والمجيء مستعمل في حقيقته . والباء في " بالحسنة " و " بالسيئة " للمصاحبة المجازية ، ومعناها : أنه ذو الحسنة أو ذو السيئة . وليس هذا كقوله من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها في آخر الأنعام . فالمعنى هنا : من يجيء يومئذ وهو من فاعلي الحسنة ومن جاء وهو من أهل السيئة ، فالمجيء ناظر إلى قوله " وكل ءاتوه داخرين " والحسنة والسيئة هنا للجنس وهو يحمل على أكمل أفراده في المقام الخطابي ، أي من تمحضت حالته للحسنات أو كانت غالب أحواله كما يقتضيه قوله " وهم من فزع يومئذ آمنون " ، وكذلك الذي كانت حالته متمحضة للسيئات أو غالبة عليه ، كما اقتضاه قوله فكبت وجوههم في النار .
و " خير منها " اسم تفضيل اتصلت به " من " التفضيلية ، أي فله جزاء خير من حسنة واحدة لقوله تعالى في الآية الأخرى فله عشر أمثالها أو خير منها شرفا ؛ لأن الحسنة من فعل العبد والجزاء عليها من عطاء الله .
وقوله " وهم من فزع يومئذ آمنون " تبيين قوله آنفا إلا من شاء الله وهؤلاء هم الذين كانوا أهل الحسنات ، أي تمحضوا لها أو غلبت على سيئاتهم غلبة عظيمة بحيث كانت سيئاتهم من النوع المغفور بالحسنات أو المدحوض بالتوبة ورد المظالم . وكذلك قوله ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار ، أي أو تمحضوا للسيئات بأن كانوا غير مؤمنين أو كانوا من المؤمنين أهل الجرائم والشقاء . وبين أهل هاتين الحالتين أصناف كثيرة في درجات الثواب ودرجات العقاب . وجماع أمرها أن غلبت سيئاتهم وغطت على حسناتهم ومقدار ما معها من أمثالها وما يكافئها من الحسنات أضدادها الحسنة لها أثرها يومئذ عاجلا أو بالأخارة ، وأن السيئة لها أثرها السيئ بمقدارها فلا تظلم نفس شيئا .
وقرأ الجمهور ( من فزع يومئذ ) بإضافة ( فزع ) إلى ( يوم ) من ( يومئذ ) وإضافة ( يوم ) إلى ( إذ ) ففتحة ( يوم ) فتحة بناء ؛ لأنه اسم زمان أضيف إلى اسم [ ص: 53 ] غير متمكن فـ ( فزع ) معرف بالإضافة إلى ( يوم ) و ( يوم ) معرف بالإضافة إلى ( إذ ) و ( إذ ) مضافة إلى جملتها المعوض عنها تنوين العوض . والتقدير : من فزع يوم إذ يأتون ربهم .
وقرأ عاصم وحمزة بتنوين " فزع " ، و " يومئذ " منصوبا على المفعول فيه متعلقا بـ " آمنون " . والمعنى واحد على القراءتين إذ المراد الفزع المذكور في قوله والكسائي ففزع من في السماوات ومن في الأرض فلما كان معينا استوى تعريفه وتنكيره . فاتحدت القراءتان معنى ؛ لأن إضافة المصدر وتنكيره سواء في عدم إفادة العموم فتعين أنه فزع واحد .
والكب : جعل ظاهر الشيء إلى الأرض . وعدي الكب في هذه الآية إلى الوجوه دون بقية الجسد وإن كان الكب لجميع الجسم ؛ لأن الوجوه أول ما يقلب إلى الأرض عند الكب كقول امرئ القيس :
يكب على الأذقان دوح الكنهبل
وهذا من قبيل قوله تعالى سحروا أعين الناس وقوله ولما سقط في أيديهم وقول الأعشى :وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق