بعد أن كان قد تجهز قاصدا الشام ، كما ذكرنا ، فلما بلغه قصد طلحة والزبير البصرة ، خطب الناس وحثهم على المسير إلى البصرة ليمنع أولئك من دخولها إن أمكن أو يطردهم عنها إن كانوا قد دخلوها ، فتثاقل عنه أكثر الناس ، واستجاب له بعضهم .
قال الشعبي : ما نهض معه في هذا الأمر غير ستة نفر من البدريين ، ليس لهم سابع . وقال غيره : أربعة . وذكر ابن جرير وغيره قال : كان ممن استجاب له من كبار الصحابة أبو الهيثم بن التيهان ، وأبو قتادة الأنصاري ، وزياد بن حنظلة ، . قالوا : وليس بذي الشهادتين ، ذاك مات في زمن وخزيمة بن ثابت عثمان ، رضي الله عنه . وسار علي من المدينة نحو البصرة على تعبئته المتقدمة إلى الشام ، غير أنه استخلف على المدينة تمام بن عباس ، وعلى مكة قثم بن [ ص: 441 ] عباس ، وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين . وخرج علي من المدينة في نحو من تسعمائة مقاتل ، وقد لقي ، رضي الله عنه ، عبد الله بن سلام عليا وهو بالربذة ، فأخذ بلجام فرسه وقال : يا أمير المؤمنين ، لا تخرج منها فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا . فسبه بعض الناس فقال علي : دعوه فنعم الرجل من أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم . وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق فقال : لقد نهيتك فعصيتني ، تقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك . فقال له علي : إنك لا تزال تحن على حنين الجارية ، وما الذي نهيتني عنه فعصيتك ؟ فقال : ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها لئلا يقتل وأنت بها ، فيقول قائل أو يتحدث متحدث ؟ ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان حتى يبعث إليك أهل كل مصر بيعتهم ؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا ، فعصيتني في ذلك كله ؟ فقال له علي : أما قولك أني أخرج قبل مقتل عثمان ، فلقد أحيط بنا كما أحيط به ، وأما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار ، فكرهت أن يضيع هذا الأمر ، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه ، فتريدني أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال : ليست هاهنا . حتى يحل عرقوبها فتخرج ، [ ص: 442 ] فإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني ، فمن ينظر فيه ؟ فكف عني يا بني .
ولما انتهى إليه خبر ما صنع القوم بالبصرة ، كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر ، ومحمد بن جعفر : إني قد اخترتكم على الأمصار ، وفزعت إليكم لما حدث ، فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا ، وانهضوا إلينا ، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا . فمضيا وأرسل إلى المدينة فأخذ ما أراد من سلاح ودواب ، وقام في الناس خطيبا فقال : إن الله أعزنا بالإسلام ورفعنا به ، وجعلنا به إخوانا بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد ، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله ; الإسلام دينهم ، والحق قائم بينهم ، والكتاب إمامهم ، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين أذلهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة ، ألا وإن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها ، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن . ثم عاد ثانية فقال : إنه لا بد مما هو كائن أن يكون ، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة ; شرها فرقة تحبني ولا تعمل بعملي ، وقد أدركتم ورأيتم ، فالزموا دينكم ، واهتدوا بهدي نبيكم ، واتبعوا سنته ، [ ص: 443 ] وأعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه على الكتاب ، فما عرفه القرآن فالزموه ، وما أنكره فردوه ، وارضوا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن حكما وإماما .
قال : فلما عزم على المسير من الربذة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع فقال : يا أمير المؤمنين ، أي شيء تريد ؟ وأين تذهب بنا ؟ فقال : أما الذي نريد وننوي فالإصلاح ، إن قبلوا منا وأجابوا إليه . قال : فإن لم يجيبوا إليه ؟ قال : ندعهم بغدرهم ونعطيهم الحق ونصبر . قال : فإن لم يرضوا ؟ قال : ندعهم ما تركونا . قال : فإن لم يتركونا ؟ قال : امتنعنا منهم . قال : فنعم إذا . فقام إليه الحجاج بن غزية الأنصاري فقال : لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول ، والله لينصرني الله كما سمانا أنصارا .
قال : وأتت جماعة من طيئ وعلي بالربذة ، فقيل له : هؤلاء جماعة جاءوا من طيئ ; منهم من يريد الخروج معك ، ومنهم من يريد السلام عليك . فقال : جزى الله كلا خيرا وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما [ النساء : 95 ] ثم سار من الربذة على تعبئته وهو راكب ناقة حمراء يقود فرسا كميتا ، فلما كان بفيد جاءه جماعة من أسد وطيئ ، فعرضوا أنفسهم عليه فقال : في من [ ص: 444 ] معي كفاية . وجاء رجل من أهل الكوفة يقال له : عامر بن مطر الشيباني . فقال له علي : ما وراءك ؟ فأخبره الخبر ، فسأله عن أبي موسى فقال : إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه ، وإن أردت القتال فليس بصاحبه . فقال علي : والله ما أريد إلا الصلح ممن تمرد علينا .
وسار فلما اقترب من الكوفة وجاءه الخبر بما وقع من الأمر على جليته ، من قتل من قتل من الناس ، ومن إخراج عثمان بن حنيف من البصرة ، وأخذهم أموال بيت المال ، جعل يقول : اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير . فلما انتهى إلى ذي قار أتاه عثمان بن حنيف مهشما ، وليس في وجهه شعرة ، فقال : يا أمير المؤمنين بعثتني إلى البصرة وأنا ذو لحية ، وقد جئتك أمرد . فقال : أصبت أجرا وخيرا . وقال عن طلحة والزبير : اللهم احلل ما عقدا ، ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما ، وأرهما المساءة فيما قد عملا - يعني في هذا الأمر . وأقام علي بذي قار ينتظر جواب ما كتب به مع محمد بن أبي بكر وصاحبه محمد بن جعفر - وكانا قد قدما بكتابه على أبي موسى ، وقاما في الناس بأمره - فلم يجابا في شيء ، فلما أمسوا دخل ناس من ذوي الحجا على أبي موسى يعرضون عليه الطاعة لعلي ، فقال : كان هذا بالأمس . فغضب محمد ومحمد ، فقالا له قولا غليظا ، فقال لهما : والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما ، فإن لم يكن بد من قتال فلا نقاتل أحدا حتى نفرغ من قتلة [ ص: 445 ] عثمان حيث كانوا ومن كانوا . فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر ، وهو بذي قار ، فقال للأشتر : أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء ! فاذهب أنت فأصلح ما أفسدت . فخرجا فقدما وابن عباس الكوفة ، وكلما أبا موسى ، واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة ، فقام في الناس فقال : أيها الناس إن أصحاب محمد ، صلى الله عليه وسلم ، الذين صحبوه أعلم بالله ورسوله ممن لم يصحبه ، وإن لكم علينا حقا ، وأنا مؤد إليكم نصيحة ، كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على أمره ، وهذه فتنة النائم فيها خير من اليقظان ، واليقظان خير من القاعد ، والقاعد خير من القائم ، والقائم خير من الراكب ، والراكب خير من الساعي ، فاغمدوا السيوف ، وأنصلوا الأسنة ، واقطعوا الأوتار ، وآووا المضطهد والمظلوم حتى يلتئم هذا الأمر ، وتنجلي هذه الفتنة . فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي ، فأخبراه الخبر ، فأرسل الحسن وقال وعمار بن ياسر ، لعمار : انطلق فأصلح ما أفسدت . فانطلقا حتى دخلا المسجد فكان أول من سلم عليهما مسروق بن الأجدع ، فقال لعمار : علام قتلتم عثمان ؟ فقال : على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا . فقال : والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولو صبرتم لكان خيرا للصابرين .
قال : وخرج أبو موسى فلقي الحسن بن علي فضمه إليه ، وقال لعمار : يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين عثمان قتلته ؟ فقال : لم أفعل ولم يسؤني [ ص: 446 ] ذلك . فقطع عليهما الحسن بن علي فقال لأبي موسى : لم تثبط الناس عنا ؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ، ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء . فقال : صدقت بأبي أنت وأمي ، ولكن المستشار مؤتمن ، سمعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الراكب ، وقد جعلنا الله إخوانا ، وحرم علينا دماءنا وأموالنا . فغضب عمار وسبه ، وقال : يا أيها الناس إنما قال له رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وحده : " أنت فيها قاعدا خير منك قائما " . فغضب رجل من بني تميم لأبي موسى ونال من عمار ، وثار آخرون ، وجعل أبو موسى يكفكف الناس ، وكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، وقال أبو موسى : أيها الناس ، أطيعوني وكونوا خير قوم من خير أمم العرب ، يأوي إليهم المظلوم ، ويأمن فيهم الخائف ، وإن الفتنة إذا أقبلت شبهت ، وإذا أدبرت بينت . ثم أمر الناس بكف أيديهم ولزوم بيوتهم ، فقام زيد بن صوحان فقال : أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين ، سيروا إليه أجمعين . فقام القعقاع بن عمرو فقال : إن الحق ما قاله الأمير ، ولكن لا بد للناس من أمير يردع الظالم ، ويعدي المظلوم ، وينتظم به شمل الناس ، وأمير المؤمنين علي مليء بما ولي ، وقد أنصف في الدعاء ، وإنما يريد الإصلاح فانفروا إليه . وقام عبد خير فقال : الناس أربع فرق ; علي بمن معه في ظاهر الكوفة ، وطلحة والزبير بالبصرة ، ومعاوية بالشام ، وفرقة بالحجاز لا تقاتل [ ص: 447 ] ولا عناء بها . فقال أبو موسى : أولئك خير الفرق ، وهذه فتنة .
ثم تراسل الناس في الكلام ، ثم قام عمار في الناس على المنبر يدعوان الناس إلى النفير إلى أمير المؤمنين ; فإنه إنما يريد الإصلاح بين الناس ، وسمع والحسن بن علي عمار رجلا يسب عائشة ، فقال : اسكت مقبوحا منبوحا ، والله إنها لزوجة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في الدنيا والآخرة ، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعونه أو إياها . رواه . البخاري
وقام حجر بن عدي فقال : أيها الناس سيروا إلى أمير المؤمنين : انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم [ التوبة : 41 ] وجعل الناس كلما قام رجل يحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر ، وعمار والحسن معه على المنبر حتى قال له الحسن بن علي : ويحك ! اعتزلنا لا أم لك ، ودع منبرنا . ويقال : إن عليا بعث الأشتر ، فعزل أبا موسى عن الكوفة ، وأخرجه من قصر الإمارة من تلك الليلة .
واستجاب الناس للنفير فخرج مع الحسن تسعة آلاف في البر وفي دجلة ، ويقال : سار معه اثنا عشر ألفا ورجل واحد ، فقدموا على علي بذي قار فتلقاهم إلى أثناء الطريق في جماعة ، منهم ابن عباس ، فرحب بهم وقال : يا أهل الكوفة ، أنتم لقيتم ملوك العجم ففضضتم [ ص: 448 ] جموعهم ، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة ، فإن يرجعوا فذاك الذي نريد ، وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بالظلم ، ولم ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد ، إن شاء الله تعالى . فاجتمعوا عنده بذي قار .
وكان من المشهورين من رؤساء من انضاف إلى علي ; القعقاع بن عمرو ، وسعر بن مالك ، وهند بن عمرو ، والهيثم بن شهاب ، وزيد بن صوحان ، والأشتر ، وعدي بن حاتم ، والمسيب بن نجبة ، ويزيد بن قيس ، وأمثالهم ، وكانت وحجر بن عدي ، عبد القيس بكمالها بين علي وبين البصرة ينتظرونه وهم ألوف ، فبعث علي القعقاع رسولا إلى طلحة والزبير بالبصرة يدعوهما إلى الألفة والجماعة ، ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف ، فذهب القعقاع إلى البصرة ، فبدأ بعائشة أم المؤمنين ، فقال : أي أمه ، ما أقدمك هذه البلدة ؟ فقالت : أي بني الإصلاح بين الناس . فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها ، فحضرا فقال القعقاع : إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها ؟ فقالت : الإصلاح بين الناس . فقالا : ونحن كذلك . قال : فأخبراني ما [ ص: 449 ] وجه هذا الإصلاح ؟ فوالله لئن عرفناه لنصطلحن ، ولئن أنكرناه لا نصطلحن . قالا : قتلة عثمان ، فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن . فقال : قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة ، وأنتم قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم ، قتلتم ستمائة رجل ، فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم ، وخرجوا من بين أظهركم ، وطلبتم حرقوص بن زهير ، فمنعه ستة آلاف ، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون ، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم ، فالذي حذرتم وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه . يعني أن الذي تريدون من قتل قتلة عثمان مصلحة ، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها ، وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير ، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله ، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان ، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم بعد هذا ، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة عليه .
ثم أعلمهم أن خلقا من ربيعة ومضر قد أجمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع . فقالت له عائشة أم المؤمنين : فماذا تقول أنت ؟ قال : أقول : إن هذا [ ص: 450 ] الأمر الذي وقع دواؤه التسكين ، فإذا سكن اختلجوا ، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير ، وتباشير رحمة ، ودرك بثأر ، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر وائتنافه ، كانت علامة شر ، وذهاب هذا الملك ، فآثروا العافية ترزقوها ، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أول ، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له ، فيصرعنا الله وإياكم ، وايم الله ، إني لأقول قولي هذا وأدعوكم إليه ، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ، ونزل بها ما نزل ، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم ، وليس كقتل الرجل الرجل ، ولا النفر الرجل ، ولا القبيلة القبيلة . فقالوا : قد أصبت وأحسنت فارجع ، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر . قال : فرجع إلى علي فأخبره ، فأعجبه ذلك ، وأشرف القوم على الصلح ، كره ذلك من كرهه ، ورضيه من رضيه .
وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للإصلاح ، ففرح هؤلاء وهؤلاء ، وقام علي في الناس خطيبا فذكر الجاهلية وشقاءها ، وذكر الإسلام [ ص: 451 ] وسعادة أهله بالألفة والجماعة ، وأن الله جمعهم بعد نبيهم ، صلى الله عليه وسلم ، على الخليفة أبي بكر الصديق ، ثم بعده على عمر بن الخطاب ، ثم على عثمان ، ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا ، وحسدوا من أنعم الله عليه بها ، وعلى الفضيلة التي من بها ، وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها ، والله بالغ أمره . ثم قال : ألا إني مرتحل غدا فارتحلوا ، ولا يرتحل معي أحد أعان على عثمان بشيء من أمور الناس . فلما قال هذا اجتمع من رءوسهم جماعة ; كالأشتر النخعي ، وشريح بن أوفى ، وعبد الله بن سبأ ، المعروف بابن السوداء ، وسالم بن ثعلبة ، وعلباء بن الهيثم ، وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ، ولله الحمد . فقالوا : ما هذا الرأي ؟ وعلي والله أبصر بكتاب الله وهو ممن يطلب قتلة عثمان ، وأقرب إلى العمل بذلك ، وقد قال ما سمعتم ، غدا يجمع عليكم الناس ، وإنما يريد القوم كلهم أنتم ، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم ؟ فقال الأشتر : قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا ، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم ، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا ، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا عليا بعثمان ، فرضي القوم منا [ ص: 452 ] بالسكوت . فقال ابن السوداء : بئس ما رأيت ، لو قتلناه قتلنا ، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة ، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف ، ولا طاقة لكم بهم ، وهم إنما يريدونكم . فقال علباء بن الهيثم : دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها . فقال ابن السوداء : بئس ما قلت ، إذا والله كان يتخطفكم الناس . ثم قال ابن السوداء ، قبحه الله : يا قوم إن عزكم في خلطة الناس ، فإذا التقى الناس فأنشبوا القتال ، ولا تفرغوهم للنظر ، فمن أنتم معه لا يجد بدا من أن يمتنع ، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما تكرهون . فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه ، وأصبح علي مرتحلا ، ومر بعبد القيس ، فساروا معه حتى نزلوا بالزاوية ، وسار منها يريد البصرة ، وسار طلحة والزبير ومن معهما للقائه ، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد ، ونزل الناس كل في ناحية ، وقد سبق علي جيشه ، وهم يتلاحقون به ، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم ، فكان ذلك للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ، وقد أشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز [ ص: 453 ] الفرصة من قتلة عثمان ، فقالا : إن عليا قد أشار بتسكين هذا الأمر ، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك . وقام علي في الناس خطيبا ، فقام إليه الأعور بن بنان المنقري ، فسأله عن إقدامه على أهل البصرة فقال : الإصلاح وإطفاء النائرة ; ليجتمع الناس على الخير ، ويلتئم شمل هذه الأمة . قال : فإن لم يجيبونا ؟ قال : تركناهم ما تركونا . قال : فإن لم يتركونا ؟ قال : دفعناهم عن أنفسنا . قال : فهل لهم في هذا الأمر مثل الذي لنا ؟ قال : نعم . وقام إليه أبو سلامة الدالاني ، فقال : هل لهؤلاء القوم من حجة فيما طلبوا من هذا الدم ، إن كانوا أرادوا الله في ذلك ؟ قال : نعم . قال : فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك ؟ قال : نعم . قال : فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدا ؟ قال : إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقى قلبه لله إلا أدخله الله الجنة . وقال في خطبته : أيها الناس أمسكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم ، وإياكم أن تسبقونا فإن المخصوم غدا من خصم اليوم . وجاء في غبون ذلك في جماعة ، فانضاف إلى الأحنف بن قيس علي - وكان قد منع حرقوص بن زهير من طلحة والزبير - وكان قد بايع عليا بالمدينة ; وذلك أنه قدم المدينة وعثمان محصور ، فسأل عائشة [ ص: 454 ] وطلحة والزبير : إن قتل عثمان من أبايع ؟ فقالوا : بايع عليا . فلما قتل عثمان بايع عليا ، قال : ثم رجعت إلى قومي ، فجاءني بعد ذلك ما هو أفظع ، حتى قال الناس : هذه عائشة جاءت لتأخذ بدم عثمان . فحرت في أمري لمن أتبع ، فنفعني الله بحديث سمعته من أبي بكرة قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغه أن الفرس قد ملكوا عليهم ابنة كسرى فقال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة وأصل هذا الحديث في " صحيح " . البخاري
والمقصود أن الأحنف لما انحاز إلى علي ومعه ستة آلاف فقال لعلي : إن شئت قاتلت معك ، وإن شئت كففت عنك عشرة آلاف سيف . فقال : اكفف عنا عشرة آلاف سيف . ثم بعث علي إلى طلحة والزبير يقول : إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر . فأرسلا إليه في جواب رسالته : إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس . فاطمأنت النفوس وسكنت ، واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين ، فلما أمسوا بعث علي إليهم ، وبعثوا إليه عبد الله بن عباس محمد [ ص: 455 ] بن طلحة السجاد ، وبات الناس بخير ليلة ، وبات قتلة عثمان بشر ليلة ، وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس ، فنهضوا من قبل طلوع الفجر ، وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم ، فهجموا عليهم بالسيوف ، فثار كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم ، وقام الناس من منامهم إلى السلاح ، فقالوا : ما هذا ؟ قالوا : طرقنا أهل الكوفة ليلا ، وبيتونا وغدروا بنا . وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب علي ، فبلغ الأمر عليا فقال : ما للناس ؟ فقالوا بيتنا أهل البصرة . فثار كل فريق إلى سلاحهم ، ولبسوا اللأمة ، وركبوا الخيول ، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر . وكان أمر الله قدرا مقدورا . فنشبت الحرب وتواقف الفريقان ، وقد اجتمع مع علي عشرون ألفا ، والتف على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفا ، وقامت الحرب على ساق ، وتبارز الفرسان ، وجالت الشجعان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . والسبئية أصحاب ابن السوداء ، قبحه الله لا يفترون عن القتل ، ومنادي علي ينادي : ألا كفوا ! ألا كفوا ! فلا يسمع أحد ، وجاء كعب بن سور قاضي البصرة ، فقال : يا أم المؤمنين أدركي الناس ، لعل الله أن يصلح بك بين الناس . فجلست في هودجها فوق بعيرها ، وستروا الهودج بالدروع ، وجاءت فوقفت بحيث تنظر إلى الناس في معركتهم ، فتصاولوا وتجاولوا ، وكان في جملة من تبارز الزبير [ ص: 456 ] وعمار ، فجعل عمار يحوزه بالرمح ، والزبير كاف عنه ، ويقول له : أتقتلني يا أبا اليقظان ؟ فيقول : لا يا أبا عبد الله . وإنما تركه الزبير لقول رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : تقتلك الفئة الباغية وإلا فالزبير أقدر عليه منه عليه ، فلهذا كف عنه ، وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف على جريح ، ولا يتبع مدبر ، وقد قتل مع هذا بشر كثير جدا ، حتى جعل علي يقول لابنه الحسن : يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة . فقال له : يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا .
قال عن سعيد بن أبي عروبة ، قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عباد قال : قال علي يوم الجمل : يا حسن ، يا حسن ، ليت أباك مات منذ عشرين سنة . فقال له : يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا . قال : يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا . وقال عن مبارك بن فضالة ، الحسن ، عن أبي بكرة : لما اشتد القتال يوم الجمل ، ورأى علي الرءوس تندر ، أخذ علي ابنه الحسن ، فضمه إلى صدره ، ثم قال : إنا لله يا حسن ! أي خير يرجى بعد هذا !
[ ص: 457 ] فلما ركب الجيشان ، وتراءى الجمعان ، طلب علي الزبير ، وطلحة ، ليكلمهما ، فاجتمعوا حتى التفت أعناق خيولهم ، فيقال : إنه قال لهما : إني أراكما قد جمعتما خيلا ورجالا وعددا ، فهل أعددتما عذرا يوم القيامة كذلك ؟ فاتقيا الله ، ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، ألم أكن أخاكما في دينكما ، تحرمان دمي وأحرم دمكما ، فهل من حدث أحل لكما دمي ؟ فقال طلحة : ألبت على عثمان . فقال علي : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق [ النور : 25 ] ثم قال : لعن الله قتلة عثمان . ثم قال : يا طلحة ، أجئت بعرس رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، تقاتل بها ، وخبأت عرسك في البيت ! أما بايعتني ؟ قال : بايعتك والسيف على عنقي . وقال للزبير : ما أخرجك ؟ قال : أنت ، ولا أراك بهذا الأمر أولى به مني . فقال له علي : أتذكر يوم بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه ، فقلت : لا يدع ابن أبي طالب زهوه . فقال لك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " إنه ليس بمزهو لتقاتلنه ، وأنت ظالم له " فقال مررت مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، في الزبير : اللهم نعم ، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا ، [ ص: 458 ] ووالله لا أقاتلك .
وفي هذا السياق كله نظر ، والمحفوظ منه الحديث ، كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي ، عن جده عبد الملك ، عن أبي جرو المازني قال : عليا والزبير حين تواقفا - يعني يوم الجمل - فقال له علي : يا زبير ، أنشدك الله ، أسمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : إنك تقاتلني وأنت لي ظالم ؟ " قال : نعم ، ولم أذكره إلا في موقفي هذا . ثم انصرف . وقد رواه شهدت عن البيهقي ، عن الحاكم ، أبي الوليد الفقيه ، عن الحسن بن سفيان ، عن قطن بن نسير ، عن جعفر بن سليمان ، عن عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن مسلم الرقاشي ، عن جده ، عن أبي جرو [ ص: 459 ] المازني ، عن علي والزبير به .
وقال عبد الرزاق : أنا معمر ، عن قتادة قال : لما ولى الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال : لو كان ابن صفية يعلم أنه على حق ما ولى . وذلك سقيفة بني ساعدة فقال : " أتحبه يا زبير ؟ " . فقال : وما يمنعني ؟ قال : " فكيف بك إذا قاتلته وأنت ظالم له ؟ " . قال : فيرون أنه إنما ولى لذلك . قال أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لقيهما في : وهذا مرسل ، وقد روي موصولا من وجه آخر : أخبرنا البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي ، أنا أبو عمرو بن مطر ، أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن سوار الهاشمي الكوفي ، أنا منجاب بن الحارث ، ثنا عبد الله بن الأجلح ، ثنا أبي ، عن يزيد الفقير ، عن أبيه قال : وسمعت فضل بن فضالة يحدث عن أبي ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي ، عن أبيه - دخل حديث أحدهما في حديث صاحبه - قال : لما دنا علي وأصحابه من طلحة والزبير ، ودنت الصفوف بعضها من بعض ، خرج [ ص: 460 ] علي وهو على بغلة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فنادى : ادعوا لي فإني الزبير بن العوام علي . فدعي له الزبير ، فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما ، فقال علي : يا زبير ، نشدتك بالله ، أتذكر يوم مر بك رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ونحن في مكان كذا وكذا فقال : " زبير تحب عليا ؟ " . فقلت : ألا أحب ابن خالي وابن عمي وعلى ديني ! فقال : " يا زبير ، أما والله لتقاتلنه وأنت ظالم له ؟ " فقال يا الزبير : بلى والله لقد نسيته منذ سمعته من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكرته الآن والله لا أقاتلك . فرجع الزبير على دابته يشق الصفوف ، فعرض له ابنه عبد الله بن الزبير فقال : ما لك ؟ فقال : ذكرني علي حديثا سمعته من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، سمعته يقول : فقال : وللقتال جئت ؟ إنما جئت لتصلح بين الناس ويصلح الله بك هذا الأمر . قال : قد حلفت أن لا أقاتله . قال : أعتق غلامك لتقاتلنه وأنت ظالم له جرجس ، وقف حتى تصلح بين الناس . فأعتق غلامه ، ووقف ، فلما اختلف أمر الناس ذهب على فرسه .
وروى البزار عن أحمد بن عبدة ، عن الحسين بن الحسن ، عن رفاعة [ ص: 461 ] بن إياس بن أبي إياس ، عن أبيه عن جده قال : سمعت عليا يقول لطلحة يوم الجمل : أما سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه " ؟ قال : بلى . وانصرف . وقد استغربه البزار ، وهو جدير بذلك .
فرجع الزبير إلى عائشة فذكر لها أنه قد آلى أن لا يقاتل عليا ، فقال له ابنه عبد الله : إنك جمعت الناس فلما ترآى بعضهم لبعض خرجت من بينهم ، كفر عن يمينك واحضر . فأعتق غلاما له اسمه مكحول وقيل : سرجس .
وقد قيل : إنه إنما رجع عن القتال لما رأى عمارا مع علي ، وقد سمع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول لعمار : تقتلك الفئة الباغية . فخشي أن يقتل عمار في هذا اليوم . وعندي أن الحديث الذي أوردناه إن كان صحيحا عنه فما رجعه سواه ، ويبعد أن يكفر عن يمينه ثم يحضر بعد ذلك ويقاتل عليا . والله أعلم .
والمقصود أن الزبير لما رجع يوم الجمل سار حتى نزل واديا يقال له : [ ص: 462 ] وادي السباع . فاتبعه عمرو بن جرموز ، فجاءه وهو نائم فقتله غيلة ، كما سنذكر تفصيله . وأما طلحة فجاءه في المعركة سهم غرب ، يقال : رماه به فالله أعلم . فانتظم رجله مع فرسه فجمحت به الفرس فجعل يقول : إلي عباد الله إلي عباد الله . فاتبعه مولى له فأمسكها فقال له : ويحك اعدل بي إلى البيوت . وامتلأ خفه دما فقال لغلامه : انزعه واردفني . وذلك أنه نزفه الدم وضعف ، فركب الغلام وراءه ، وجاء به إلى بيت في مروان بن الحكم البصرة فمات فيه ، رضي الله عنه .
وتقدمت عائشة ، رضي الله عنها ، في هودجها ، وناولت كعب بن سور قاضي البصرة مصحفا وقالت : ادعهم إليه . وذلك حين اشتد الحرب وحمي القتال ، ورجع الزبير وقتل طلحة ، رضي الله عنهما ، فلما تقدم كعب بن سور بالمصحف يدعو الناس إليه ، استقبله مقدمة جيش الكوفيين وهو عبد الله بن سبأ - ابن السوداء - وأتباعه وهم بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد ، فلما رأوا كعب بن سور رافعا [ ص: 463 ] المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ، ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، فجعلت تنادى : الله الله ! يا بني اذكروا يوم الحساب . ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان ، فضج الناس معها بالدعاء حتى وصلت الضجة إلى علي فقال : ما هذا ؟ فقالوا : أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم . فقال : اللهم العن قتلة عثمان . وجعل أولئك النفر لا يقلعون عن رشق هودجها بالنبال حتى بقي مثل القنفذ ، وجعلت تحرض الناس على منعهم وكفهم ، فحملت مضر حملة الحفيظة ، فطردوهم حتى وصلت الحملة إلى الموضع الذي فيه علي بن أبي طالب ، فقال لابنه : ويحك تقدم بالراية . فلم يستطع فأخذها محمد بن الحنفية علي من يده فتقدم بها وجعلت الحرب تأخذ وتعطي ; فتارة لأهل البصرة ، وتارة لأهل الكوفة ، حتى قتل خلق كثير ، وجم غفير ، ولم تر وقعة أكثر من قطع الأيدي والأرجل فيها من هذه الوقعة ، وجعلت عائشة تحرض الناس على أولئك النفر من قتلة عثمان ، ونظرت عن يمينها فقالت : من هؤلاء القوم ؟ فقالوا : نحن بكر بن وائل . فقالت : لكم يقول القائل :
وجاءوا إلينا بالحديد كأنهم من العزة القعساء بكر بن وائل
ثم جاء إليها بنو ناجية ثم بنو ضبة ، فقتل عندها منهم خلق كثير . [ ص: 464 ] ويقال : إنه قطعت يد سبعين رجلا وهي آخذة بخطام الجمل . فلما أثخنوا تقدم بنو عدي بن عبد مناف فقاتلوا قتالا شديدا ، ورفعوا رأس الجمل ، وجعل أولئك يقصدون الجمل ، وقالوا : لا يزال الحرب قائما ما دام هذا الجمل واقفا . ورأس الجمل في يد عميرة بن يثربي ، وقتل أخوه عمرو بن يثربي ، وكان من الشجعان المذكورين ، والفرسان المشهورين ، فتقدم إليه هند بن عمرو الجملي ، فقتله ابن يثربي ، ثم صمد إليه علباء بن الهيثم ، فقتله ابن يثربي أيضا ، وقتل سيحان بن صوحان ، وارتث صعصعة بن صوحان ، فدعاه عمار إلى البراز فبرز له ، فتجاولا بين الصفين - وعمار يومئذ ابن تسعين سنة ، عليه فروة قد ربط وسطه بحبل ليف - فقال الناس : إنا لله وإنا إليه راجعون ، الآن يلحق عمارا بأصحابه . فضربه ابن يثربي بالسيف فاتقاه عمار بدرقته ، فعضت السيف ونشب فيها ، [ ص: 465 ] وضربه عمار فقطع رجليه ، وأخذه أسيرا إلى بين يدي علي فقال : استبقني يا أمير المؤمنين . فقال : أبعد ثلاثة تقتلهم . ثم أمر به فقتل . واستمر زمام الجمل بيد رجل بعده كان قد استنابه فيه من بني عدي ، فبرز إليه ربيعة العقيلي ، فتجاولا حتى قتل كل واحد منهما صاحبه ، وأخذ الزمام الحارث الضبي ، فما رئي أشد منه وجعل يقول :نحن بنو ضبة أصحاب الجمل نبارز القرن إذا القرن نزل
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل الموت أحلى عندنا من العسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وكلما قتل واحد ممن يمسك الجمل تقدم غيره ، حتى قتل منهم أربعون رجلا . قالت عائشة : ما زال جملي معتدلا حتى فقدت أصوات بني ضبة . [ ص: 466 ] ثم أخذ الخطام سبعون رجلا من قريش ، وكل واحد يقتل بعد صاحبه ، فكان منهم محمد بن طلحة المعروف بالسجاد ، فقال : مريني بأمرك يا أماه . فقالت : آمرك أن تكون كخير ابني آدم . فامتنع أن ينصرف وثبت في مكانه ، وجعل يقول : حم لا ينصرون . فتقدم إليه نفر فحملوا عليه فقتلوه ، وصار كل واحد منهم بعد ذلك يدعي قتله ، وقد طعنه بعضهم بحربة فأنفذه وقال : لعائشة
وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم
يناشدني حم والرمح شاجر فهلا تلا حم قبل التقدم
على غير شيء غير أن ليس تابعا عليا ومن لا يتبع الحق يندم
يا أمنا يا خير أم نعلم أما ترين كم شجاع يكلم
وتختلى هامته والمعصم
اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي
ويقال : إن أعين بن ضبيعة المجاشعي اطلع في الهودج . فقالت : إليك لعنك الله . فقال : والله ما أرى إلا حميراء . فقالت : هتك الله سترك ، وقطع يدك ، وأبدى عورتك . فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي عريانا في خربة من [ ص: 469 ] خرابات الأزد . فلما كان الليل دخلت أم المؤمنين البصرة ، ومعها أخوها محمد بن أبي بكر ، فنزلت في دار عبد الله بن خلف الخزاعي - وهي أعظم دار بالبصرة - على صفية بنت الحارث بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار ، وهي أم طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف ، وتسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا البصرة ، وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثا ، وقد طاف علي بين القتلى ، فجعل كلما مر برجل يعرفه يترحم عليه ويقول : يعز علي أن أرى قريشا صرعى . وقد مر علي - فيما ذكر - على وهو مقتول ، فقال : لهفي عليك يا طلحة بن عبيد الله أبا محمد ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله لقد كنت كما قال الشاعر :
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر