وفي العشر الأول من شهر شعبان قدم كتاب من الديار المصرية بوفاة قاضي القضاة عز الدين ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة بمكة - شرفها الله - في العاشر من جمادى الآخرة ، ودفن في الحادي عشر في باب المعلى ، وذكروا أنه توفي وهو يقرأ القرآن ، وأخبرني صاحبنا الشيخ محيي الدين الرحبي - حفظه الله تعالى - أنه كان يقول كثيرا : أشتهي أن أموت وأنا معزول ، وأن تكون وفاتي بأحد الحرمين . فأعطاه الله ما تمناه; عزل نفسه في السنة الماضية ، وهاجر إلى مكة ، ثم قدم المدينة لزيارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عاد إلى مكة ، وكانت وفاته بها في الوقت المذكور ، فرحمه الله ، وبل بالرحمة ثراه .
وقد كان مولده في سنة أربع وتسعين ، فتوفي عن ثلاث وسبعين سنة ، وقد نال العز عزا في الدنيا ، ورفعة هائلة ، ومناصب ، وتداريس كبارا ، ثم عزل نفسه ، وتفرغ للعبادة والمجاورة بالحرمين الشريفين ، فيقال له ما قلته في بعض المراثي :
فكأن قد أعلمت بالموت حتى قد تزودت من خيار الزاد
[ ص: 716 ] وحضر عندي في يوم الثلاثاء تاسع شوال البترك بشارة الملقب بميخائيل النصراني الملكي ، وأخبرني أن المطارنة بالشام بايعوه على أن جعلوه بتركا بدمشق عوضا عن البترك بأنطاكية ، فذكرت له أن هذا أمر مبتدع في دينهم ، فإنه لا تكون البتاركة إلا أربعة; بالإسكندرية ، وبالقدس ، وبأنطاكية ، وبرومية ، فنقل بترك رومية إلى إسطنبول وهي القسطنطينية ، وقد أنكر عليهم كثير منهم إذ ذاك ، فهذا الذي ابتدعوه في هذا الوقت أعظم من ذلك ! لكن اعتذر بأنه في الحقيقة هو عن أنطاكية ، وإنما أذن له في المقام بالشام الشريف; لأجل أنه أمره نائب السلطنة أن يكتب عنه وعن أهل ملتهم إلى صاحب قبرس ، يذكر له ما حل بهم من الخزي ، والنكال ، والجناية بسبب عدوان صاحب قبرس على مدينة الإسكندرية ، وأحضر لي الكتب إليه وإلى ملك إسطنبول ، وقرأها علي من لفظه - لعنه الله ولعن المكتوب إليهم أيضا - وقد وهم تكلمت معه في دينهم ونصوص ما يعتقده كل من الطوائف الثلاث; الملكية ، واليعقوبية - ومنهم الإفرنج والقبط - والنسطورية ، فإذا هو يفهم بعض الشيء ، ولكن حاصله أنه حمار من أكفر الكفار ، لعنه الله .وفي هذا الشهر بلغنا أويس ابن الشيخ حسن ملك العراق وخراسان لبغداد من يد استعادة السلطان الطواشي مرجان الذي كان نائبه عليها وامتنع من طاعة أويس ، فجاء إليه في جحافل كثيرة ، فهرب مرجان ، ودخل [ ص: 717 ] أويس إلى بغداد دخولا هائلا ، وكان يوما مشهودا .
وفي يوم السبت السابع والعشرين من شعبان قدم الأمير سيف الدين بيدمر من الديار المصرية على البريد أمير مائة مقدم ألف ، وعلى نيابة يلبغا في جميع دواوينه بدمشق وغيرها ، وعلى إمارة البحر وعمل المراكب ، فلما قدم أمر بجمع جميع النشارين ، والنجارين ، والحدادين ، وتجهيزهم لبيروت لقطع الأخشاب ، فسيروا يوم الأربعاء ثاني رمضان ، وهو عازم على اللحاق بهم إلى هنالك ، وبالله المستعان ، ثم أتبعوا بآخرين من نجارين ، وحدادين ، وعتالين ، وغير ذلك ، وجعلوا كل من وجدوه من ركاب الحمير ينزلونه ويركبوا إلى ناحية البقاع ، وسخروا لهم من الصناع وغيرهم ، وجرت خطبة عظيمة ، وتباكى عوائلهم وأطفالهم ، ولم يسلفوا شيئا من أجورهم ، وكان من اللائق أن يسلفوه حتى يتركوه إلى أولادهم .
وخطب برهان الدين المقدسي الحنفي بجامع يلبغا عوضا عن تقي الدين ابن قاضي القضاة شرف الدين الكفري ، بمرسوم شريف ومرسوم نائب صفد أسندمر أخي يلبغا ، وشق ذلك عليه وعلى جده وجماعتهم ، وذلك يوم الجمعة الرابع من رمضان ، هذا وحضر عنده خلق كثير .
وفي يوم الخميس الرابع والعشرين منه قرئ تقليد قاضي القضاة شرف الدين ابن قاضي الجبل لقضاء الحنابلة ، عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين المرداوي ، عزل هو والمالكي معه أيضا; بسبب أمور تقدم نسبتها لهما ، وقرئ التقليد بمحراب الحنابلة ، وحضر عنده الشافعي ، والحنفي ، وكان المالكي معتكفا بالقاعة [ ص: 718 ] من المنارة الغربية ، فلم يخرج إليهم; لأنه معزول أيضا بسري الدين قاضي حماة ، وقد وقعت شرور وتخبيط بالصالحية وغيرها .
وفي صبيحة يوم الأربعاء الثلاثين من شهر رمضان خلع على قاضي القضاة سري الدين إسماعيل المالكي - قدم من حماة على قضاء المالكية - عوضا عن قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي - عزل عن المنصب - وقرئ تقليده بمقصورة المالكية من الجامع ، وحضر عنده القضاة والأعيان .
وفي صبيحة يوم الأربعاء سابع شوال قدم الأمير حيار بن مهنا إلى دمشق سامعا مطيعا ، بعد أن جرت بينه وبين الجيوش حروب متطاولة ، كل ذلك ليطأ البساط ، فأبى خوفا من المسك والحبس أو القتل ، فبعد ذلك كله قدم هذا اليوم قاصدا الديار المصرية; ليصطلح مع الأمير الكبير يلبغا ، فتلقاه الحجبة ، والمهمندارية ، والخلق ، وخرج الناس للفرجة ، فنزل القصر الأبلق ، وقدم معه نائب حماة عمر شاه فنزل معه ثاني يوم إلى الديار المصرية . وأقرأني القاضي ولي الدين عبد الله وكيل بيت المال كتاب والده قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية; أن الأمير الكبير جدد درسا بجامع فيه سبعة مدرسين ابن طولون للحنفية ، وجعل لكل فقيه منهم في الشهر أربعين درهما ، وإردب قمح ، وذكر فيه أن جماعة من غير الحنفية انتقلوا إلى مذهب أبي حنيفة لينزلوا في هذا الدرس .