليعلم علامة فلا يصدق ، وما كان أيضا ليسأله سائل ضعيف لا يمكنه ملازمته عن أفضل وقت ينزل إليه فيه ، وأكرم ليلة يأتيه فيها ، ليحصل له فضله ، فيحمله على الناقص عن غيره ، المحطوط عن سواه ، وهذا كله يدلك على أن من أراد تحصيل الساعة عمر اليوم كله بالعبادة ، أو تحصيل الليلة قام الشهر كله في جميع لياليه .
فإن قيل : فإذا خرج إلى الوضوء ، أو اشتغل بالأكل ، فجاءت تلك الساعة في تلك الحالة ، وهو غير داع ولا سائل ، كيف يكون حاله ؟ قلنا : إذا كان وقته كله معمورا بالعبادة والدعاء ، فجاءت وقت الوضوء أو الأكل أعطي طلبته ، وأجيبت دعوته ، ولم يحاسب من أوقاته بما لا بد له منه ، على أني قد رأيت من علمائنا من قال : إذا توضأ أو أكل ، فاشتغل بذلك بدنه ولسانه ، فليقبل على الطاعة بقلبه ، حتى يلقى تلك الساعة متعبدا بقلبه .
وهذا حسن ، وهو عندي غير لازم ; بل يكفي أن يكون ملازما للعبادة ، ما عدا أوقات الوضوء والأكل ، فيعفى عنه فيها ، ويعطى عندها كل ما سأل في غيرها بلطف الله بعباده ، وسعة رحمته لهم ، وعموم فضله ، لا رب غيره .
على أن
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلما قد كشف الغطاء عن هذا الخفاء ، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم : إنه {
nindex.php?page=hadith&LINKID=20076سئل عن الساعة التي في يوم الجمعة ، فقال : هي من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة } .
وهذا نص جلي ، والحمد لله .
وفي سنن
أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في أنها بعد العصر ، ولا يصح .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ :
رُوِيَ أَنَّ
الْيَهُودَ حِينَ اخْتَارُوا يَوْمَ السَّبْتِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ الْخِلْقَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَأَتَمَّهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَاسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَنَحْنُ نَتْرُكُ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ .
فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=38وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } الْآيَةَ .
فَلَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ بِالْتِزَامِهِمْ ، وَابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ الْفَاسِدِ ، وَاخْتِيَارِهِمْ الْفَائِلِ ، كَانَ مِنْهُمْ مَنْ رَعَاهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَرَمَهُ فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَى الْجَمِيعِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَاخْتَارَ اللَّهُ لَنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقِبَلِنَا خِيرَةَ رَبِّنَا لَنَا ، وَالْتَزَمْنَا مِنْ غَيْرِ مَثْنَوِيَّةٍ مَا
[ ص: 171 ] أَلْزَمَنَا ، وَعَرَفْنَا مِقْدَارَ فَضْلِهِ ، فَقَالَ لَنَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=18673nindex.php?page=treesubj&link=26391خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَم ، و فِيهِ أُهْبِطَ ، وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ مَاتَ ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ إلَى حِينِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ ، شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ ، إلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } فِي حَدِيثٍ طَوِيل هَذَا أَكْثَرُهُ .
وَجَمَعَ لَنَا فِيهِ الْوَجْهَيْنِ : فَضْلَ الْعَمَلِ فِي الْآخِرَةِ ، وَجَوَازَ الْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا ، وَخَشِيَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا جَرَى لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ التَّنَطُّعِ فِي يَوْمِهِمْ الَّذِي اخْتَارُوهُ ، فَمَنَعْنَا مِنْ صِيَامِهِ ، فَقَالَ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=30124nindex.php?page=treesubj&link=2539لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ ، وَلَا لَيْلَتَهَا بِقِيَامٍ } .
وَعَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَرَأَى
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكٍ أَنَّ صَوْمَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ . وَقَالَ : إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِهِ كَانَ يَصُومُهُ ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ .
وَنَهْيُ النَّبِيِّ عَنْ تَخْصِيصِهِ أَشْبَهُ بِحَالِ الْعَالِمِ الْيَوْمَ فَإِنَّهُمْ يَخْتَرِعُونَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُلْحِقُهُمْ بِمَنْ تَقَدَّمَ ، وَيَسْلُكُونَ بِهِ سُنَّتَهُمْ ; وَذَلِكَ مَذْمُومٌ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ; فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ فِيهِ الصَّلَاةَ ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ الصِّيَامَ ، وَشَرَعَ فِيهِ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ; فَوَجَبَ الِاقْتِفَاءُ لِسُنَّتِهِ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا أَبَانَ مِنْ شِرْعَتِهِ ، وَالْفِرَارُ عَنْ الرَّهْبَانِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ ، و الْخَشْيَةُ مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ .
[ ص: 172 ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :
قَوْلُهُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=10902فِيهِ خُلِقَ آدَم } يَعْنِي : جَمَعَ فِيهِ خَلْقَهُ ، وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ ، وَهَذَا فَضْلٌ بَيِّنٌ .
وَقَوْلُهُ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=25274فِيهِ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ } يَخْفَى وَجْهُ الْفَضْلِ فِيهِ ; وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ أَشَارُوا إلَى أَنَّ وَجْهَ التَّفْضِيلِ فِيهِ أَنَّهُ تِيبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَهَبَطَ إلَى الْأَرْضِ لِوَعْدِ رَبِّهِ ، حِينَ قَالَ : {
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } .
فَلَمَّا سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ حَقَّقَهُ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَنَفَاذُ الْوَعْدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ ، وَفَضْلٌ عَظِيمٌ ، وَوَجْهُ الْفَضْلِ فِي مَوْتِهِ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِلِقَائِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَقْتًا لِلِقَائِهِ .
قُلْنَا : يَكُونُ هَذَا أَيْضًا فَضْلًا ، يَشْتَرِكُ فِيهِ مَعَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَيَبْقَى لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ فَضْلُهُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لَهُ زَائِدًا عَلَى سَائِرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ ; وَمَنْ شَارِكْ شَيْئًا فِي وَجْهٍ ، وَسَاوَاهُ فِيهِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْضُلَهُ فِي وُجُوهٍ أُخَرَ سِوَاهُ .
وَأَمَّا وَجْهُ تَفْضِيلِهِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ فِيهِ فَلِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَفْضَلُ الْأَيَّامِ ، فَجَعَلَ قُدُومَهُ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ ، وَتَكُونُ فَاتِحَتُهُ فِي أَكْرَمِ أَوْقَاتِ سَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَمِنْ فَضْلِهِ اسْتِشْعَارُ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَشَوُّقُهَا إلَيْهِ ; لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ ; إذْ هُوَ وَقْتُ فَنَائِهَا ، وَحِينِ اقْتِصَاصِهَا وَجَزَائِهَا ، حَاشَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ اللَّذَيْنِ رُكِّبَتْ فِيهِمَا الْغَفْلَةُ الَّتِي تَرَدَّدَ فِيهَا الْآدَمِيُّ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، وَهُمَا رُكْنَا التَّكْلِيفِ ، وَمَعْنَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، و فَائِدَةُ جَرَيَانِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَتَمَامُ الْفَضْلِ ، وَوَجْهُ الشَّرَفِ تِلْكَ السَّاعَةُ الَّتِي يَنْشُرُ الْبَارِّي فِيهَا رَحْمَتَهُ ، وَيَفِيضُ فِي الْخَلْقِ نَيْلُهُ ، وَيَظْهَرُ فِيهَا كَرْمُهُ ; فَلَا يَبْقَى دَاعٍ إلَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ ، وَلَا كَرَامَةٌ إلَّا وَيُؤْتِيهَا ، وَلَا رَحْمَةٌ إلَّا يَبُثُّهَا لِمَنْ تَأَهَّبَ لَهَا ، وَاسْتَشْعَرَ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ غَافِلًا عَنْهَا .
وَلَمَّا كَانَ وَقْتًا مَخْصُوصًا بِالْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ قَرَنَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْحَالَاتِ لِلْعَبْدِ ، وَهِيَ حَالَةُ الصَّلَاةِ ، فَلَا عِبَادَةَ أَفْضَلُ مِنْهَا ، وَلَا حَالَةَ أَخَصُّ بِالْعَبْدِ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ ; إذْ مِنْهُمْ قَائِمٌ لَا يَبْرَحُ عَنْ قِيَامِهِ
[ ص: 173 ] وَرَاكِعٌ لَا يَرْفَعُ عَنْ رُكُوعِهِ ، وَسَاجِدٌ لَا يَتَفَصَّى مِنْ سُجُودِهِ ، فَجَمَعَ اللَّهُ لِبَنِي
آدَمَ عِبَادَاتِ الْمَلَائِكَةِ فِي عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=11141إنَّ الْعَبْدَ إذَا نَامَ فِي سُجُودِهِ بَاهَى اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ ، يَقُولُ : يَا مَلَائِكَتِي ، اُنْظُرُوا عَبْدِي ، رُوحُهُ عِنْدِي ، وَبَدَنُهُ فِي طَاعَتِي } .
وَصَارَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ فِي الْأَيَّامِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي أَنَّ إبْهَامَهَا أَصْلَحُ لِلْعِبَادِ مِنْ تَعْيِينِهَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا لَوْ عُلِمَتْ وَهَتَكُوا حُرْمَتَهَا مَا أُمْهِلُوا ، وَإِذَا أُبْهِمَتْ عَلَيْهِمْ عَمَّ عَمَلُهُمْ الْيَوْمَ كُلَّهُ وَالشَّهْرَ كُلَّهُ ، كَمَا أُبْهِمَتْ الْكَبَائِرُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ ، وَهُوَ جَانِبُ السَّيِّئَاتِ ، لِيَجْتَنِبَ الْعَبْدُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا ; فَيَكُونُ ذَلِكَ أَخْلَصُ لَهُ ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ تَحْصِيلَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَلْيَقُمْ الْحَوْلَ عَلَى رَأْيِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَوْ الشَّهْرَ كُلَّهُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ ، أَوْ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ عَلَى رَأْيِ كُلِّ أَحَدٍ .
وَلَقَدْ كُنْت فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ، وَكَانَ بِهَا مُتَعَبِّدٌ يَتَرَصَّدُ سَاعَةَ الْجُمُعَةِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَثَلًا خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الضُّحَى ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الضُّحَى إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّالِثَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إلَى الْعَصْرِ ، ثُمَّ انْقَلَبَ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْجُمُعَةِ الرَّابِعَةِ خَلَا بِرَبِّهِ مِنْ الْعَصْرِ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، فَتَحْصُلُ لَهُ السَّاعَةُ فِي أَرْبَعِ جُمَعٍ ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ .
وَقَالَ لَنَا شَيْخُنَا
nindex.php?page=showalam&ids=14703أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ : هَذَا لَا يَصِحُّ لَهُ ; لِأَنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَرْصُدُهَا مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْعَصْرِ تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ ، وَفِي الْيَوْمِ الَّذِي تَكُونُ مِنْ الْعَصْرِ إلَى الْغُرُوبِ يَتَرَصَّدُهَا هُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى الضُّحَى ; إذْ يُمْكِنُ أَنْ تَنْتَقِلَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَى سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ ; يَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ انْتِقَالُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي لَيَالِيِ الشَّهْرِ ; فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي لَيْلَةٍ ، لَا تَكُونُ فِيهَا فِي الْعَامِ الْآخَرِ .
[ ص: 174 ]
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ لَهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً مَرَّةً ، فَوَجَدُوا تِلْكَ الْعَلَامَةَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ، وَسَأَلَهُ آخَرُ مَتَى يَنْزِلُ : فَإِنَّهُ شَاسِعُ الدَّارِ ؟ فَقَالَ لَهُ : انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ، وَمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمَ عَلَامَةً فَلَا يَصْدُقُ ، وَمَا كَانَ أَيْضًا لِيَسْأَلهُ سَائِلٌ ضَعِيفٌ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَتُهُ عَنْ أَفْضَلِ وَقْتٍ يَنْزِلُ إلَيْهِ فِيهِ ، وَأَكْرَمِ لَيْلَةٍ يَأْتِيه فِيهَا ، لِيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُهُ ، فَيَحْمِلُهُ عَلَى النَّاقِصِ عَنْ غَيْرِهِ ، الْمَحْطُوطِ عَنْ سِوَاهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ السَّاعَةِ عَمَرَ الْيَوْمَ كُلَّهُ بِالْعِبَادَةِ ، أَوْ تَحْصِيلَ اللَّيْلَةِ قَامَ الشَّهْرَ كُلَّهُ فِي جَمِيعِ لَيَالِيِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْوُضُوءِ ، أَوْ اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعَةُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ وَلَا سَائِلٍ ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ ؟ قُلْنَا : إذَا كَانَ وَقْتُهُ كُلُّهُ مَعْمُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالدُّعَاءِ ، فَجَاءَتْ وَقْتَ الْوُضُوءِ أَوْ الْأَكْلِ أُعْطِيَ طَلِبَتَهُ ، وَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ ، وَلَمْ يُحَاسَبْ مِنْ أَوْقَاتِهِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، عَلَى أَنِّي قَدْ رَأَيْت مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : إذَا تَوَضَّأَ أَوْ أَكَلَ ، فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ بَدَنُهُ وَلِسَانُهُ ، فَلِيُقْبِلْ عَلَى الطَّاعَةِ بِقَلْبِهِ ، حَتَّى يَلْقَى تِلْكَ السَّاعَةَ مُتَعَبِّدًا بِقَلْبِهِ .
وَهَذَا حَسَنُ ، وَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ لَازِمٍ ; بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لِلْعِبَادَةِ ، مَا عَدَّا أَوْقَاتِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ ، فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهَا ، وَيُعْطَى عِنْدَهَا كُلَّ مَا سَأَلَ فِي غَيْرِهَا بِلُطْفِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ ، وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ لَهُمْ ، وَعُمُومِ فَضْلِهِ ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=17080مُسْلِمًا قَدْ كَشَفَ الْغِطَاءَ عَنْ هَذَا الْخَفَاءِ ، فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ {
nindex.php?page=hadith&LINKID=20076سُئِلَ عَنْ السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : هِيَ مِنْ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ } .
وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَفِي سُنَنِ
أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ فِي أَنَّهَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَلَا يَصِحُّ .