[ ص: 682 ] سنة أربعين من الهجرة النبوية
فيها كان علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، على ما سنذكره مفصلا إن شاء الله تعالى . مقتل أمير المؤمنين
قال ابن جرير : فمما كان في هذه السنة من الأمور الجليلة ، توجيه معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز ، فذكر عن ، عن زياد بن عبد الله البكائي عوانة قال : أرسل معاوية بعد تحكيم الحكمين بسر بن أبي أرطاة - هو رجل من بني عامر بن لؤي - في جيش ، فساروا من الشام حتى قدموا المدينة وعامل علي عليها يومئذ ففر منهم أبو أيوب الأنصاري ، أبو أيوب ، فأتى عليا بالكوفة ، ودخل بسر المدينة ، ولم يقاتله أحد ، فصعد منبرها فنادى على المنبر : يا دينار ، ويا نجار ، ويا زريق ، شيخي شيخي ! عهدي به هاهنا بالأمس ، فأين هو ؟ يعني عثمان بن عفان ، ثم قال : يا أهل المدينة ، والله لولا ما عهد إلي معاوية فيكم ما تركت بها محتلما إلا قتلته . ثم بايع أهل المدينة ، وأرسل إلى بني سلمة ، فقال : والله ما لكم عندي من أمان ولا [ ص: 683 ] مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله ، يعني حتى يبايعه ، فانطلق جابر إلى أم سلمة فقال لها : ماذا ترين ؟ إني خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة . فقالت : أرى أن تبايع ، فإني قد أمرت ابني عمر ، وختني عبد الله بن زمعة ; وهو زوج ابنتها زينب أن يبايعا ، فأتاه جابر فبايعه .
قال : وهدم بسر دورا بالمدينة ، ثم مضى حتى أتى مكة ، فخافه أن يقتله ، فقال له أبو موسى الأشعري بسر : ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ذلك . فخلى عنه ، وكتب أبو موسى قبل ذلك إلى أهل اليمن أن خيلا مبعوثة من عند معاوية تقتل من أبى أن يقر بالحكومة ، ثم مضى بسر إلى اليمن وعليها ففر إلى عبيد الله بن عباس ، الكوفة حتى لحق بعلي ، واستخلف على اليمن عبد الله بن عبد المدان الحارثي ، فلما دخل بسر اليمن قتله ، وقتل ابنه ، ولقي بسر ثقل وفيه ابنان له صغيران ، فقتلهما وهما ; عبيد الله بن عباس ، عبد الرحمن وقثم ، وقيل : إنه ذبحهما بين يدي أمهما ، فزاغ عقلها ووسوست مما رأت ، فكانت بعد ذلك تقف في المواسم مبهوتة زائغة العقل ، تندب ولديها . ويقال : إن بسرا قتل في مسيره هذا خلقا من شيعة علي ، وهذا الخبر مشهور عند أصحاب المغازي والسير ، وفي صحته عندي نظر ، [ ص: 684 ] والله تعالى أعلم . ولما بلغ عليا خبر بسر ، وجه جارية بن قدامة في ألفين ، ووهب بن مسعود في ألفين ، فسار جارية حتى بلغ نجران ، فحرق بها ، وقتل ناسا من شيعة عثمان ، وهرب بسر وأصحابه فأتبعهم حتى بلغ مكة . فقال لهم جارية : بايعوا ! فقالوا : لمن نبايع وقد هلك أمير المؤمنين ! فلمن نبايع ؟ فقال : بايعوا لمن بايع له أصحاب علي ، فتثاقلوا ثم بايعوا حين خافوا . ثم سار حتى أتى المدينة يصلي بهم فهرب منه ، فقال وأبو هريرة جارية : والله لو أخذت أبا سنور لضربت عنقه . ثم قال لأهل المدينة بايعوا الحسن بن علي ، فبايعوا وأقام عندهم يوما ، ثم خرج منصرفا إلى الكوفة ، وعاد يصلي بهم . أبو هريرة
قال ابن جرير وفي هذه السنة جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات يطول ذكرها ، على وضع الحرب بينهما ، وأن يكون ملك العراق لعلي ، ولمعاوية ملك الشام ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزوة .
ثم ذكر عن زياد ، عن ابن إسحاق ما هذا مضمونه ، أن معاوية كتب إلى علي : أما بعد ، فإن الأمة قد قتل بعضها بعضا بيني وبينك ، فلك العراق ولي [ ص: 685 ] الشام ، فأقره علي على ذلك . وأمسك كل واحد منهما عن قتال الآخر ، وبعث الجيوش إلى بلاده ، واستقر الأمر على ذلك .
قال ابن جرير : وفي هذه السنة خرج ابن عباس من البصرة إلى مكة ، وترك العمل في قول عامة أهل السير ، وقد أنكر ذلك بعضهم ، وزعم أنه لم يزل عاملا على البصرة حتى صالح الحسن بن علي معاوية ، وأنه كان شاهدا للصلح ، كما نص على ذلك أبو عبيدة وغيره .
ثم ذكر ابن جرير سبب خروج ابن عباس عن البصرة ; وذلك أنه كلم أبا الأسود الدئلي - وكان قاضيا عليها - بكلام فيه غض من أبي الأسود ، فكتب أبو الأسود إلى علي يشكو إليه ابن عباس ، وينال من عرضه ; بأنه تناول شيئا من أموال الناس من بيت المال ، فبعث علي إلى ابن عباس فعاتبه في ذلك ، وحرر عليه القضية ، فغضب ابن عباس من ذلك ، وكتب إلى علي أن ابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه ، [ ص: 686 ] والسلام . ثم سار ابن عباس إلى مكة مع أخواله بني هلال ، وتبعتهم قيس كلها ، وقد أخذ شيئا من بيت المال مما كان اجتمع له من العمالة والفيء ، ولما سار تبعته أقوام أخر ، فلحقهم بنو تميم وأرادوا ردهم ومنعهم من المسير ، فكان بينهم بعض قتال ، ثم تحاجزوا ، ودخل ابن عباس مكة .