[ ص: 349 ] ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
فيها
nindex.php?page=treesubj&link=33758سار محمد ابن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ، ومعه الجيوش من
أهل الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة .
وفيها قدم
nindex.php?page=showalam&ids=15346محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور على أبيه من بلاد
خراسان ، ودخل بابنة عمه
ريطة بنت السفاح بالحيرة .
وفيها حج بالناس
أبو جعفر المنصور ، واستخلف على
الميرة والعسكر
خازم بن خزيمة ، وولى
رياح بن عثمان المري المدينة ، وعزل عنها
محمد بن خالد بن عبد الله القسري .
وتلقى الناس
أبا جعفر المنصور في أثناء طريق
مكة في حجه سنة أربعين ، فكان من جملة من تلقاه
عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ، فأجلسه
المنصور معه على السماط ، ثم جعل يحادثه ، وأقبل عليه إقبالا زائدا بحيث اشتغل بذلك عن عامة غدائه ، وسأله عن ابنيه;
إبراهيم ومحمد : لم لا جاءاني مع الناس؟ فحلف
عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض
[ ص: 350 ] الله . وصدق في ذلك ، وما ذاك إلا أن
محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة من
أهل الحجاز في أواخر دولة
مروان الحمار بالخلافة ، وخلع
مروان ، وكان في جملة من بايعه على ذلك
أبو جعفر المنصور ، وذلك قبل تحويل الدولة إلى
بني العباس ، فلما صارت الخلافة إلى
nindex.php?page=showalam&ids=15337أبي جعفر المنصور خاف
محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه
إبراهيم منه خوفا شديدا; وذلك لأنه توهم منهما أن يخرجا عليه ، والذي خاف منه وقع فيه ، ولما خافاه ذهبا منه هربا في البلاد الشاسعة ، فصارا إلى
اليمن ، ثم سارا إلى
الهند ، ثم تحولا إلى
المدينة فاختفيا بها ، فدل على مكانهما
الحسن بن زيد ، فهربا إلى موضع آخر ، فاستدل عليه
الحسن بن زيد ، فدل عليهما ثم كذلك ، وانتصب ألبا عليهما عند
المنصور ، والعجب أنه من أتباعهما ، واجتهد
المنصور بكل طريق على تحصيلهما ، فلم يتفق له ذلك إلى الآن ، فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا إليه من البلاد ثم ألح
المنصور على
عبد الله في طلب ولديه ، فغضب
عبد الله من ذلك ، وقال : والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما . فغضب
المنصور ، وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله ، ولبث في السجن ثلاث سنين ، وأشاروا على
المنصور بحبس
بني حسن عن آخرهم فحبسهم ، وجد في طلب
إبراهيم ومحمد جدا ، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين ، ويكمنان في
المدينة في غالب الأوقات ، ولا يشعر بهما من ينم عليهما ، ولله الحمد .
والمنصور يعزل نائبا عن
المدينة ويولي عليها غيره ، ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما ، وبذل الأموال في طلبهما ، وتعجزه المقادير في ذلك لما يريده الله عز وجل .
[ ص: 351 ] وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء
المنصور يقال له :
أبو العساكر خالد بن حسان . فعزموا في بعض الحجات على الفتك
بأبي جعفر المنصور بين
الصفا والمروة ، فنهاهم
عبد الله بن حسن لشرف البقعة . وقد اطلع
المنصور على ذلك ، وعلم بما مالأهما ذلك الأمير ، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالئوا عليه من الفتك به . فقال : وما الذي صرفكم عن ذلك؟ فقال :
عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك . فأمر به الخليفة فغيب في الأرض ، فلم يظهر حتى الآن .
وقد استشار
المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر
ابني عبد الله بن حسن ، وبعث الجواسيس والقصاد إليهما ، فلم يقع لهما على خبر ، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر ، والله غالب على أمره .
وقد جاء
محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال : يا أمه ، إني قد شققت على أبي وعمومتي ، ولقد هممت أن أضع يدي في أيدي هؤلاء لأريح أهلي . فذهبت أمه إليهم إلى السجن ، فعرضت عليهم ما قال ابنها ، فقالوا : لا ، بل نصبر على أمره ، فلعل الله أن يفتح على يديه خيرا ، ونحن نصبر ، وفرجنا بيد الله . وتمالئوا كلهم على ذلك ، رحمهم الله .
وفي هذه السنة نقلوا من
المدينة إلى حبس
بالعراق وفي أرجلهم القيود ، وفي أعناقهم الأغلال . وكان ابتداء تقييدهم من
الربذة بأمر
nindex.php?page=showalam&ids=15337أبي جعفر المنصور ، وقد أشخص معهم
محمد بن عبد الله العثماني ، وكان أخا
عبد الله بن حسن لأمه ، وكانت ابنته تحت
إبراهيم بن عبد الله ، وقد حملت قريبا ، فاستحضره الخليفة ، فقال له : قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني ، وهذه
[ ص: 352 ] ابنتك حامل! فإن كان من زوجها فقد حنثت ، وإن كان من غيره فأنت ديوث . فأجابه
العثماني بجواب أحفظه به ، فأمر به فجردت عنه ثيابه ، فإذا جسمه كأنه الفضة النقية ، ثم ضرب بين يدي الخليفة مائة وخمسين سوطا ، منها ثلاثون فوق رأسه ، أصاب أحدها عينه فسالت ، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب ، وتراكم الدماء فوق جلده ، فأجلس إلى جانب أخيه لأمه
عبد الله بن حسن ، فاستسقى فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم ، ثم ركب الخليفة في هودجه ، وأركبوا أولئك في محامل ضيقة ، وعليهم القيود والأغلال فاجتاز بهم
المنصور وهو في هودجه ، فناداه
عبد الله بن حسن : والله يا
أبا جعفر ما هكذا صنعنا بأسراكم يوم
بدر . فأخسأه
المنصور ، وتفل عليه ، ونفر عنهم . ولما انتهوا إلى
العراق حبسوا
بالهاشمية ، وكان فيهم
محمد بن إبراهيم بن حسن ، وكان جميلا يذهب الناس لينظروا إليه من حسنه ، وكان يقال له : الديباج الأصفر . فأحضره
المنصور بين يديه ، وقال له : أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد . ثم ألقاه بين أسطوانتين ، وسد عليه حتى مات . وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم فيما بعد على ما سنذكره .
فكان فيمن هلك في السجن
عبد الله بن حسن ، وقد قيل وهو الأظهر : إنه قتل صبرا . وأخوه
إبراهيم بن حسن ، وقل من خرج منهم من الحبس ، وقد كانوا في سجن لا يسمعون فيه التأذين ، ولا يعرفون وقت الصلاة إلا بالتلاوة ، ثم
[ ص: 353 ] بعث
أهل خراسان يشفعون في
محمد بن عبد الله العثماني ، فأمر به ، فضربت عنقه ، وأرسل برأسه إلى
أهل خراسان .
وهو
محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي ، أبو عبد الله المدني المعروف بالديباج ، لحسن وجهه ، وأمه
فاطمة بنت الحسين بن علي ، روى الحديث عن أبيه وأمه
nindex.php?page=showalam&ids=15786وخارجة بن زيد nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=11863وأبي الزناد nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ونافع وغيرهم ، وحدث عنه جماعة ، ووثقه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان ، وكان أخا
عبد الله بن حسن بن حسن لأمه ، وكانت ابنته
رقية زوجة ابن أخيه
إبراهيم بن عبد الله ، وبسببها قتله
أبو جعفر المنصور في هذه السنة . وكان كريما جوادا ممدحا .
قال
الزبير بن بكار : أنشدني
سليمان بن عياش السعدي لأبي وجزة السعدي يمدحه :
وجدنا المحض الابيض من قريش فتى بين الخليفة والرسول أتاك المجد من هنا وهنا
وكنت له بمعتلج السيول [ ص: 354 ] فما للمجد دونك من مبيت
وما للمجد دونك من مقيل ولا ممضى وراءك تبتغيه
وما هو قابل بك من بديل
[ ص: 349 ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا
nindex.php?page=treesubj&link=33758سَارَ مُحَمَّدٌ ابْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ عَنْ أَمْرِ عَمِّهِ الْمَنْصُورِ إِلَى بِلَادِ الدَّيْلَمِ ، وَمَعَهُ الْجُيُوشُ مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ وَالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ .
وَفِيهَا قَدِمَ
nindex.php?page=showalam&ids=15346مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَلَى أَبِيهِ مِنْ بِلَادِ
خُرَاسَانَ ، وَدَخَلَ بِابْنَةِ عَمِّهِ
رَيْطَةَ بِنْتِ السَّفَّاحِ بِالْحِيرَةِ .
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ
أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمِيرَةِ وَالْعَسْكَرِ
خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، وَوَلَّى
رِيَاحَ بْنَ عُثْمَانَ الْمَرِّيَّ الْمَدِينَةَ ، وَعَزَلَ عَنْهَا
مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ .
وَتَلَقَّى النَّاسُ
أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ فِي أَثْنَاءِ طَرِيقِ
مَكَّةَ فِي حَجِّهِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَلَقَّاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَأَجْلَسَهُ
الْمَنْصُورُ مَعَهُ عَلَى السِّمَاطِ ، ثُمَّ جَعَلَ يُحَادِثُهُ ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ إِقْبَالًا زَائِدًا بِحَيْثُ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ غَدَائِهِ ، وَسَأَلَهُ عَنِ ابْنَيْهِ;
إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ : لِمَ لَا جَاءَانِي مَعَ النَّاسِ؟ فَحَلَفَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ صَارَا مِنْ أَرْضِ
[ ص: 350 ] اللَّهِ . وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ كَانَ قَدْ بَايَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْحِجَازِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ
مَرْوَانَ الْحِمَارِ بِالْخِلَافَةِ ، وَخَلَعَ
مَرْوَانَ ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ
أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْوِيلِ الدَّوْلَةِ إِلَى
بَنِي الْعَبَّاسِ ، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=15337أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ خَافَ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَخُوهُ
إِبْرَاهِيمُ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ مِنْهُمَا أَنْ يَخْرُجَا عَلَيْهِ ، وَالَّذِي خَافَ مِنْهُ وَقَعَ فِيهِ ، وَلَمَّا خَافَاهُ ذَهَبَا مِنْهُ هَرَبًا فِي الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ ، فَصَارَا إِلَى
الْيَمَنِ ، ثُمَّ سَارَا إِلَى
الْهِنْدِ ، ثُمَّ تَحَوَّلَا إِلَى
الْمَدِينَةِ فَاخْتَفَيَا بِهَا ، فَدَلَّ عَلَى مَكَانِهِمَا
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ ، فَهَرَبَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ ، فَدَلَّ عَلَيْهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ ، وَانْتَصَبَ أَلْبًا عَلَيْهِمَا عِنْدَ
الْمَنْصُورِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمَا ، وَاجْتَهَدَ
الْمَنْصُورُ بِكُلِّ طَرِيقٍ عَلَى تَحْصِيلِهِمَا ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ إِلَى الْآنِ ، فَلَمَّا سَأَلَ أَبَاهُمَا عَنْهُمَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ صَارَا إِلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ ثُمَّ أَلَحَّ
الْمَنْصُورُ عَلَى
عَبْدِ اللَّهِ فِي طَلَبِ وَلَدَيْهِ ، فَغَضِبَ
عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لَوْ كَانَا تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا دَلَلْتُكَ عَلَيْهِمَا . فَغَضِبَ
الْمَنْصُورُ ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ وَأَمَرَ بِبَيْعِ رَقِيقِهِ وَأَمْوَالِهِ ، وَلَبِثَ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَ سِنِينَ ، وَأَشَارُوا عَلَى
الْمَنْصُورِ بِحَبْسِ
بَنِي حَسَنٍ عَنْ آخِرِهِمْ فَحَبَسَهُمْ ، وَجَدَّ فِي طَلَبِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ جَدًّا ، هَذَا وَهُمَا يَحْضُرَانِ الْحَجَّ فِي غَالِبِ السِّنِينَ ، وَيَكْمُنَانِ فِي
الْمَدِينَةِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِمَا مَنْ يَنِمُّ عَلَيْهِمَا ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
وَالْمَنْصُورُ يَعْزِلُ نَائِبًا عَنِ
الْمَدِينَةِ وَيُوَلِّي عَلَيْهَا غَيْرَهُ ، وَيُحَرِّضُهُ عَلَى إِمْسَاكِهِمَا وَالْفَحْصِ عَنْهُمَا ، وَبِذْلِ الْأَمْوَالِ فِي طَلَبِهِمَا ، وَتُعْجِزُهُ الْمَقَادِيرُ فِي ذَلِكَ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
[ ص: 351 ] وَقَدْ وَاطَأَهُمَا عَلَى أَمْرِهِمَا أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ
الْمَنْصُورِ يُقَالُ لَهُ :
أَبُو الْعَسَاكِرِ خَالِدُ بْنُ حَسَّانَ . فَعَزَمُوا فِي بَعْضِ الْحَجَّاتِ عَلَى الْفَتْكِ
بِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَنَهَاهُمْ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ لِشَرَفِ الْبُقْعَةِ . وَقَدِ اطَّلَعَ
الْمَنْصُورُ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلِمَ بِمَا مَالَأَهُمَا ذَلِكَ الْأَمِيرُ ، فَعَذَّبَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِمَا كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَتْكِ بِهِ . فَقَالَ : وَمَا الَّذِي صَرَفَكُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ :
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ . فَأَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ فَغُيِّبَ فِي الْأَرْضِ ، فَلَمْ يَظْهَرْ حَتَّى الْآنَ .
وَقَدِ اسْتَشَارَ
الْمَنْصُورُ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي أَمْرِ
ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ ، وَبَعَثَ الْجَوَاسِيسَ وَالْقُصَّادَ إِلَيْهِمَا ، فَلَمْ يَقَعْ لَهُمَا عَلَى خَبَرٍ ، وَلَا ظَهَرَ لَهُمَا عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ .
وَقَدْ جَاءَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ : يَا أُمَّهْ ، إِنِّي قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أَبِي وَعُمُومَتِي ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضَعَ يَدِي فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ لِأُرِيحَ أَهْلِي . فَذَهَبَتْ أُمُّهُ إِلَيْهِمْ إِلَى السِّجْنِ ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِمْ مَا قَالَ ابْنُهَا ، فَقَالُوا : لَا ، بَلْ نَصْبِرُ عَلَى أَمْرِهِ ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى يَدَيْهِ خَيْرًا ، وَنَحْنُ نَصْبِرُ ، وَفَرَجُنَا بِيَدِ اللَّهِ . وَتَمَالَئُوا كُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نُقِلُوا مِنَ
الْمَدِينَةِ إِلَى حَبْسٍ
بِالْعِرَاقِ وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْقُيُودُ ، وَفِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ . وَكَانَ ابْتِدَاءُ تَقْيِيدِهِمْ مِنَ
الرَّبَذَةِ بِأَمْرِ
nindex.php?page=showalam&ids=15337أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ ، وَقَدْ أَشْخَصَ مَعَهُمْ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيَّ ، وَكَانَ أَخَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَقَدْ حَمَلَتْ قَرِيبًا ، فَاسْتَحْضَرَهُ الْخَلِيفَةُ ، فَقَالَ لَهُ : قَدْ حَلَفْتَ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ إِنَّكَ لَمْ تَغُشَّنِي ، وَهَذِهِ
[ ص: 352 ] ابْنَتُكَ حَامِلٌ! فَإِنْ كَانَ مِنْ زَوْجِهَا فَقَدْ حَنِثْتَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَأَنْتَ دَيُّوثٌ . فَأَجَابَهُ
الْعُثْمَانِيُّ بِجَوَابٍ أَحْفَظَهُ بِهِ ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُرِّدَتْ عَنْهُ ثِيَابُهُ ، فَإِذَا جِسْمُهُ كَأَنَّهُ الْفِضَّةُ النَّقِيَّةُ ، ثُمَّ ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَوْطًا ، مِنْهَا ثَلَاثُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ ، أَصَابَ أَحَدُّهَا عَيْنَهُ فَسَالَتْ ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ وَقَدْ بَقِيَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ مِنْ زُرْقَةِ الضَّرْبِ ، وَتَرَاكُمِ الدِّمَاءِ فَوْقَ جِلْدِهِ ، فَأُجْلِسَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ لِأُمِّهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ ، فَاسْتَسْقَى فَمَا جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَسْقِيَهُ حَتَّى سَقَاهُ خُرَاسَانِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ الْجَلَاوِزَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهِمْ ، ثُمَّ رَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي هَوْدَجِهِ ، وَأَرْكَبُوا أُولَئِكَ فِي مُحَامِلَ ضَيِّقَةٍ ، وَعَلَيْهِمُ الْقُيُودُ وَالْأَغْلَالُ فَاجْتَازَ بِهِمُ
الْمَنْصُورُ وَهُوَ فِي هَوْدَجِهِ ، فَنَادَاهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ : وَاللَّهِ يَا
أَبَا جَعْفَرٍ مَا هَكَذَا صَنَعْنَا بِأَسْرَاكُمْ يَوْمَ
بَدْرٍ . فَأَخْسَأَهُ
الْمَنْصُورُ ، وَتَفَلَ عَلَيْهِ ، وَنَفَرَ عَنْهُمْ . وَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى
الْعِرَاقِ حُبِسُوا
بِالْهَاشِمِيَّةِ ، وَكَانَ فِيهِمْ
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَسَنٍ ، وَكَانَ جَمِيلًا يَذْهَبُ النَّاسُ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ مِنْ حُسْنِهِ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ : الدِّيبَاجُ الْأَصْفَرُ . فَأَحْضَرَهُ
الْمَنْصُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ لَهُ : أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْتُلُنَّكَ قِتْلَةً مَا قُتِلَهَا أَحَدٌ . ثُمَّ أَلْقَاهُ بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ ، وَسَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ . وَقَدْ هَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي السِّجْنِ حَتَّى فُرِجَ عَنْهُمْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
فَكَانَ فِيمَنْ هَلَكَ فِي السِّجْنِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ ، وَقَدْ قِيلَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ : إِنَّهُ قُتِلَ صَبْرًا . وَأَخُوهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَسَنٍ ، وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَبْسِ ، وَقَدْ كَانُوا فِي سِجْنٍ لَا يَسْمَعُونَ فِيهِ التَّأْذِينَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا بِالتِّلَاوَةِ ، ثُمَّ
[ ص: 353 ] بَعَثَ
أَهْلُ خُرَاسَانَ يَشْفَعُونَ فِي
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيِّ ، فَأَمَرَ بِهِ ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ ، وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى
أَهْلِ خُرَاسَانَ .
وَهُوَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيُّ ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالدِّيبَاجِ ، لِحُسْنِ وَجْهِهِ ، وَأُمُّهُ
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ
nindex.php?page=showalam&ids=15786وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ nindex.php?page=showalam&ids=16248وَطَاوُسٍ nindex.php?page=showalam&ids=11863وَأَبِي الزِّنَادِ nindex.php?page=showalam&ids=12300وَالزُّهْرِيِّ وَنَافِعٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ ، وَوَثَّقَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15397النَّسَائِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=13053وَابْنُ حِبَّانَ ، وَكَانَ أَخَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ
رُقَيَّةُ زَوْجَةَ ابْنِ أَخِيهِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَبِسَبَبِهَا قَتَلَهُ
أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ . وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا .
قَالَ
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : أَنْشَدَنِي
سُلَيْمَانُ بْنُ عَيَّاشٍ السَّعْدِيُّ لِأَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ يَمْدَحُهُ :
وَجَدْنَا الْمَحْضَ الَابْيَضَ مِنْ قُرَيْشٍ فَتًى بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالرَّسُولِ أَتَاكَ الْمَجْدُ مِنْ هَنَّا وَهَنَّا
وَكُنْتَ لَهُ بِمُعْتَلَجِ السُّيُولِ [ ص: 354 ] فَمَا لِلْمَجْدِ دُونَكَ مِنْ مَبِيتٍ
وَمَا لِلْمَجْدِ دُونَكَ مِنْ مَقِيلِ وَلَا مُمْضًى وَرَاءَكَ تَبْتَغِيهِ
وَمَا هُوَ قَابِلٌ بِكَ مِنْ بَدِيلِ