[ ص: 631 ] ثم دخلت سنة ثمان وتسعين
ففي هذه السنة
nindex.php?page=treesubj&link=33744جهز سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين أخاه مسلمة بن عبد الملك لغزو القسطنطينية وراء الجيش الذين هم بها ، فسار إليها ومعه جيش عظيم ، ثم التف عليه ذلك الجيش الذين هم هناك ، وقد أمر كل رجل من الجيش أن يحمل معه على ظهر فرسه مدين من طعام ، فلما وصل إليها جمعوا ذلك ، فإذا هو أمثال الجبال فقال لهم
مسلمة : اتركوا هذا الطعام وكلوا مما تجدونه في بلادهم ، وازرعوا في أماكن الزرع واستغلوه ، وابنوا لكم بيوتا من خشب ، فإنا لا نرجع عن هذه البلد حتى نفتحها إن شاء الله .
وقد داخل
مسلمة رجل من
النصارى يقال له :
إليون . وواطأه في الباطن ليأخذ له بلاد الروم ، فظهر منه نصح في بادئ الأمر ، ثم إنه توفي ملك
القسطنطينية فدخل إليون في رسالة من
مسلمة ، وقد خافته الروم خوفا شديدا ، فلما دخل إليهم
إليون قالوا له : رده عنا ونحن نملكك علينا . فخرج فأعمل الحيلة في الغدر والمكر ، ولم يزل قبحه الله حتى أحرق ذلك الطعام الذي للمسلمين ، وذلك لأنه قال
لمسلمة : إنهم ما داموا يرون هذا الطعام عندك يظنون أنك تطاولهم في القتال ، فلو أحرقته لتحققوا منك العزم ، وسلموا لك البلد سريعا ، فأمر
مسلمة [ ص: 632 ] بالطعام فأحرق ، ثم انشمر
إليون في السفن وأخذ ما أمكنه من أمتعة الجيش في الليل ، وأصبح وهو بالبلد محاربا للمسلمين ، وأظهر العداوة الأكيدة ، وتحصن بالبلد ، واجتمعت عليه الروم ، وضاق الحال على المسلمين ، حتى أكلوا كل شيء إلا التراب ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى جاءتهم وفاة
سليمان بن عبد الملك وتولية
عمر بن عبد العزيز ، على ما سيأتي ، فكروا راجعين إلى
الشام وقد جهدوا جهدا شديدا ، لكن لم يرجع
مسلمة حتى بنى مسجدا
بالقسطنطينية شديد البناء محكما ، رحب الفناء ، شاهقا في السماء .
وقال
الواقدي : لما ولي
سليمان بن عبد الملك أراد الإقامة
ببيت المقدس ، ثم أرسل العساكر إلى
القسطنطينية فأشار عليه
موسى بن نصير بأن يفتح ما دونها من المدن والرساتيق والحصون ، حتى يبلغ
المدينة فلا يأتيها إلا وقد هدمت حصونها ووهنت قوتها ، فإذا فعلت ذلك لم يبق بينك وبينها مانع ، فيعطوا بأيديهم ويسلموا لك البلد ، ثم استشار أخاه
مسلمة فأشار عليه بأن يدع ما دونها من البلاد ويفتحها عنوة ، فمتى ما فتحت فإن باقي ما دونها من البلاد والحصون بيدك . فقال
سليمان : هذا هو الرأي . ثم أخذ في تجهيز الجيوش من
الشام والجزيرة فجهز في البر مائة وعشرين ألفا ، وفي البحر مائة وعشرين ألفا من المقاتلة وأخرج لهم الأعطية وأنفق فيهم الأموال الكثيرة وأعلمهم بغزو
القسطنطينية والإقامة عليها إلى أن يفتحوها ، ثم سار سليمان من
بيت المقدس فدخل
دمشق وقد اجتمعت له العساكر فأمر عليهم أخاه مسلمة ، ثم قال :
[ ص: 633 ] سيروا على بركة الله ، وعليكم بتقوى الله والصبر والتناصح والتناصف . ثم سار
سليمان حتى نزل
مرج دابق فاجتمع إليه الناس أيضا من المطوعة المحتسبين أجورهم على الله ، فاجتمع له جند عظيم لم ير مثله ، ثم أمر
مسلمة أن يرحل بالجيوش وأخذ معه
إليون الرومي المرعشي ، ثم ساروا حتى نزلوا على
القسطنطينية فحاصرها إلى أن برح بهم ، وعرض أهلها الجزية على
مسلمة ، فأبى إلا أن يفتحها عنوة ، قالوا : فابعث إلينا
إليون نشاوره . فأرسله إليهم ، فقالوا له : رد هذه العساكر عنا ونحن نعطيك ونملكك علينا . فرجع إلى
مسلمة ، فقال له : قد أجابوا إلى فتحها غير أنهم لا يفتحونها ما لم تنح عنهم . فقال
مسلمة : إني أخشى غدرك ، فحلف له أن يدفع إليه مفاتيحها وما فيها ، فلما تنحى عنهم أخذوا في ترميم ما تهدم من أسوارها واستعدوا للحصار . وغدر
إليون بالمسلمين ، قبحه الله .
قال
ابن جرير وفي هذه السنة أخذ
سليمان بن عبد الملك العهد لولده
أيوب أن يكون الخليفة من بعده ، وذلك بعد موت أخيه
مروان بن عبد الملك بن مروان ، فعدل عن ولاية أخيه
يزيد إلى ولاية ولده
أيوب ، وتربص بأخيه الدوائر فمات
أيوب في حياة أبيه ، فبايع
سليمان لابن عمه
عمر بن عبد العزيز أن يكون الخليفة من بعده ، ولنعم ما فعل . وفيها فتحت مدينة
الصقالبة . قال
[ ص: 634 ] الواقدي : وقد أغارت البرجان على جيش
مسلمة وهو في قلة من الناس ، في هذه السنة . فبعث إليه
سليمان جيشا فقاتل البرجان حتى هزمهم الله عز وجل .
وفي هذه السنة
nindex.php?page=treesubj&link=33740غزا يزيد بن المهلب دهستان من أرض الصين فحاصرها وقاتل عندها قتالا شديدا ، ولم يزل حتى تسلمها ، وقتل من الترك الذين بها أربعة آلاف صبرا ، وأخذ منها من الأموال والأثاث والأمتعة ما لا يحد ولا يوصف كثرة وقيمة وحسنا ، ثم سار منها إلى
جرجان فاستجاش صاحبها
بالديلم ، فقدموا لنجدته فقاتلهم
يزيد بن المهلب وقاتلوه ، فحمل
محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي وكان فارسا شجاعا باهرا على ملك
الديلم فقتله وهزمهم الله عز وجل ، ولقد بارز
ابن أبي سبرة هذا يوما بعض فرسان الترك ، فضربه التركي بالسيف على البيضة فنشب فيها ، وضربه
ابن أبي سبرة فقتله ، ثم أقبل إلى المسلمين وسيفه يقطر دما وسيف التركي ناشب في خوذته ، فنظر إليه
يزيد بن المهلب ، فقال : ما رأيت منظرا أحسن من هذا ، من هذا الرجل؟ قالوا :
ابن أبي سبرة . فقال : نعم الرجل لولا انهماكه في الشراب . ثم صمم
يزيد بن المهلب على محاصرة
جرجان وما زال يضيق على صاحبها حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم وأربعمائة ألف دينار ، ومائتي ألف ثوب ، وأربعمائة حمار موقرة زعفرانا ، وأربعمائة رجل ، على رأس كل رجل ترس ،
[ ص: 635 ] على الترس طيلسان ، وجام من فضة ، وسرقة من حرير .
وهذه
المدينة كان
سعيد بن العاص قد افتتحها صلحا على أن يؤدوا الخراج في كل سنة ، فكانوا يحملون في كل سنة مائة ألف ، وفي سنة مائتي ألف ، وفي بعض السنين ثلاثمائة ألف ، ويمنعون ذلك في بعض السنين ، ثم امتنعوا جملة وكفروا ، فغزاهم
يزيد بن المهلب وردها صلحا على ما كانت عليه في زمن
سعيد بن العاص . قالوا : وأصاب
يزيد بن المهلب من
جرجان أموالا كثيرة جدا ، فكان من جملتها تاج فيه جواهر نفيسة ، فقال : أترون أحدا يزهد في هذا؟ قالوا : لا . فدعا
بمحمد بن واسع وكان في الجيش مغازيا فعرض عليه أخذ التاج ، فقال : لا حاجة لي فيه . فقال : أقسمت عليك لتأخذنه . فأخذه وخرج به من عنده ، فأمر يزيد رجلا أن يتبعه فينظر ماذا يصنع بالتاج؟ فمر بسائل ، فطلب منه شيئا ، فأعطاه التاج بكماله وانصرف . فبعث
يزيد إلى ذلك السائل فأخذ منه التاج وعوضه عنه مالا كثيرا .
وقال
علي بن محمد المدائني : قال
أبو بكر الهذلي : كان
nindex.php?page=showalam&ids=16128شهر بن حوشب على خزائن
يزيد بن المهلب فرفعوا إليه أنه أخذ خريطة فيها مائة دينار ، فسأله عنها فقال : نعم . وأحضرها ، فقال له
يزيد : هي لك . ثم استدعى
[ ص: 436 ] الذي وشى به فشتمه .
فقال في ذلك القطامي الكلبي ، ويقال : إنها
لسنان بن مكمل النميري :
لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القراء بعدك يا شهر أخذت به شيئا طفيفا وبعته
من ابن جونبوذ ان هذا هو الغدر
وقال
مرة النخعي :
يا ابن المهلب ما أردت إلى امرئ لولاك كان كصالح القراء
قال
ابن جرير ويقال : إن
يزيد بن المهلب كان في غزوة
جرجان في مائة ألف وعشرين ألفا ، منهم ستون ألفا من جيش
الشام أثابهم الله ، وقد تمهدت تلك البلاد بفتح
جرجان وسلكت الطرق ، وكانت قبل ذلك مخوفة جدا ، ثم عزم
يزيد على المسير إلى
طبرستان وقدم بين يديه سرية هي أربعة آلاف من سراة الناس ، فلما التقوا اقتتلوا قتالا شديدا ، وقتل من المسلمين في المعركة أربعة آلاف فإنا لله وإنا إليه راجعون . ثم عزم
يزيد على فتح البلاد لا محالة ، وما زال حتى صالحه صاحبها وهو
الإصبهبذ بمال كثير; سبعمائة ألف في كل عام ، وغير ذلك من المتاع والرقيق .
[ ص: 637 ] nindex.php?page=treesubj&link=34064وممن توفي فيها من الأعيان :
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
كان إماما حجة ، وكان مؤدب
عمر بن عبد العزيز ، وله روايات كثيرة عن جماعات من الصحابة .
أبو الحفص النخعي عبد الله بن محمد ابن الحنفية
وقد ذكرنا تراجمهم في " التكميل " . والله سبحانه وتعالى أعلم .
[ ص: 631 ] ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=33744جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَرَاءَ الْجَيْشِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ ، ثُمَّ الْتَفَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجَيْشُ الَّذِينَ هُمْ هُنَاكَ ، وَقَدْ أَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْجَيْشِ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا جَمَعُوا ذَلِكَ ، فَإِذَا هُوَ أَمْثَالُ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُمْ
مَسْلَمَةُ : اتْرُكُوا هَذَا الطَّعَامَ وَكُلُوا مِمَّا تَجِدُونَهُ فِي بِلَادِهِمْ ، وَازْرَعُوا فِي أَمَاكِنِ الزَّرْعِ وَاسْتَغِلُّوهُ ، وَابْنُوا لَكُمْ بُيُوتًا مِنْ خَشَبٍ ، فَإِنَّا لَا نَرْجِعُ عَنْ هَذِهِ الْبَلَدِ حَتَّى نَفْتَحَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ دَاخَلَ
مَسْلَمَةَ رَجُلٌ مِنَ
النَّصَارَى يُقَالُ لَهُ :
إِلْيُونَ . وَوَاطَأَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَأْخُذَ لَهُ بِلَادَ الرُّومِ ، فَظَهَرَ مِنْهُ نُصْحٌ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ ، ثُمَّ إِنَّهُ تُوُفِّيَ مَلِكُ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَدَخَلَ إِلْيُونَ فِي رِسَالَةٍ مِنْ
مَسْلَمَةَ ، وَقَدْ خَافَتْهُ الرُّومُ خَوْفًا شَدِيدًا ، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِمْ
إِلْيُونُ قَالُوا لَهُ : رُدَّهُ عَنَّا وَنَحْنُ نُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا . فَخَرَجَ فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ ، وَلَمْ يَزَلْ قَبَّحَهُ اللَّهُ حَتَّى أَحْرَقَ ذَلِكَ الطَّعَامَ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ
لِمَسْلَمَةَ : إِنَّهُمْ مَا دَامُوا يَرَوْنَ هَذَا الطَّعَامَ عِنْدَكَ يَظُنُّونَ أَنَّكَ تُطَاوِلُهُمْ فِي الْقِتَالِ ، فَلَوْ أَحْرَقْتَهُ لَتَحَقَّقُوا مِنْكَ الْعَزْمَ ، وَسَلَّمُوا لَكَ الْبَلَدَ سَرِيعًا ، فَأَمَرَ
مَسْلَمَةُ [ ص: 632 ] بِالطَّعَامِ فَأُحْرِقَ ، ثُمَّ انْشَمَرَ
إِلْيُونُ فِي السُّفُنِ وَأَخَذَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ أَمْتِعَةِ الْجَيْشِ فِي اللَّيْلِ ، وَأَصْبَحَ وَهُوَ بِالْبَلَدِ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ الْأَكِيدَةَ ، وَتَحَصَّنَ بِالْبَلَدِ ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ ، وَضَاقَ الْحَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى أَكَلُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا التُّرَابَ ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ حَتَّى جَاءَتْهُمْ وَفَاةُ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَتَوْلِيَةُ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَلَى مَا سَيَأْتِي ، فَكَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى
الشَّامِ وَقَدْ جُهِدُوا جَهْدًا شَدِيدًا ، لَكِنْ لَمْ يَرْجِعْ
مَسْلَمَةُ حَتَّى بَنَى مَسْجِدًا
بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ شَدِيدَ الْبِنَاءِ مُحْكَمًا ، رَحْبَ الْفِنَاءِ ، شَاهِقًا فِي السَّمَاءِ .
وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ : لَمَّا وَلِيَ
سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ الْإِقَامَةَ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ أَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ
مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِأَنْ يَفْتَحَ مَا دُونَهَا مِنَ الْمُدُنِ وَالرَّسَاتِيقِ وَالْحُصُونِ ، حَتَّى يَبْلُغَ
الْمَدِينَةَ فَلَا يَأْتِيَهَا إِلَّا وَقَدْ هُدِمَتْ حُصُونُهَا وَوَهَنَتْ قُوَّتُهَا ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا مَانِعٌ ، فَيُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ وَيُسَلِّمُوا لَكَ الْبَلَدَ ، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَخَاهُ
مَسْلَمَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدَعَ مَا دُونَهَا مِنَ الْبِلَادِ وَيَفْتَحَهَا عَنْوَةً ، فَمَتَى مَا فُتِحَتْ فَإِنَّ بَاقِيَ مَا دُونَهَا مِنَ الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ بِيَدِكَ . فَقَالَ
سُلَيْمَانُ : هَذَا هُوَ الرَّأْيُ . ثُمَّ أَخَذَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ مِنَ
الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ فَجَهَّزَ فِي الْبَرِّ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، وَفِي الْبَحْرِ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَأَخْرَجَ لَهُمُ الْأَعْطِيَةَ وَأَنْفَقَ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَأَعْلَمَهُمْ بِغَزْو
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَفْتَحُوهَا ، ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدَخَلَ
دِمَشْقَ وَقَدِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْعَسَاكِرُ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ ، ثُمَّ قَالَ :
[ ص: 633 ] سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ ، وَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ وَالتَّنَاصُحِ وَالتَّنَاصُفِ . ثُمَّ سَارَ
سُلَيْمَانُ حَتَّى نَزَلَ
مَرْجَ دَابِقٍ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ أَيْضًا مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ الْمُحْتَسِبِينَ أُجُورَهُمْ عَلَى اللَّهِ ، فَاجْتَمَعَ لَهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ ، ثُمَّ أَمَرَ
مَسْلَمَةَ أَنْ يَرْحَلَ بِالْجُيُوشِ وَأَخَذَ مَعَهُ
إِلْيُونَ الرُّومِيَّ الْمَرْعَشِيَّ ، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَحَاصَرَهَا إِلَى أَنْ بَرَّحَ بِهِمْ ، وَعَرَضَ أَهْلُهَا الْجِزْيَةَ عَلَى
مَسْلَمَةَ ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَفْتَحَهَا عَنْوَةً ، قَالُوا : فَابْعَثْ إِلَيْنَا
إِلْيُونَ نُشَاوِرْهُ . فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ ، فَقَالُوا لَهُ : رُدَّ هَذِهِ الْعَسَاكِرَ عَنَّا وَنَحْنُ نُعْطِيكَ وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا . فَرَجَعَ إِلَى
مَسْلَمَةَ ، فَقَالَ لَهُ : قَدْ أَجَابُوا إِلَى فَتْحِهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْتَحُونَهَا مَا لَمْ تَنَحَّ عَنْهُمْ . فَقَالَ
مَسْلَمَةُ : إِنِّي أَخْشَى غَدْرَكَ ، فَحَلَفَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهَا وَمَا فِيهَا ، فَلَمَّا تَنَحَّى عَنْهُمْ أَخَذُوا فِي تَرْمِيمِ مَا تَهَدَّمَ مِنْ أَسْوَارِهَا وَاسْتَعَدُّوا لِلْحِصَارِ . وَغَدَرَ
إِلْيُونُ بِالْمُسْلِمِينَ ، قَبَّحَهُ اللَّهُ .
قَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ
سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَهْدَ لِوَلَدِهِ
أَيُّوبَ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ
مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، فَعَدَلَ عَنْ وِلَايَةِ أَخِيهِ
يَزِيدَ إِلَى وِلَايَةِ وَلَدِهِ
أَيُّوبَ ، وَتَرَبَّصَ بِأَخِيهِ الدَّوَائِرَ فَمَاتَ
أَيُّوبُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ ، فَبَايَعَ
سُلَيْمَانُ لِابْنِ عَمِّهِ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلَنِعْمَ مَا فَعَلَ . وَفِيهَا فُتِحَتْ مَدِينَةُ
الصَّقَالِبَةِ . قَالَ
[ ص: 634 ] الْوَاقِدِيُّ : وَقَدْ أَغَارَتِ الْبُرْجَانُ عَلَى جَيْشِ
مَسْلَمَةَ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ مِنَ النَّاسِ ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ . فَبَعَثَ إِلَيْهِ
سُلَيْمَانُ جَيْشًا فَقَاتَلَ الْبُرْجَانَ حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=33740غَزَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ دِهِسْتَانَ مِنْ أَرْضِ الصِّينِ فَحَاصَرَهَا وَقَاتَلَ عِنْدَهَا قِتَالًا شَدِيدًا ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى تَسَلَّمَهَا ، وَقَتَلَ مِنَ التُّرْكِ الَّذِينَ بِهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ صَبْرًا ، وَأَخَذَ مِنْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَقِيمَةً وَحُسْنًا ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى
جُرْجَانَ فَاسْتَجَاشَ صَاحِبُهَا
بِالدَّيْلَمِ ، فَقَدِمُوا لِنَجْدَتِهِ فَقَاتَلَهُمْ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَقَاتَلُوهُ ، فَحَمَلَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعَفِيُّ وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا بَاهِرًا عَلَى مَلِكِ
الدَّيْلَمِ فَقَتَلَهُ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَقَدْ بَارَزَ
ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ هَذَا يَوْمًا بَعْضَ فُرْسَانِ التُّرْكِ ، فَضَرَبَهُ التُّرْكِيُّ بِالسَّيْفِ عَلَى الْبَيْضَةِ فَنَشِبَ فِيهَا ، وَضَرَبَهُ
ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَسَيْفُهُ يَقْطُرُ دَمًا وَسَيْفُ التُّرْكِيِّ نَاشِبٌ فِي خَوْذَتِهِ ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ ، فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالُوا :
ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ . فَقَالَ : نِعْمَ الرَّجُلُ لَوْلَا انْهِمَاكُهُ فِي الشَّرَابِ . ثُمَّ صَمَّمَ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عَلَى مُحَاصَرَةِ
جُرْجَانَ وَمَا زَالَ يُضَيِّقُ عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ ثَوْبٍ ، وَأَرْبَعِمِائَةِ حِمَارٍ مُوَقَّرَةٍ زَعْفَرَانًا ، وَأَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ رَجُلٍ تُرْسٌ ،
[ ص: 635 ] عَلَى التُّرْسِ طَيْلَسَانُ ، وَجَامٌ مِنْ فِضَّةٍ ، وَسَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ .
وَهَذِهِ
الْمَدِينَةُ كَانَ
سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ قَدِ افْتَتَحَهَا صُلْحًا عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْخَرَاجَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ ، وَفِي سَنَةٍ مِائَتَيْ أَلْفٍ ، وَفِي بَعْضِ السِّنِينَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ ، وَيَمْنَعُونَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ ، ثُمَّ امْتَنَعُوا جُمْلَةً وَكَفَرُوا ، فَغَزَاهُمْ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَرَدَّهَا صُلْحًا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ . قَالُوا : وَأَصَابَ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مِنْ
جُرْجَانَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَاجٌ فِيهِ جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ ، فَقَالَ : أَتَرَوْنَ أَحَدًا يَزْهَدُ فِي هَذَا؟ قَالُوا : لَا . فَدَعَا
بِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسْعٍ وَكَانَ فِي الْجَيْشِ مُغَازِيًا فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَخْذَ التَّاجِ ، فَقَالَ : لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ . فَقَالَ : أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَتَأْخُذَنَّهُ . فَأَخَذَهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ ، فَأَمَرَ يَزِيدُ رَجُلًا أَنْ يَتْبَعَهُ فَيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُ بِالتَّاجِ؟ فَمَرَّ بِسَائِلٍ ، فَطَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا ، فَأَعْطَاهُ التَّاجَ بِكَمَالِهِ وَانْصَرَفَ . فَبَعَثَ
يَزِيدُ إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَأَخَذَ مِنْهُ التَّاجَ وَعَوَّضَهُ عَنْهُ مَالًا كَثِيرًا .
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ : قَالَ
أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ : كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=16128شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَلَى خَزَائِنِ
يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ خَرِيطَةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ : نَعَمْ . وَأَحْضَرَهَا ، فَقَالَ لَهُ
يَزِيدُ : هِيَ لَكَ . ثُمَّ اسْتَدْعَى
[ ص: 436 ] الَّذِي وَشَى بِهِ فَشَتَمَهُ .
فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْقُطَامِيُّ الْكَلْبِيُّ ، وَيُقَالُ : إِنَّهَا
لِسِنَانِ بْنِ مُكَمَّلٍ النُّمَيْرِيِّ :
لَقَدْ بَاعَ شَهْرٌ دِينَهُ بِخَرِيطَةٍ فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ يَا شَهْرُ أَخَذْتَ بِهِ شَيْئًا طَفِيفًا وَبِعْتَهُ
مِنِ ابْنِ جَوَنْبُوذَ انَّ هَذَا هُوَ الْغَدْرُ
وَقَالَ
مُرَّةُ النَّخَعِيُّ :
يَا ابْنَ الْمُهَلَّبِ مَا أَرَدْتَ إِلَى امْرِئٍ لَوْلَاكَ كَانَ كَصَالِحِ الْقُرَّاءِ
قَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ وَيُقَالُ : إِنَّ
يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ كَانَ فِي غَزْوَةِ
جُرْجَانَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، مِنْهُمْ سِتُّونَ أَلْفًا مِنْ جَيْشِ
الشَّامِ أَثَابَهُمُ اللَّهُ ، وَقَدْ تَمَهَّدَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ بِفَتْحِ
جُرْجَانَ وَسَلَكَتِ الطُّرُقُ ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُخَوِّفَةً جِدًّا ، ثُمَّ عَزَمَ
يَزِيدُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى
طَبَرِسْتَانَ وَقَدِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةٌ هِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سُرَاةِ النَّاسِ ، فَلَمَّا الْتَقَوُا اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . ثُمَّ عَزَمَ
يَزِيدُ عَلَى فَتْحِ الْبِلَادِ لَا مَحَالَةَ ، وَمَا زَالَ حَتَّى صَالَحَهُ صَاحِبُهَا وَهُوَ
الْإِصْبَهْبَذُ بِمَالٍ كَثِيرٍ; سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ فِي كُلِّ عَامٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ .
[ ص: 637 ] nindex.php?page=treesubj&link=34064وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ :
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
كَانَ إِمَامًا حُجَّةً ، وَكَانَ مُؤَدِّبَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ .
أَبُو الْحَفْصِ النَّخَعِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي " التَّكْمِيلِ " . وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .