[ ص: 199 ] nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66nindex.php?page=treesubj&link=28987_19790وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين هذه حجة أخرى ، ومنة من المنن الناشئة عن
nindex.php?page=treesubj&link=29485منافع خلق الأنعام ، أدمج في منتها العبرة بما في دلالتها على بديع صنع الله تبعا لقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=5والأنعام خلقها لكم فيها دفء إلى قوله لرءوف رحيم .
ومناسبة ذكر هذه النعمة هنا أن بألبان الأنعام حياة الإنسان ، كما تحيا الأرض بماء السماء ، وأن لآثار ماء السماء أثرا في تكوين ألبان الحيوان بالمرعى .
واختصت هذه العبرة بما تنبه إليه من
nindex.php?page=treesubj&link=32445_32414_32667_19790بديع الصنع والحكمة في خلق الألبان بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا ، ثم بالتذكير بما في ذلك من النعمة على الناس إدماجا للعبرة بالمنة .
فجملة ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) معطوفة على جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65إن في ذلك لآية لقوم يسمعون ، أي كما كان لقوم يسمعون عبرة في إنزال الماء من السماء لكم في الأنعام عبرة أيضا ، إذ قد كان المخاطبون ، وهم المؤمنون القوم الذين يسمعون .
وضمير الخطاب التفات من الغيبة . وتوكيدها بـ ( إن ) ولام الابتداء كتأكيد الجملة قبلها .
والأنعام : اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز .
والعبرة : ما يتعظ به ويعتبر ، وقد تقدم في نهاية سورة يوسف ، وجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نسقيكم مما في بطونه واقعة موقع البيان لجملة
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وإن لكم في الأنعام لعبرة .
والبطون : جمع بطن ، وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كله ; من معدة وكبد وأمعاء .
[ ص: 200 ] و ( من ) في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ابتدائية ; لأن اللبن يفرز عن العلف الذي في البطون ، وماصدق ما في بطونه العلف ، ويجوز جعلها تبعيضية ، ويكون ماصدق ما في بطونه هو اللبن اعتدادا بحالة مروره في داخل الأجهزة الهضمية قبل انحداره في الضرع .
و ( من ) في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66من بين فرث زائدة لتوكيد التوسط ، أي يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم .
ووقع البيان بـ نسقيكم دون أن يقال : تشربون أو نحوه ; إدماجا للمنة مع العبرة .
ووجه العبرة في ذلك أن ما تحتويه بطون الأنعام من العلف والمرعى ينقلب بالهضم في المعدة ، ثم الكبد ، ثم غدد الضرع ، مائعا يسقى ، وهو مفرز من بين إفراز فرث ودم .
والفرث : الفضلات التي تركها الهضم المعدي فتنحدر إلى الأمعاء فتصير فرثا ، والدم : إفراز تفرزه الكبد من الغذاء المنحدر إليها ، ويصعد إلى القلب فتدفعه حركة القلب الميكانيئية إلى الشرايين والعروق ، ويبقى يدور كذلك بواسطة القلب ، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حرمت عليكم الميتة والدم في سورة العقود .
ومعنى
nindex.php?page=treesubj&link=32445_32667كون اللبن من بين الفرث والدم أنه إفراز حاصل في حين إفراز الدم وإفراز الفرث ، وعلاقته بالفرث أن الدم الذي ينحدر في عروق الضرع يمر بجواز الفضلات البولية والثفلية ، فتفرزه غدد الضرع لبنا كما تفرزه غدد الكليتين بولا بدون معالجة زائدة ، وكما تفرز تكاميش الأمعاء ثفلا بدون معالجة بخلاف إفراز غدد المثانة للمني لتوقفه على معالجة ينحدر بها الدم إليها .
وليس المراد أن اللبن يتميع من بين طبقتي فرث ودم ، وإنما الذي أوهم ذلك من توهمه حمله ( بين ) على حقيقتها من ظرف المكان ، وإنما هي
[ ص: 201 ] تستعمل كثيرا في المكان المجازي فيراد بها الوسط بين مرتبتين كقولهم : الشجاعة صفة بين التهور والجبن ، فمن بلاغة القرآن هذا التعبير القريب للأفهام لكل طبقة من الناس بحسب مبالغ علمهم ، مع كونه موافقا للحقيقة .
