[ ص: 413 ] ثم دخلت سنة ثمان وثمانين
فيها مسلمة بن عبد الملك وابن أخيه غزا الصائفة العباس بن الوليد بن عبد الملك ، فافتتحا بمن معهما من المسلمين حصن طوانة في جمادى من هذه السنة ، وكان حصنا منيعا اقتتل الناس عنده قتالا عظيما ، ثم حمل المسلمون على النصارى ، فهزموهم حتى أدخلوهم الكنيسة ، ثم خرجت النصارى فحملوا على المسلمين ، فانهزم المسلمون ، ولم يبق أحد منهم في موقفه إلا العباس بن الوليد ، ومعه ابن محيريز الجمحي ، فقال العباس لابن محيريز : أين قراء القرآن الذين يريدون وجه الله عز وجل؟ فقال : نادهم يأتوك . فنادى : يا أهل القرآن . فتراجع الناس ، فحملوا على النصارى فكسروهم ، ولجأوا إلى الحصن ، فحاصروهم حتى فتحوه .
وذكر ابن جرير أن في شهر ربيع الأول من هذه السنة قدم كتاب الوليد على عمر بن عبد العزيز بالمدينة ، يأمره المسجد النبوي ، وإضافة حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وأن يوسعه من قبلته وسائر نواحيه ، حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع ، فمن باعك ملكه فاشتر منه ، وإلا فقومه له قيمة عدل ، ثم اهدم ، وادفع إليهم أثمان بيوتهم ، فإن لك في ذلك سلف صدق; بهدم عمر وعثمان .
فجمع عمر بن عبد العزيز وجوه الناس ، والفقهاء العشرة أهل المدينة ، [ ص: 414 ] وقرأ عليهم كتاب الوليد ، فشق عليهم ذلك وقالوا : هذه حجر قصيرة السقوف ، وسقوفها من جريد النخل ، وحيطانها من اللبن ، وعلى أبوابها المسوح ، وتركها على حالها أولى; لينظر إليها الحجاج والزوار والمسافرون ، وإلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فينتفعوا بذلك ويعتبروا به ، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا ، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة ، وهو ما يستر ويكن ، ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما هو من أفعال الفراعنة والأكاسرة ، وكل طويل الأمل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها .
فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم ، فأرسل إليه يأمره بالخراب وبناء المسجد على ما ذكر ، وأن يعلي سقوفه ، فلم يجد عمر بدا من هدمها ، ولما شرعوا في الهدم صاح الأشراف ووجوه الناس من بني هاشم وغيرهم ، وتباكوا مثل يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجاب من له ملك متاخم للمسجد للبيع فاشترى منهم ، وشرع في بنائه ، وشمر عن إزاره ، واجتهد في ذلك ، وجاءته فعول كثيرة من قبل الوليد ، فأدخل فيه الحجرة النبوية ، حجرة عائشة ، فدخل القبر في المسجد ، وكانت حده من الشرق ، وسائر حجر أمهات المؤمنين ، كما أمر الوليد .
وروينا أنهم لما حفروا الحائط الشرقي من حجرة عائشة بدت لهم قدم ، فخشوا أن تكون قدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحققوا أنها قدم عمر بن الخطاب [ ص: 415 ] رضي الله عنه . ويحكى أن أنكر إدخال حجرة سعيد بن المسيب عائشة في المسجد ، كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجدا ، والله أعلم .
وذكر ابن جرير أن الوليد كتب إلى ملك الروم يسأله أن يبعث له صناعا للبناء ، فبعث إليه بمائة صانع ، وفصوص كثيرة من أجل المسجد النبوي نحو خمسين حملا ، ومائة ألف دينار والمشهور أن هذا إنما كان من أجل مسجد دمشق . فالله أعلم .
وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يحفر الفوارة بالمدينة ، وأن يجري ماءها ، ففعل ، وأمره أن يحفر الآبار ، وأن يسهل الطرق والثنايا ، وساق إلى الفوارة الماء من ظاهر المدينة ، والفوارة بنيت في ظاهر المسجد ، عند بقعة رآها فأعجبته .
وفيها ملك الترك قتيبة بن مسلم غزا كورمغانون ابن أخت ملك الصين ، ومعه مائتا ألف مقاتل من أهل الصغد وفرغانة وغيرهم ، فاقتتلوا قتالا شديدا وكان مع قتيبة نيزك ملك الترك مأسورا ، فكسرهم ، وغنم من أموالهم شيئا كثيرا ، وقتل منهم خلقا وسبى وأسر . قتيبة بن مسلم
وفيها حج بالناس عمر بن عبد العزيز ومعه جماعات من أشراف قريش ، فلما كان بالتنعيم لقيه طائفة من أهل مكة ، فأخبروه عن قلة الماء بمكة لقلة المطر ، [ ص: 416 ] فقال لأصحابه : ألا نستمطر؟ فدعا ودعا الناس ، فما زالوا يدعون حتى سقوا ، ودخلوا مكة ومعهم المطر ، وجاء سيل عظيم حتى خاف أهل مكة من شدة المطر ، ومطرت عرفة ومزدلفة ومنى ، وأخصبت الأرض هذه السنة خصبا عظيما بمكة وما حولها ، وذلك ببركة دعاء عمر بن عبد العزيز ومن كان معه من الصالحين . وكان النواب على البلدان في هذه السنة هم الذين كانوا قبلها .