ذكر ما كان من أمر الإمام أحمد بعد المحنة
حين أخرج من دار الخلافة بعد الضرب صار إلى منزله فدووي حتى [ ص: 412 ] برئ ، ولله الحمد والمنة . ولزم منزله فلا يخرج منه إلى جماعة ولا جمعة ، وامتنع من التحديث ، وكانت غلته من ملك له ; في كل شهر سبعة عشر درهما ينفقها على عياله ، ويتقنع بذلك ، رحمه الله ، صابرا محتسبا ، ولم يزل كذلك مدة خلافة المعتصم ، وكذلك في أيام ابنه محمد الواثق .
فلما ولي المتوكل على الله جعفر ابن المعتصم استبشر الناس بولايته فإنه كان محبا للسنة وأهلها ، ورفع المحنة عن الناس ، وكتب إلى الآفاق أن لا يتكلم أحد في القول بخلق القرآن ، ثم كتب إلى نائبه ببغداد وهو إسحاق بن إبراهيم أن يبعث إليه ، فاستدعى بأحمد بن حنبل إسحاق بالإمام أحمد إليه فأكرمه إسحاق وعظمه ; لما يعلم من إعظام الخليفة له وإجلاله إياه ، وسأله فيما بينه وبينه عن القرآن ، فقال له أحمد : سؤال تعنت أو استرشاد ؟ فقال : بل سؤال استرشاد . فقال : هو كلام الله منزل غير مخلوق . فسكن إلى قوله في ذلك ، ثم جهزه إلى الخليفة بسر من رأى ، ثم سبقه إليه .
وبلغه أن اجتاز بابنه أحمد بن حنبل محمد بن إسحاق فلم يأته ولم يسلم عليه ، فغضب إسحاق بن إبراهيم من ذلك وشكاه إلى الخليفة ، فقال المتوكل : يرد وإن كان قد وطئ بساطي . فرجع الإمام أحمد من الطريق إلى بغداد وقد كان الإمام أحمد متكرها لذلك ، ولكن لم يهن ذلك على كثير من الناس ، [ ص: 413 ] وإنما كان رجوعه عن قول إسحاق بن إبراهيم الذي كان هو السبب في ضربه .
ثم إن رجلا من المبتدعة يقال له ابن الثلجي وشى إلى الخليفة شيئا ، فقال : إن رجلا من العلويين قد ضوى إلى منزل وهو يبايع له الناس في الباطن . فأمر الخليفة نائب أحمد بن حنبل ، بغداد أن يكبس منزل الإمام أحمد من الليل . فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة فوجدوا الإمام أحمد جالسا في داره مع عياله ، فسألوه عما ذكر عنه ، فقال : ليس عندي من هذا علم ، وليس من هذا شيء ، ولا هذا من نيتي ، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية ، وفي عسري ويسري ، ومنشطي ومكرهي ، وأثرة علي ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار . في كلام كثير ، ففتشوا منزله حتى مكان الكتب وبيوت النساء والأسطحة وغيرها فلم يروا شيئا . فلما بلغ المتوكل ذلك ، وعلم براءته مما نسب إليه ، علم أنهم يكذبون عليه كثيرا ، فبعث إليه يعقوب بن إبراهيم المعروف بقوصرة وهو أحد الحجبة بعشرة آلاف درهم من الخليفة ، وقال : هو يقرأ عليك السلام ويقول لك : استنفق هذه . فامتنع من قبولها . فقال : يا أبا عبد الله إني أخشى من ردك إياها أن يقع وحشة بينك وبينه ، والمصلحة لك قبولها ، فوضعها عنده ثم ذهب ، فلما كان من آخر الليل استدعى الإمام أحمد [ ص: 414 ] أهله وبني عمه وعياله ، وقال : لم أنم هذه الليلة من هذا المال . فجلسوا معه ، وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث ، وغيرهم من أهل بغداد والبصرة ، ثم أصبح ففرقها في الناس ما بين الخمسين إلى المائة والمائتين ولم يبق منها درهما ، وأعطى منها لأبي كريب ، وتصدق بالكيس الذي كانت فيه ، ولم يعط منها لأهله شيئا ، وهم في غاية الفقر والحاجة ، وجاء بني ابنه فقال : أعطني درهما . فنظر وأبي سعيد الأشج ، أحمد إلى ابنه صالح ، فتناول صالح قطعة فأعطاها الصبي ، فسكت أحمد ، رحمه الله .
وبلغ الخليفة أنه قد تصدق بالجائزة كلها حتى لم يبق منها شيئا وأنه تصدق بكيسها ، فقال علي بن الجهم : يا أمير المؤمنين ، إنه قد قبلها منك وتصدق بها عنك ، وما يصنع أحمد بالمال ؟ إنما يكفيه رغيف . فقال : صدقت .
فلما مات إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد ، ولم يكن بينهما إلا القريب ، وتولى نيابة بغداد عبد الله بن إسحاق ، كتب المتوكل إليه أن يحمل إليه الإمام أحمد ، فقال لأحمد في ذلك . فقال : إني شيخ كبير وضعيف ، فرد الجواب على الخليفة بذلك ، فأرسل يعزم عليه لتأتيني ، وكتب إلى أحمد يقول له : إني أحب أن آنس بقربك ، وبالنظر إليك ، ويحصل لي بركة دعائك . فسار إليه [ ص: 415 ] الإمام أحمد وهو عليل في بنيه وبعض أهله ، فلما قارب العسكر تلقاه وصيف الخادم في موكب عظيم ، فسلم وصيف على الإمام أحمد ، فرد السلام ، ثم قال له وصيف : قد أمكنك الله من عدوك . فلم يرد عليه جوابا ، وجعل ابنه يدعو الله للخليفة ولوصيف فلما وصلوا إلى العسكر ابن أبي دؤاد بسر من رأى ، أنزل أحمد في دار إيتاخ فلما علم بذلك ارتحل منها ، وأمر أن يستكرى له دار غيرها .
وكان رءوس الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ، ويبلغونه عن الخليفة السلام ، ولا يدخلون عليه حتى يخلعوا ما عليهم من الزينة والسلاح ، وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها من الآلات التي تليق بتلك الدار العظيمة .
وأراد منه الخليفة أن يقيم هناك ليحدث الناس عوضا عما فاتهم منه في أيام المحنة وما بعدها من السنين الماضية المتطاولة وهو محجوب في داره لا يخرج إلى جماعة ولا جمعة أيضا ، فاعتذر إليهم بأنه عليل وأسنانه تتحرك وهو ضعيف . وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم مائدة فيها ألوان الأطعمة والفاكهة والثلج ، مما يقاوم مائة وعشرين درهما في كل يوم ، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك ، ولم يكن أحمد يطعم شيئا من ذلك بالكلية ، بل كان صائما يطوي ، فمكث ثمانية أيام لم يستطعم بطعام ، ومع ذلك هو عليل ، ثم أقسم [ ص: 416 ] عليه ولده حتى شرب قليلا من السويق بعد ثمانية أيام . وجاء عبيد الله بن يحيى بن خاقان بمال جزيل من الخليفة ; جائزة له ، فامتنع من قبولها ، فألح عليه الأمير فلم يقبل ، فأخذها الأمير ففرقها على بنيه وأهله ، وقال : إنه لا يمكن أن ترد على الخليفة جائزته . وكتب الخليفة لأهله وأولاده في كل شهر بأربعة آلاف درهم ، فمانع أبو عبد الله في ذلك ، فقال الخليفة : لا بد من ذلك ، وما هذا إلا لولدك . فأمسك أبو عبد الله عن ممانعته ، ثم أخذ يلوم أهله وعمه وبني عمه ، وقال لهم : إنما بقي لنا أيام قلائل ، وكأننا وقد نزل بنا الموت فإما إلى جنة ، وإما إلى نار ، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء . في كلام طويل يعظهم به . فاحتجوا عليه بالحديث الصحيح وبأن ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه ابن عمر قبلا جوائز السلطان . فقال : ما هذا وذاك سواء ، [ ص: 417 ] ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه ، وليس فيه ظلم ولا جور لم أبال . وابن عباس
ولما استمر ضعف أبي عبد الله جعل المتوكل يبعث إليه بابن ماسويه المتطبب لينظر في مرضه ، فرجع إليه فقال : يا أمير المؤمنين ، إن ليس به علة في بدنه ، وإنما علته من قلة الطعام ، وكثرة الصيام والعبادة . فسكت أحمد بن حنبل المتوكل ، ثم سألت أم الخليفة منه أن ترى الإمام أحمد ، فبعث المتوكل إليه يسأله أن يجتمع بابنه المعتز ويدعو له ، ويكون في حجره فتمنع من ذلك ، ثم أجاب إليه ; رجاء أن يعجل برجوعه إلى أهله ببغداد ، وبعث الخليفة إليه بخلعة سنية ومركوب من مراكيبه ، فامتنع من ركوبه ; لأنه عليه ميثرة نمور فجيء ببغل لبعض التجار فركبه ، وجاء إلى مجلس المعتز ، وقد جلس الخليفة وأمه في ناحية في ذلك المجلس ، من وراء ستر رقيق . فلما جاء أحمد قال : السلام عليكم . وجلس ولم يسلم عليه بالإمرة ، فقالت أم الخليفة : الله الله يا بني في هذا الرجل ! ترده إلى أهله ، فإن هذا ليس ممن يريد ما أنتم فيه ، وحين رأى المتوكل أحمد قال لأمه : يا أمه ، قد أنارت الدار .
وجاء الخادم ومعه خلعة سنية مبطنة وثوب وقلنسوة وطيلسان ، فألبسها الإمام أحمد بيده ، وأحمد لا يتحرك بالكلية . قال الإمام أحمد : لما جلست إلى [ ص: 418 ] المعتز قال مؤدبه : أصلح الله الأمير ، هذا الذي أمر الخليفة أن يكون مؤدبك . فقال : إن علمني شيئا تعلمته . قال أحمد : فعجبت من ذكائه في صغره ; لأنه كان صغيرا جدا . ثم خرج أحمد عنهم وهو يستغفر الله ، ويستعيذ بالله من مقته ، وغضبه .
ثم بعد أيام أذن له الخليفة بالانصراف ، وهيأ له حراقة فلم يقبل أن ينحدر فيها بل ركب في زورق فدخل بغداد مختفيا ، وأمر أن تباع تلك الخلعة ، وأن يتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين . وجعل أياما يتألم من اجتماعه بهم ويقول : سلمت منهم طول عمري ، ثم ابتليت بهم في آخره ، وكان قد جاع عندهم جوعا عظيما كثيرا حتى كاد يهلك من الجوع . وقد قال بعض الأمراء للمتوكل على الله الخليفة : يا أمير المؤمنين ، إن لا يأكل لك طعاما ، ولا يشرب لك شرابا ، ولا يجلس على فرشك ، ويحرم ما تشربه . فقال لهم : والله لو نشر أحمد بن حنبل المعتصم ، وكلمني في أحمد ما قبلت منه . وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم ; تستعلم أخباره وكيف حاله . وجعل يستفتيه في أموال فلا يجيب بشيء ، ثم إن ابن أبي دؤاد المتوكل أخرج من ابن أبي دؤاد سر من رأى إلى بغداد بعد أن أشهد عليه نفسه ببيع [ ص: 419 ] ضياعه وأملاكه وأخذ أمواله كلها .
قال عبد الله بن أحمد : وحين رجع أبي من سامرا إلى بغداد وجدنا عينيه قد دخلتا في موقيه ، وما رجعت إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر . وامتنع أن يدخل بيت قرابته أو يدخل بيتا هم فيه ، أو ينتفع بشيء مما هم فيه ; لأجل قبولهم أموال السلطان .
وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين ، ثم مكث إلى سنة وفاته ، قل يوم إلا ورسالة المتوكل تفد إليه في أمور يشاوره فيها ، ويستشيره في أشياء تقع له .
ولما قدم المتوكل بغداد بعث إليه ابن خاقان ومعه ألف دينار ليفرقها على من يرى فامتنع من قبولها وتفرقتها ، وقال : إن أمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره فردها .
وكتب رجل رقعة إلى المتوكل يقول فيها : يا أمير المؤمنين ، إن يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة . فكتب فيها أحمد بن حنبل المتوكل : أما المأمون فإنه خلط فسلط الناس على نفسه ، وأما أبي المعتصم فإنه كان رجل حرب ، ولم يكن له بصر بالكلام ، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه ، ثم أمر أن يضرب هذا [ ص: 420 ] الرجل الذي رفع إليه الرقعة مائتي سوط ، فأخذه عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم فضربه خمسمائة سوط ، فقال له الخليفة : لم ضربته خمسمائة سوط ؟ فقال : مائتين لطاعتك ، ومائتين لطاعة الله ورسوله ومائة لكونه قذف هذا الشيخ ; الرجل الصالح . أحمد بن حنبل
وقد كتب الخليفة إلى الإمام أحمد يسأله عن القول في القرآن ; سؤال استرشاد واستفادة لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد ، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة ، فيها آثار عن الصحابة وغيرهم ، وأحاديث مرفوعة ، وقد أوردها ابنه صالح في المحنة التي ساقها ، وهي مروية عنه ، وقد نقلها غير واحد من الحفاظ .