والمعنى : إفراز ليس هو بدم ; لأنه ألين من الدم ، ولأنه غير باق في عروق الضرع كبقاء الدم في العروق ، فهو شبيه بالفضلات في لزوم إفرازه ، وليس هو بالفضلة ; لأنه إفراز طاهر نافع مغذ ، وليس قذرا ضارا غير صالح للتغذية كالبول والثفل .
وموقع ( من بين فرث ودم ) موقع الصفة لـ ( لبنا ) ، قدمت عليه للاهتمام بها ; لأنها موضع العبرة ، فكان لها مزيد اهتمام ، وقد صارت بالتقديم حالا .
ولما كان اللبن يحصل في الضرع لا في البطن جعل مفعولا لـ ( نسقيكم ) ، وجعل مما في بطونه تبيينا لمصدره لا لمورده ، فليس اللبن مما في البطون ، ولذلك كان مما في بطونه متقدما في الذكر ; ليظهر أنه متعلق بفعل ( نسقيكم ) وليس وصفا للبن .
وقد أحاط بالأوصاف التي ذكرناها للبن قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66خالصا سائغا للشاربين ، فخلوصه نزاهته مما اشتمل عليه البول والثفل ، وسوغه للشاربين سلامته مما يشتمل عليه الدم من المضار لمن شربه ، فلذلك لا يسيغه الشارب ويتجهمه .
وهذا الوصف العجيب
nindex.php?page=treesubj&link=32443من معجزات القرآن العلمية ، إذ هو وصف لم يكن لأحد من العرب يومئذ أن يعرف دقائق تكوينه ، ولا أن يأتي على وصفه بما لو وصف به العالم الطبيعي لم يصفه بأوجز من هذا وأجمع .
وإفراد ضمير الأنعام في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه مراعاة لكون اللفظ مفردا ; لأن اسم الجمع لفظ مفرد ، إذ ليس من صيغ الجموع ، فقد يراعى
[ ص: 202 ] اللفظ فيأتي ضميره مفردا ، وقد يراعى معناه فيعامل معاملة الجموع ، كما في آية سورة المؤمنين
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=21نسقيكم مما في بطونها .
والخالص : المجرد مما يكدر صفاءه ، فهو الصافي ، والسائغ : السهل المرور في الحلق .
وقرأ
نافع وابن عامر وأبو بكر عن
عاصم ويعقوب ( نسقيكم ) بفتح النون مضارع سقى ، وقرأه
ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن
عاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وخلف بضم النون على أنه مضارع أسقى ، وهما لغتان ، وقرأه
أبو جعفر بمثناة فوقية مفتوحة عوضا عن النون على أن الضمير للأنعام .
[ ص: 199 ] nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66nindex.php?page=treesubj&link=28987_19790وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نَسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى ، وَمِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ النَّاشِئَةِ عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=29485مَنَافِعِ خَلْقِ الْأَنْعَامِ ، أُدْمِجَ فِي مِنَّتِهَا الْعِبْرَةُ بِمَا فِي دَلَالَتِهَا عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=5وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ إِلَى قَوْلِهِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ .
وَمُنَاسَبَةُ ذِكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُنَا أَنَّ بِأَلْبَانِ الْأَنْعَامِ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ ، كَمَا تَحْيَا الْأَرْضُ بِمَاءِ السَّمَاءِ ، وَأَنَّ لِآثَارِ مَاءِ السَّمَاءِ أَثَرًا فِي تَكْوِينِ أَلْبَانِ الْحَيَوَانِ بِالْمَرْعَى .
وَاخْتَصَّتْ هَذِهِ الْعِبْرَةُ بِمَا تُنَبِّهُ إِلَيْهِ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=32445_32414_32667_19790بَدِيعِ الصُّنْعِ وَالْحِكْمَةِ فِي خَلْقِ الْأَلْبَانِ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا ، ثُمَّ بِالتَّذْكِيرِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَى النَّاسِ إِدْمَاجًا لِلْعِبْرَةِ بِالْمِنَّةِ .
فَجُمْلَةُ ( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ) مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=65إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، أَيْ كَمَا كَانَ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ عِبْرَةٌ فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ عِبْرَةٌ أَيْضًا ، إِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْقَوْمَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ .
وَضَمِيرُ الْخِطَابِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ . وَتَوْكِيدُهَا بِـ ( إِنَّ ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ كَتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا .
وَالْأَنْعَامُ : اسْمُ جَمْعٍ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ مِنْ أَحَدِ أَصْنَافِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ .
وَالْعِبْرَةُ : مَا يُتَّعَظُ بِهِ وَيُعْتَبَرُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نِهَايَةِ سُورَةِ يُوسُفَ ، وَجُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً .
وَالْبُطُونُ : جَمْعُ بَطْنٍ ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَوْفِ الْحَاوِيَةِ لِلْجِهَازِ الْهَضْمِيِّ كُلِّهِ ; مِنْ مَعِدَةٍ وَكَبِدٍ وَأَمْعَاءَ .
[ ص: 200 ] وَ ( مِنْ ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ ; لِأَنَّ اللَّبَنَ يُفْرَزُ عَنِ الْعَلَفِ الَّذِي فِي الْبُطُونِ ، وَمَاصَدَقُ مَا فِي بُطُونِهِ الْعَلَفُ ، وَيَجُوزُ جَعْلُهَا تَبْعِيضِيَّةً ، وَيَكُونُ مَاصَدَقُ مَا فِي بُطُونِهِ هُوَ اللَّبَنُ اعْتِدَادًا بِحَالَةِ مُرُورِهِ فِي دَاخِلِ الْأَجْهِزَةِ الْهَضْمِيَّةِ قَبْلَ انْحِدَارِهِ فِي الضَّرْعِ .
وَ ( مِنْ ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّوَسُّطِ ، أَيْ يُفْرَزُ فِي حَالَةٍ بَيْنَ حَالَتَيِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ .
وَوَقَعَ الْبَيَانُ بِـ نَسْقِيكُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ : تَشْرَبُونَ أَوْ نَحْوُهُ ; إِدْمَاجًا لِلْمِنَّةِ مَعَ الْعِبْرَةِ .
وَوَجْهُ الْعِبْرَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا تَحْتَوِيهِ بُطُونُ الْأَنْعَامِ مِنَ الْعَلَفِ وَالْمَرْعَى يَنْقَلِبُ بِالْهَضْمِ فِي الْمَعِدَةِ ، ثُمَّ الْكَبِدِ ، ثُمَّ غُدَدِ الضَّرْعِ ، مَائِعًا يُسْقَى ، وَهُوَ مُفْرَزٌ مِنْ بَيْنِ إِفْرَازِ فَرْثٍ وَدَمٍ .
وَالْفَرْثُ : الْفَضَلَاتُ الَّتِي تَرَكَهَا الْهَضْمُ الْمُعْدِي فَتَنْحَدِرُ إِلَى الْأَمْعَاءِ فَتَصِيرُ فَرْثًا ، وَالدَّمُ : إِفْرَازٌ تَفْرِزُهُ الْكَبِدُ مِنَ الْغِذَاءِ الْمُنْحَدِرِ إِلَيْهَا ، وَيَصْعَدُ إِلَى الْقَلْبِ فَتَدْفَعُهُ حَرَكَةُ الْقَلْبِ الْمِيكَانِيئِيَّةِ إِلَى الشَّرَايِينِ وَالْعُرُوقِ ، وَيَبْقَى يَدُورُ كَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْقَلْبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ .
وَمَعْنَى
nindex.php?page=treesubj&link=32445_32667كَونِ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ الْفَرْثِ وَالدَّمِ أَنَّهُ إِفْرَازٌ حَاصِلٌ فِي حِينِ إِفْرَازِ الدَّمِ وَإِفْرَازِ الْفَرْثِ ، وَعَلَاقَتُهُ بِالْفَرْثِ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَنْحَدِرُ فِي عُرُوقِ الضَّرْعِ يَمُرُّ بِجَوَازِ الْفَضَلَاتِ الْبَوْلِيَّةِ وَالثُّفْلِيَّةِ ، فَتُفْرِزُهُ غُدَدُ الضَّرْعِ لَبَنًا كَمَا تُفْرِزُهُ غُدَدُ الْكُلْيَتَيْنِ بَوْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ زَائِدَةٍ ، وَكَمَا تُفْرِزُ تَكَامِيشُ الْأَمْعَاءِ ثُفْلًا بِدُونِ مُعَالَجَةٍ بِخِلَافِ إِفْرَازِ غُدَدِ الْمَثَانَةِ لِلْمَنِيِّ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مُعَالَجَةٍ يَنْحَدِرُ بِهَا الدَّمُ إِلَيْهَا .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّبَنَ يَتَمَيَّعُ مِنْ بَيْنِ طَبَقَتَيْ فَرْثٍ وَدَمٍ ، وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْهَمَ ذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَهُ حَمْلُهُ ( بَيْنَ ) عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ ظَرْفِ الْمَكَانِ ، وَإِنَّمَا هِيَ
[ ص: 201 ] تُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ فَيُرَادُ بِهَا الْوَسَطُ بَيْنَ مَرْتَبَتَيْنِ كَقَوْلِهِمُ : الشَّجَاعَةُ صِفَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ ، فَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ هَذَا التَّعْبِيرُ الْقَرِيبُ لِلْأَفْهَامِ لِكُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ النَّاسِ بِحَسَبِ مَبَالِغِ عِلْمِهِمْ ، مَعَ كَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ .
وَالْمَعْنَى : إِفْرَازٌ لَيْسَ هُوَ بِدَمٍ ; لِأَنَّهُ أَلْيَنُ مِنَ الدَّمِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَاقٍ فِي عُرُوقِ الضَّرْعِ كَبَقَاءِ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي لُزُومِ إِفْرَازِهِ ، وَلَيْسَ هُوَ بِالْفَضْلَةِ ; لِأَنَّهُ إِفْرَازٌ طَاهِرٌ نَافِعٌ مُغَذٍّ ، وَلَيْسَ قَذَرًا ضَارًّا غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّغْذِيَةِ كَالْبَوْلِ وَالثُّفْلِ .
وَمَوْقِعُ ( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ) مَوْقِعُ الصِّفَةِ لِـ ( لَبَنًا ) ، قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا ; لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْعِبْرَةِ ، فَكَانَ لَهَا مَزِيدُ اهْتِمَامٍ ، وَقَدْ صَارَتْ بِالتَّقْدِيمِ حَالًا .
وَلَمَّا كَانَ اللَّبَنُ يَحْصُلُ فِي الضَّرْعِ لَا فِي الْبَطْنِ جُعِلَ مَفْعُولًا لِـ ( نَسْقِيكُمْ ) ، وَجُعِلَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ تَبْيِينًا لِمَصْدَرِهِ لَا لِمَوْرِدِهِ ، فَلَيْسَ اللَّبَنُ مِمَّا فِي الْبُطُونِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُتَقَدِّمًا فِي الذِّكْرِ ; لِيَظْهَرَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ ( نَسْقِيكُمْ ) وَلَيْسَ وَصْفًا لِلَّبَنِ .
وَقَدْ أَحَاطَ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لِلَّبَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ، فَخُلُوصُهُ نَزَاهَتُهُ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ وَالثُّفْلُ ، وَسَوْغُهُ لِلشَّارِبِينَ سَلَامَتُهُ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الدَّمُ مِنَ الْمَضَارِّ لِمَنْ شَرِبَهُ ، فَلِذَلِكَ لَا يُسِيغُهُ الشَّارِبُ وَيَتَجَهَّمُهُ .
وَهَذَا الْوَصْفُ الْعَجِيبُ
nindex.php?page=treesubj&link=32443مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ ، إِذْ هُوَ وَصْفٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَعْرِفَ دَقَائِقَ تَكْوِينِهِ ، وَلَا أَنْ يَأْتِيَ عَلَى وَصْفِهِ بِمَا لَوْ وَصَفَ بِهِ الْعَالِمُ الطَّبِيعِيُّ لَمْ يَصِفْهُ بِأَوْجَزَ مِنْ هَذَا وَأَجْمَعِ .
وَإِفْرَادُ ضَمِيرِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُفْرَدًا ; لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ ، إِذْ لَيْسَ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ ، فَقَدْ يُرَاعَى
[ ص: 202 ] اللَّفْظُ فَيَأْتِي ضَمِيرُهُ مُفْرَدًا ، وَقَدْ يُرَاعَى مَعْنَاهُ فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجُمُوعِ ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=21نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا .
وَالْخَالِصُ : الْمُجَرَّدُ مِمَّا يُكَدِّرُ صَفَاءَهُ ، فَهُوَ الصَّافِي ، وَالسَّائِغُ : السَّهْلُ الْمُرُورِ فِي الْحَلْقِ .
وَقَرَأَ
نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ
عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ ( نَسْقِيكُمْ ) بِفَتْحِ النُّونِ مُضَارِعُ سَقَى ، وَقَرَأَهُ
ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ عَنْ
عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ أَسْقَى ، وَهُمَا لُغَتَانِ ، وَقَرَأَهُ
أَبُو جَعْفَرٍ بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ عِوَضًا عَنِ النُّونِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَنْعَامِ .