ولما سمع السحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعت في نفوسهم مهابته ( فتنازعوا أمرهم ) ، أي : تجاذبوه ، والتنازع يقتضي الاختلاف . وقرأ حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة ( وابن جرير فيسحتكم ) بضم الياء وكسر الحاء من أسحت رباعيا . وقرأ باقي السبعة ورويس بفتحهما من سحت ثلاثيا . وإسرارهم النجوى خيفة من وابن عباس فرعون أن يتبين فيهم ضعفا لأنهم [ ص: 255 ] لم يكونوا مصممين على غلبة موسى بل كان ظنا من بعضهم . وعن أن نجواهم إن غلبنا ابن عباس موسى اتبعناه ، وعن قتادة إن كان ساحرا فسنغلبه ، وإن كان من السماء فله أمر .
وقال : والظاهر أنهم تشاوروا في السر وتجاذبوا أهداب القول ، ثم ( الزمخشري قالوا إن هذان لساحران ) فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفا من غلبتهما وتثبيطا للناس من اتباعهما . انتهى . وحكى ابن عطية قريبا من هذا القول عن فرقة ، قالوا : إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا ( إن هذان لساحران ) والأظهر أن تلك قيلت علانية ، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع . وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة ( إن ) بتشديد النون ( هذان ) بألف ونون خفيفة ( لساحران ) واختلف في تخريج هذه القراءة . فقال القدماء من النحاة إنه على حذف ضمير الشأن ، والتقدير إنه هذان لساحران ، وخبر ( إن ) الجملة من قوله ( هذان لساحران ) واللام في ( لساحران ) داخلة على خبر المبتدأ ، وضعف هذا القول بأن حذف هذا الضمير لا يجيء إلا في الشعر ، وبأن دخول اللام في الخبر شاذ .
وقال : اللام لم تدخل على الخبر بل التقدير لهما ساحران فدخلت على المبتدأ المحذوف ، واستحسن هذا القول شيخه الزجاج أبو العباس والقاضي المبرد إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد . وقيل : ( ها ) ضمير القصة وليس محذوفا ، وكان يناسب على هذا أن تكون متصلة في الخط فكانت كتابتها ( إن هذان لساحران ) وضعف ذلك من جهة مخالفته خط المصحف . وقيل ( إن ) بمعنى نعم ، وثبت ذلك في اللغة فتحمل الآية عليه و ( هذان لساحران ) مبتدأ وخبر ، واللام في ( لساحران ) على ذينك التقديرين في هذا التخريج ، والتخريج الذي قبله ، وإلى هذا ذهب المبرد وإسماعيل بن إسحاق ، والذي نختاره في تخريج هذه القراءة أنها جاءت على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما وهي لغة وأبو الحسن الأخفش الصغير لكنانة ، حكى ذلك أبو الخطاب ، ولبني الحارث بن كعب ، وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية ، حكي ذلك عن ، الكسائي ولبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذرة . وقال أبو زيد : سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا .
وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير ( إن ) بتخفيف النون هذا بالألف ، وشدد نون ( هذان ) ابن كثير ، وتخريج هذه القراءة واضح وهو على أن ( إن ) هي المخففة من الثقيلة و ( هذان ) مبتدأ و ( لساحران ) الخبر واللام للفرق بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة على رأي البصريين ، والكوفيون يزعمون أن : ( إن ) نافية واللام بمعنى إلا . وقرأت فرقة : إن ذان لساحران ، وتخريجها كتخريج القراءة التي قبلها ، وقرأت عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وابن عبيد وأبو عمرو ( إن هذين ) بتشديد نون إن وبالياء في هذين بدل الألف ، وإعراب هذا واضح إذ جاء على المهيع المعروف في التثنية لقوله ( فذانك برهانان ) ( إحدى ابنتي هاتين ) بالألف رفعا والياء نصبا وجرا . وقال : لا أجيز قراءة الزجاج أبي عمرو لأنها خلاف المصحف . وقال أبو عبيد : رأيتها في الإمام مصحف عثمان هذن ليس فيها ألف ، وهكذا رأيت رفع الاثنين في ذلك المصحف بإسقاط الألف ، وإذا كتبوا النصب والخفض كتبوه بالياء ولا يسقطونها ، وقالت جماعة منهم عائشة وأبو عمرو : هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب .
وقرأ عبد الله ( إن ذان إلا ساحران ) قاله ابن خالويه وعزاها الزمخشري لأبي . وقال : ( أن هذان ساحران ) بفتح أن وبغير لام بدل من ( ابن مسعود النجوى ) انتهى . وقرأت فرقة ( ما هذا إلا ساحران ) ، وقولهم ( يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ) تبعوا فيه [ ص: 256 ] مقالة فرعون ( أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ) ونسبوا السحر أيضا لهارون لما كان مشتركا معه في الرسالة وسالكا طريقته ، وعلقوا الحكم على الإرادة وهم لا اطلاع لهم عليها تنقيصا لهما وحطا من قدرهما ، وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما ، وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك ، والظاهر أن الضمير في ( قالوا ) عائد على السحرة ، خاطب بعضهم بعضا . وقيل : خاطبوا فرعون مخاطبة التعظيم ، والطريقة السيرة والمملكة والحال التي هم عليها . و ( المثلى ) تأنيث الأمثل ، أي : الفضلى الحسنى . وقيل : عبر عن السيرة بالطريقة وأنه يراد بها أهل العقل والسن والحجى ، وحكوا أن العرب تقول فلان طريقة قومه ، أي : سيدهم ، وعن علي نحو ذلك قال : وتصرفات وجوه الناس إليهما . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : ( ويذهبا ) بأهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى ( أرسل معنا بني إسرائيل ) بالغوا في التنفيرعنهما بنسبتهما إلى السحر ، وبالطبع ينفر عن السحر وعن رؤية الساحر ثم بإرادة الإخراج من أرضهم ثم بتغيير حالتهم من المناصب والرتب المرغوب فيها .
وحكى تعالى عنهم في متابعة فرعون في قوله ( فجمع كيده ) قوله ( فأجمعوا كيدكم ) وقيل : هو من كلام فرعون ، والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض . وقرأ الجمهور ( فأجمعوا ) بقطع الهمزة وكسر الميم من أجمع رباعيا ، أي : اعزموا واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا ولا يتخلف واحد منكم ، كالمسألة المجمع عليها . وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم بوصل الألف وفتح الميم موافقا لقوله ( فتولى فرعون فجمع كيده ) وتقدم الكلام في جمع وأجمع في سورة يونس في قصة نوح عليه السلام .
وتداعوا إلى الإتيان " صفا " لأنه أهيب في عيون الرائين ، وأظهر في التمويه وانتصب " صفا " على الحال ، أي : مصطفين أو مفعولا به إذ هو المكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم . وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه ( ثم ايتوا ) بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء تخفيفا . قال أبو علي وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ( ثم ) . وقال صاحب اللوامح : وذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في العامة كذلك ( وقد أفلح اليوم ) ، أي : ظفر وفاز ببغيته من طلب العلو في أمره وسعى سعيه ، واختلفوا في عدد السحرة اختلافا مضطربا جدا ؛ فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل ساحر عصي وحبال ، وأكثر ما قيل تسعمائة ألف .
[ ص: 257 ] ( قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) .
في الكلام حذف تقديره فجاءوا مصطفين إلى مكان الموعد ، وبيد كل واحد منهم عصا وحبل ، وجاء موسى وأخوه ومعه عصاه فوقفوا و ( قالوا ياموسى إما أن تلقي ) وذكروا الإلقاء لأنهم علموا أن آية موسى في إلقاء العصا . قيل : خيروه ثقة منهم بالغلب لموسى ، وكانوا يعتقدون أن أحدا لا يقاومهم في السحر . وقال : وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وتواضع له وخفض جناح ، وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم ، وكان الله - عز وجل - ألهمهم ذلك وعلم الزمخشري موسى - عليه السلام - اختيار إلقائهم أولا مع ما فيه من مقابلة الأدب بأدب [ ص: 258 ] حتى يبرزوا ما معهم من مكائد السحر ويستنفذوا أقصى طرقهم ومجهودهم ، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه وقذف بالحق على الباطل فدمغه وسلط المعجزة على السحر فمحقته ، وكانت آية بينة للناظرين بينة للمعتبرين . انتهى . وهو تكثير وخطابة وإن ما بعده ينسبك بمصدر فإما أن يكون مرفوعا وإما أن يكون منصوبا ، والمعنى أنك تختار أحد الأمرين ، وقدر الرفع ، الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا فجعله خبرا لمبتدأ محذوف ، واختار أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف تقديره إلقاؤك أول ، ويدل عليه قوله ( الزمخشري وإما أن نكون أول من ألقى ) فتحسن المقابلة من حيث المعنى وإن كان من حيث التركيب اللفظي لم تحصل المقابلة لأنا قدرنا : إلقاؤك أول ، ومقابلة كونهم يكونون أول من يلقي لكنه يلزم من ذلك أن يكون إلقاؤهم أول فهي مقابلة معنوية . وفي تقدير الأمر إلقاؤك لا مقابلة فيه . الزمخشري
وقدر النصب : اختر أحد الأمرين وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب ، وتفسير الإعراب ( إما ) نختار ( الزمخشري أن تلقي ) وتقدم نحو هذا التركيب في الأعراف .
( قال بل ألقوا ) لا يكون الأمر بالإلقاء من باب تجويز السحر والأمر به ؛ لأن الغرض في ذلك الفرق بين إلقائهم والمعجزة ، وتعين ذلك طريقا إلى كشف الشبهة إذ الأمر مقرون بشرط ، أي : ألقوا إن كنتم محقين لقوله ( فأتوا بسورة مثله ) ثم قال ( إن كنتم صادقين ) وفي الكلام حذف تقديره فألقوا فإذا .
قال أبو البقاء : ( فإذا حبالهم ) الفاء جواب ما حذف ، وتقديره فألقوا وإذا في هذا ظرف مكان ، والعامل فيه ألقوا . انتهى . فقوله : " فإذا الفاء جواب ما حذف وتقديره فألقوا " ليست هذه فاء جواب ؛ لأن فألقوا لا تجاب ، وإنما هي للعطف ؛ عطفت جملة المفاجأة على ذلك المحذوف . وقوله : " وإذا في هذا ظرف مكان " يعني أن إذا التي للمفاجأة ظرف مكان [ ص: 259 ] وهو مذهب ، وظاهر كلام المبرد وقوله : " والعامل فيه ألقوا " ليس بشيء ؛ لأن الفاء تمنع من العمل ولأن إذا هذه إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو ( سيبويه حبالهم وعصيهم ) إن لم يجعلها هي في موضع الخبر ؛ لأنه يجوز أن يكون الخبر يخيل ، ويجوز أن تكون إذا ويخيل في موضع الحال ، وهذا نظير : خرجت فإذا الأسد رابض ورابضا فإذا رفعنا رابضا كانت إذا معمولة ، والتقدير فبالحضرة الأسد رابض أو في المكان ، وإذا نصبنا كانت إذا خبرا ؛ ولذلك تكتفي بها وبالمرفوع بعدها كلاما ، نحو خرجت فإذا الأسد .
وقال : ، يقال في إذا هذه إذا المفاجأة والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها ، وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة ، والجملة ابتدائية لا غير ، فتقدير قوله تعالى ( الزمخشري فإذا حبالهم وعصيهم ) ففاجأ موسى وقت تخييل حبالهم وعصيهم ، وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي . انتهى . فقوله : والتحقيق فيها إذا كانت الكائنة بمعنى الوقت هذا مذهب أن إذا الفجائية ظرف زمان وهو قول مرجوح ، وقول الكوفيين أنها حرف قول مرجوح أيضا ، وقوله الطالبة ناصبا لها صحيح ، وقوله : وجملة تضاف إليها ؛ هذا عند أصحابنا ليس بصحيح ؛ لأنها إما أن تكون هي خبر المبتدأ وإما معمولة لخبر المبتدأ ، وإذا كان كذلك استحال أن تضاف إلى الجملة لأنها إما أن تكون بعض جملة أو معمولة لبعضها ، فلا تمكن الإضافة . وقوله خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة قد بينا الناصب لها ، وقوله : " والجملة ابتدائية لا غير " هذا الحصر ليس بصحيح ، بل قد نص الأخفش في الأوسط على أن الجملة المصحوبة بقد تليها وهي فعلية ، تقول : خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرا ، وبنى على ذلك مسألة الاشتغال ، خرجت فإذا زيد قد ضربه عمرو ، برفع زيد ونصبه ، وأما قوله : والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي فهذا بعكس ما قدر ، بل المعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم إياه . فإذا قلت : خرجت فإذا السبع ، فالمعنى أنه فاجأني السبع وهجم ظهوره . الرياشي
وقرأ الحسن وعيسى عصيهم بضم العين حيث كان وهو الأصل ؛ لأن الكسر إتباع لحركة الصاد ، وحركة الصاد لأجل الياء . وفي كتاب اللوامح ، الحسن وعصيهم بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع فهو أيضا جمع كالعامة لكنه على فعل . وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح والوليدان وابن ذكوان تخيل بالتاء مبنيا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصي و ( أنها تسعى ) بدل اشتمال من ذلك الضمير . وقرأ أبو السماك تخيل بفتح التاء ، أي : تتخيل وفيها أيضا ضمير ما ذكروا ( أنها تسعى ) بدل اشتمال أيضا من ذلك الضمير لكنه فاعل من جهة المعنى . وقال ابن عطية : إنها مفعول من أجله . وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلسي في كتاب الكامل من تأليفه عن أبي السماك أنه قرأ تخيل بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء ، والضمير فيه فاعل ، و ( أنها تسعى ) في موضع نصب على المفعول به . ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن والثقفي يعني عيسى ، ومن بنى تخيل للمفعول ، فالمخيل لهم ذلك هو الله للمحنة والابتلاء وروى الحسن بن أيمن عن أبي حيوة نخيل بالنون وكسر الياء ، فالمخيل لهم ذلك هو الله والضمير في ( إليه ) الظاهر أنه يعود على موسى لقوله قبل ( قال بل ألقوا ) ولقوله بعد ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) وقيل : يعود على فرعون ، والظاهر من القصص أن الحبال والعصي كانت تتحرك وتنتقل الانتقال الذي يشبه انتقال من قامت به الحياة ، ولذلك ذكر السعي وهو وصف من يمشي من الحيوان ، فروي أنهم جعلوا في الحبال والعصي زئبقا وألقوها في الشمس فأصاب الزئبق حرارة الشمس فتحرك [ ص: 260 ] فتحركت العصي والحبال معه . وقيل : حفروا الأرض وجعلوا تحتها نارا وكانت العصي والحبال مملوءة بزئبق ، فلما أصابتها حرارة الأرض تحركت وكان هذا من باب الدك . وقيل : إنها لم تتحرك وكان ذلك من سحر العيون وقد صرح تعالى بهذا فقالوا ( سحروا أعين الناس ) فكان الناظر يخيل إليه أنها تنتقل . وتقدم شرح أوجس .
وقال : كان ذلك لطبع الجبلة البشرية وأنه لا يكاد يمكن الخلو من مثله وهو قول الزمخشري الحسن . وقيل : كان خوفه على الناس أن يفتتنوا لهول ما رأى قبل أن يلقي عصاه وهو قول مقاتل ، والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن و ( خيفة ) أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها . وقال ابن عطية : يحتمل أن تكون خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب .
( إنك أنت الأعلى ) تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف ، وبالأعلوية الدالة على التفضيل ( وألق ما في يمينك ) لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة . قال : وقوله ( الزمخشري ما في يمينك ) ولم يقل عصاك جائز أن يكون تصغيرا لها ، أي : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يتلقفها على حدته وكثرتها وصغره وعظمها ، وجائز أن يكون تعظيما لها ، أي : لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عندها ، فألقه تتلقفها بإذن الله وتمحقها . انتهى . وهو تكثير ، وخطابه لا طائل في ذلك .
وفي قوله ( تلقف ) حمل على معنى ما لا على لفظها إذ أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة ، ولو حمل على اللفظ لكان بالياء . وقرأ الجمهور ( تلقف ) بفتح اللام وتشديد القاف مجزوما على جواب الأمر . وقرأ ابن عامر كذلك وبرفع الفاء على الاستئناف أو على الحال من الملقى . وقرأ أبو جعفر وحفص وعصمة عن عاصم ( تلقف ) بإسكان اللام والفاء وتخفيف القاف وعن أنه كان يشدد من تلقف يريد يتلقف . قنبل
وقرأ الجمهور ( كيد ) بالرفع على أن ( ما ) موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف ، ويحتمل أن تكون ( ما ) مصدرية ، أي : أن صنعتم كيد ، ومعنى ( صنعوا ) هنا زوروا وافتعلوا كقوله ( تلقف ما يأفكون ) . وقرأ مجاهد وحميد ( كيد سحر ) بالنصب مفعولا لصنعوا وما مهيئة . وقرأ وزيد بن علي أبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير وحمزة ( سحر ) بكسر السين وإسكان الحاء بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر ، أو هم لتوغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه أو بذاته ، أو بين الكيد ؛ لأنه يكون سحرا وغير سحر كما تبين المائة بدرهم ، ونحوه علم فقه وعلم نحو . والكسائي
وقرأ الجمهور ( ساحر ) اسم فاعل من سحر ، وأفرد ساحر من حيث أن فعل الجميع نوع واحد من السحر ، وذلك الحبال والعصي فكأنه صدر من ساحر واحد لعدم اختلاف أنواعه . وقال : لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى أن قوله ( الزمخشري ولا يفلح الساحر ) ، أي : هذا الجنس ، انتهى .
وعرف في قوله ( ولا يفلح الساحر ) ؛ لأنه عاد على ( ساحر ) النكرة قبله كقوله ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) . وقال : إنما نكر يعني أولا من أجل تنكير المضاف لا من أجل تنكيره في نفسه كقول الزمخشري العجاج :
في سعي دنيا طال ما قد مدت
وفي حديث عمر - رضي الله عنه - : لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة ، المراد تنكير الأمر كأنه قال : إنما صنعوا كيد سحري وفي سعي دنياوي وأمر دنياوي وأخراوي . انتهى . وقول العجاج . في سعي دنيا ، محمول على الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى ، ولا يستعمل تأنيثه إلا [ ص: 261 ] بالألف واللام أو بالإضافة ، وأما قول عمر ، فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة .
ومعنى ( ولا يفلح ) لا يظفر ببغيته ( حيث أتى ) أي حيث توجه وسلك . وقالت فرقة : معناه أن الساحر يقتل حيث ثقف ، وهذا جزاء من عدم الفلاح . وقرأت فرقة : أين أتى ، وبعد هذا جمل محذوفة ، والتقدير : فزال إيجاس الخيفة وألقى ما في يمينه وتلقفت حبالهم وعصيهم ثم انقلبت عصا ، وفقدوا الحبال والعصي وعلموا أن ذلك معجز ليس في طوق البشر ( فألقي السحرة سجدا ) وجاء التركيب ( فألقي السحرة ) ولم يأت فسجدوا ، كأنه جاءهم أمر وأزعجهم وأخذهم فصنع بهم ذلك ، وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين . وقدم موسى في الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ، ولكون موسى هو المنسوب إليه العصا التي ظهر فيها ما ظهر من الإعجاز ، وأخر موسى لأجل الفواصل أيضا كقوله ( لكان لزاما وأجل مسمى ) و ( أزواجا من نبات ) إذا كان شتى صفة لقوله ( أزواجا ) ولا فرق بين قام زيد وعمرو ، وقام عمرو وزيد ، إذ الواو لا تقتضي ترتيبا ، على أنه يحتمل أن يكون القولان من قائلين ؛ نطقت طائفة بقولهم : رب موسى وهارون ، وطائفة بقولهم : رب هارون وموسى ، ولما اشتركوا في المعنى صح نسبة كل من القولين إلى الجميع . وقيل : قدم هارون هنا لأنه كان أكبر سنا من موسى . وقيل : لأن فرعون كان ربى موسى فبدءوا بهارون ليزول تمويه فرعون أنه ربى موسى ، فيقول : أنا ربيته . وقالوا : رب هارون وموسى ، ولم يكتفوا بقولهم : برب العالمين ؛ للنص على أنهم آمنوا برب هذين ، وكان فيما قبل يزعم أنه رب العالمين .
وتقدم الخلاف في قراءة ( آمنتم ) وفي ( لأقطعن ) و ( ثم لأصلبنكم ) في الأعراف . وتفسير نظير هذه الآية فيها ، وجاء هناك ( آمنتم له ) وهنا ( له ) ، وآمن يوصل بالباء إذا كان بالله ، وباللام لغيره في الأكثر ، نحو ( فما آمن لموسى ) ، ( لن نؤمن لك ) ، ( وما أنت بمؤمن لنا ) ، ( فآمن له لوط ) واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى ، وأن يعود على الرب ، وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم ، ولما كان الجذع مقرا للمصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عدي الفعل بـ ( في ) التي للوعاء . وقيل : ( في ) بمعنى ( على ) . وقيل : نقر فرعون الخشب وصلبهم في داخله فصار ظرفا لهم حقيقة حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا ، ومن تعدية ( صلب ) بـ ( في ) قول الشاعر :
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا