[ ص: 464 ] ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة
استهلت الحاكم العباسي ، والخليفة الملك الظاهر ، وقضاة وسلطان المسلمين مصر أربعة .
وفيها استجد بدمشق أربعة قضاة ، كما فعل في العام الماضي في ديار مصر وسيأتي تفصيله ، ونائب الشام آقوش النجيبي ، وفيها وردت الولايات لقضاء القضاة من المذاهب; فصار كل مذهب فيه قاضي قضاة ، فكان في منصب الشافعية شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن خلكان البرمكي ، وصار على قضاء الحنفية شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطا ، والحنابلة شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة ، وللمالكية عبد السلام بن الزواوي ، وقد امتنع من الولاية ، فألزم بها حتى قبل ، ثم عزل نفسه ، ثم ألزم بها فقبل بشرط أن لا يباشر أوقافا ، ولا يأخذ جامكية على أحكامه ، فأجيب إلى ذلك ، وكذلك قاضي الحنابلة لم يأخذ على أحكامه أجرا وقال : نحن في كفاية . فأعفي من ذلك أيضا ، رحمهم الله . وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الماضي بالديار المصرية أيضا ، واستقرت الأحوال على هذا المنوال ولله الحمد .
[ ص: 465 ] وفيها كمل عمارة الحوض الذي شرقي قناة باب البريد ، وعمل له شاذروان ، وفيه أنابيب يجرى فيها الماء من القناة التي هي غربيه إلى جانب الدرج الشمالية .
وفيها الملك الظاهر بعساكره ونازل مدينة صفد ، واستدعى بالمجانيق من قدم السلطان دمشق وأحاط بها ولم يزل حتى افتتحها ، ونزل أهلها على حكمه ، فتسلم البلد في يوم الجمعة ثامن عشر شوال من هذه السنة ، وقتل المقاتلة وسبى الذرية ، وقد كان الملك صلاح الدين افتتحها في شوال أيضا في سنة أربع وثمانين وخمسمائة ، ثم استعادوها أيضا فانتزعها منهم قسرا وقهرا الملك الظاهر رحمه الله في هذه السنة ، ولله الحمد ، وكان السلطان في نفسه منهم شيء كثير ، فلما توجه إلى فتحها طلبوا الأمان ، فأجلس على سرير مملكته الأمير سيف الدين كرمون التتري ، وجاءت رسلهم ، فحلفوه وانصرفوا ، ولا يشعرون أن الذي أعطاهم العهود بالأمان إنما هو الأمير الذي أجلسه على السرير ، فلما خرجت الإسبتارية والداوية من القلعة وقد فعلوا بالمسلمين الأفاعيل ، فأمكن الله منهم ، فأمر السلطان بضرب أعناقهم عن آخرهم ، وجاءت البشائر إلى القلاع بذلك ، فدقت البشائر وزينت البلاد وفرح العباد ولله الحمد ، ثم بثت السرايا يمينا وشمالا في بلاد الفرنج ، فاستولى المسلمون على حصون كثيرة تقارب عشرين حصنا ، [ ص: 466 ] وأسروا قريبا من ألف أسير ما بين امرأة وصبي ، وغنموا شيئا كثيرا ، ودقت البشائر في البلدان ، وفرح المسلمون بنصر الله وتأييده . والحرب خدعة ،
وفيها قدم ولد الخليفة المستعصم بن المستنصر بن الظاهر بن الناصر العباسي - واسمه علي - إلى دمشق ، فأكرم وأنزل بالدار الأسدية تجاه المدرسة العزيزية ، وقد كان أسيرا في أيدي التتار ، فلما كسرهم بركة خان تخلص من أيديهم وصار إلى دمشق ، ولما فتح السلطان صفد أخبره بعض من كان بها من أسرى المسلمين أن سبب أسرهم أن أهل قرية قارا كانوا يأخذونهم فيحملونهم إلى الفرنج ، فيبيعونهم منهم ، فعند ذلك ركب السلطان قاصدا قارا ، فأوقع بهم بأسا شديدا وقتل منهم خلقا كثيرا ، وأسر من أبنائهم ونسائهم أخذا بثأر المسلمين ، جزاه الله خيرا . ثم أرسل السلطان الملك الظاهر جيشا هائلا إلى بلاد سيس ، فجاسوا خلال الديار وفتحوا سيس عنوة ، وأسروا ابن ملكها وقتلوا أخاه ، ونهبوها وقتلوا أهلها ، وأخذوا بثأر الإسلام وأهله منهم; وذلك أنهم كانوا أضر شيء على المسلمين زمن التتار ، لما أخذوا مدينة حلب وغيرها أسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقا كثيرا وجما غفيرا ، ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو ، فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الإسلام ، ولله الحمد والمنة كثيرا دائما ، وكانت النصرة عليهم في يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة ، وجاءت الأخبار بذلك إلى البلاد وضربت البشائر .
[ ص: 467 ] وفي الخامس والعشرين من ذي الحجة دخل السلطان الملك الظاهر دمشق المحروسة وبين يديه ابن صاحب سيس وجماعة من ملوك الأرمن أسارى أذلاء صغرة والعساكر صحبته ، وكان يوما مشهودا . ثم سار إلى الديار المصرية مؤيدا منصورا مسرورا محبورا ولله الحمد ، وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده من السلطان فقال : لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له : سنقر الأشقر . فذهب صاحب سيس إلى ملك التتر ، فتذلل وتخضع له ، حتى أطلق له سنقر الأشقر فأطلق السلطان ابن صاحب سيس .
وفيها عمر الظاهر الجسر المشهور بين قراوا ودامية ، تولى عمارته الأمير جمال الدين محمد بن نهار وبدر الدين محمد بن رحال والي نابلس والأغوار ، ولما تم بناؤه اضطرب بعض أركانه ، فقلق السلطان لذلك ، وأمر بتأكيده فلم يستطيعوا من قوة جرى الماء حينئذ ، فاتفق بإذن الله أن انسالت على النهر أكمة من تلك الناحية ، فسكن الماء بمقدار ما أصلحوا ما يريدون ، ثم عاد الماء كما كان ، وذلك بتيسير الله وعونه وعنايته العظيمة .