كان الخليفة المهدي قد ألح على عيسى بن موسى في أن يخلع نفسه عن ولاية العهد ، وهو في ذلك كله يمتنع ، وهو مقيم بالكوفة ، فبعث إليه المهدي [ ص: 482 ] أحد القواد الكبار ، وهو أبو هريرة محمد بن فروخ في ألف من أصحابه لإحضاره إليه ، وأمرهم أن يستصحبوا مع كل واحد منهم طبلا ، فإذا واجهوا الكوفة عند إضاءة الفجر ضرب كل واحد منهم بطبله ، ففعلوا ذلك ، فارتجت الكوفة ، وخاف عيسى بن موسى ، فلما انتهوا إليه دعوه إلى حضرة الخليفة ، فأظهر التشكي ، فلم يقبلوا ، وأخذوه معهم ، فدخلوا بغداد في يوم الخميس لثلاث خلون من المحرم من هذه السنة ، فاجتمع عليه وجوه بني هاشم والقضاة والأعيان ، وسألوه في ذلك وهو يمتنع ، ثم لم يزل الناس به بالرغبة والرهبة حتى أجاب في يوم الأربعاء لأربع بقين من المحرم بعد العصر يومئذ . موسى وهارون الرشيد صبيحة يوم الخميس لثلاث بقين من المحرم ، فجلس وبويع لولدي أمير المؤمنين; المهدي في قبة عظيمة في إيوان الخلافة ، ودخل الأمراء فبايعوا ، ثم نهض المهدي فصعد المنبر وجلس ابنه تحته ، وقام موسى الهادي عيسى بن موسى على أول درجة منه ، وخطب المهدي ، فأعلمهم بما وقع من خلع عيسى بن موسى نفسه ، وأنه قد حلل الناس من الأيمان التي له في أعناقهم ، وجعل ذلك إلى فصدق موسى الهادي ، عيسى بن موسى ذلك ، وبايع المهدي على ذلك ، ثم نهض الناس فبايعوا الخليفة على حسب مراتبهم وأسنانهم ، وكتب على عيسى بن موسى مكتوبا مؤكدا بالأيمان البالغة من الطلاق والعتاق ، وأشهد عليه جماعة الأمراء والوزراء وأعيان بني هاشم وغيرهم .
وفيها عبد الملك بن شهاب المسمعي مدينة باربد من الهند في جحفل [ ص: 483 ] كثير معه ، فحاصروها ونصبوا عليها المجانيق ، ورموها بالنفط ، فأحرقوا منها طائفة ، وهلك بشر كثير من أهلها ، وفتحوها عنوة وأرادوا الانصراف فلم يمكنهم ذلك; لاغتلام البحر ، فأقاموا هنالك ، فأصابهم داء في أفواههم يقال له : حمام قر . فمات منهم ألف نفس ، منهم وصل الربيع بن صبيح ، فلما أمكنهم المسير ركبوا في البحر ، فهاجت عليهم ريح ، فغرق منهم طائفة أيضا ، ووصل بقيتهم إلى البصرة ومعهم سبي كثير ، فيهم بنت ملكهم .
وفيها المهدي بإلحاق نسب ولد إلى ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقطع نسبهم من أبي بكرة الثقفي ثقيف ، وكتب بذلك كتابا إلى والي حكم البصرة ، وقطع نسبه من زياد ومن نسب نافع ، ففي ذلك يقول بعض الشعراء ، وهو خالد النجار :
إن زيادا ونافعا وأبا بكرة عندي من أعجب العجب ذا قرشي كما يقول وذا
مولى وهذا بزعمه عربي
وفي هذه السنة أمير المؤمنين المهدي ، واستخلف على حج بالناس بغداد ابنه واستصحب معه ابنه موسى الهادي ، وخلقا من الأمراء ، منهم هارون الرشيد يعقوب بن داود على منزلته ومكانته ، وكان الحسن بن إبراهيم قد هرب من الخادم ، فلحق بأرض الحجاز ، فاستأمن له يعقوب بن داود ، فأحسن المهدي [ ص: 484 ] صلته ، وأجزل جائزته ، وفرق المهدي في أهل مكة مالا عظيما جدا ، وكان قد قدم معه بثلاثين ألف ألف درهم ومائة ألف ثوب ، وجاء من مصر ثلاثمائة ألف دينار ، ومن اليمن مائتا ألف دينار ، فأعطاها كلها في أهل مكة والمدينة .
وشكت الحجبة إلى المهدي أنهم يخافون على الكعبة أن تنهدم من كثرة ما عليها من الكساوي ، فأمر بتجريدها من الكسوة ، فلما انتهوا إلى كساوي هشام بن عبد الملك وجدها من ديباج ثخين جدا ، وبقية كساوي الخلفاء قبله وبعده من عمل أهل اليمن ، فلما جردها طلاها بالخلوق ، وكساها كسوة حسنة جدا ، ويقال : إنه استفتى في إعادة الكعبة إلى ما كان بناها مالكا ابن الزبير من موضعها على الوجه الذي كان يوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال مالك : دعها على حالها; فإني أخشى أن يتخذها الملوك ملعبة . فتركها كما كانت .
وحمل له محمد بن سليمان نائب البصرة الثلج إلى مكة ، فكان إليها . ولما دخل أول خليفة حمل له الثلج المدينة النبوية وسع المسجد النبوي ، وكان فيه مقصورة ، فأزالها . وأراد أن ينقص من المنبر ما كان زاده فقال له معاوية بن أبي سفيان ، مالك : إنه يخشى أن ينكسر الخشب العتيق إذا زعزع . فتركه فلم يتعرض له .
وتزوج من المدينة رقية بنت عمرو العثمانية ، وانتخب من أهلها من الأنصار خمسمائة من أعيانها ليكونوا حوله حرسا بالعراق وأنصارا له ، وأجرى عليهم أرزاقا غير أعطياتهم ، وأقطعهم أقطاعا معروفة بهم .