الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال مجاهد : معنى ( لم حشرتني أعمى ) أي لا حجة لي وقد كنت عالما بحجتي بصيرا بها أحاج عن نفسي في الدنيا . انتهى . سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشر أعمى لأنه جهله ، وظن أنه لا ذنب له فقال له جل ذكره ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) أي مثل ذلك أنت ، ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر ، ولم تتبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك قاله الزمخشري . والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول ، ومعنى ( تنسى ) تترك في العذاب ( وكذلك نجزي ) أي مثل ذلك الجزاء ( نجزي من أسرف ) أي من جاوز الحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد أي من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه ( وأبقى ) أي منه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع . وقال الزمخشري : والحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشد من ضيق العيش المنقضي ، أو أراد ولتركنا إياه في العمى أشد وأبقى [ ص: 288 ] من تركه لآياتنا .

( أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ) .

قرأ الجمهور ( يهدي ) بالياء . وقرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي بالنون ، وبخهم تعالى وذكرهم العبر بمن تقدم من القرون ، ويعني بالإهلاك الإهلاك الناشئ عن تكذيب الرسل وترك الإيمان بالله واتباع رسله ، والفاعل ليهد ضمير عائد على الله تعالى ، ويؤيد هذا التخريج قراءة نهد بالنون ومعناه نبين وقاله الزجاج . وقيل : الفاعل مقدر تقديره الهدى والآراء [ ص: 289 ] والنظر والاعتبار . وقال ابن عطية : وهذا أحسن ما يقدر به عندي . انتهى . وهو قول المبرد وليس بجيد إذ فيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين ، وتحسينه أن يقال الفاعل مضمر تقديره ( يهد ) هو أي الهدى . وقال أبو البقاء : الفاعل ما دل عليه ( أهلكنا ) والجملة مفسرة له . قال الحوفي ( كم أهلكنا ) قد دل على هلاك القرون ، فالتقدير أفلم نبين لهم هلاك من ( أهلكنا ) ( من القرون ) ومحو آثارهم فيتعظوا بذلك .

وقال الزمخشري : فاعل ( أفلم يهد ) الجملة بعده يريد ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه ونظيره قوله تعالى ( وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين ) أي تركنا عليه هذا الكلام ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول . انتهى . وكون الجملة فاعلا هو مذهب كوفي ، وأما تشبيهه وتنظيره بقوله ( وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين ) فإن تركنا عليه معناه معنى القول فحكيت به الجملة كأنه قيل وقلنا عليه ، وأطلقنا عليه هذا اللفظ والجملة تحكى بمعنى القول كما تحكى بلفظه ، وأحسن التخاريج الأول وهو أن يكون الفاعل ضميرا عائدا على الله كأنه قال ( أفلم ) يبين الله ومفعول يبين محذوف ، أي العبر بإهلاك القرون السابقة ثم قال ( كم أهلكنا ) أي كثيرا أهلكنا ، فكم مفعوله بأهلكنا والجملة كأنها مفسرة للمفعول المحذوف ليهد .

وقال الحوفي : قال بعضهم هي في موضع رفع فاعل ( يهد ) وأنكر هذا على قائله لأن كم استفهام لا يعمل فيها ما قبلها . انتهى . وليست كم هنا استفهاما بل هي خبرية .

وقال أبو البقاء : ( يهد لهم ) في فاعله وجهان أحدهما ضمير اسم الله تعالى أي ألم يبين الله لهم وعلق ( يهد ) هنا إذ كانت بمعنى يعلم كما علقت في قوله تعالى ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) . انتهى .

و ( كم ) هنا خبرية والخبرية لا يعلق العامل عنها ، وإنما تعلق عنه الاستفهامية . وقرأ ابن السميفع : يمسون بالتشديد مبنيا للمفعول لأن المثنى يخلق خطوة بخطوة وحركة بحركة وسكونا بسكون ، فناسب البناء للمفعول والضمير في ( يمشون ) عائد على ما عاد عليه لهم وهم الكفار الموبخون يريد قريشا ، والعرب يتقلبون في بلاد عاد وثمود والطوائف التي كانت قريش تمر عليها إلى الشام وغيره ، ويعاينون آثار هلاكهم و ( يمشون في مساكنهم ) جملة في موضع الحال من ضمير ( لهم ) والعامل ( يهد ) أي ألم نبين للمشركين في حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار . وقيل : حال من مفعول ( أهلكنا ) أي أهلكناهم غارين آمنين متصرفين في مساكنهم لم يمنعهم عن التمتع والتصرف مانع من مرض ولا غيره ، فجاءهم الإهلاك بغتة على حين غفلة منهم به .

( إن في ذلك ) أي في ذلك التبيين بإهلاك القرون الماضية ( لآيات لأولي النهى ) أي العقول السليمة . ثم بين تعالى الوجه الذي لأجله لا يترك العذاب معجلا على من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والكلمة السابقة هي المعدة بتأخير جزائهم في الآخرة قال تعالى : ( بل الساعة موعدهم ) تقول : لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عادا وثمود لازما هؤلاء الكفرة ، واللزام إما مصدر لازم وصف به وإما فعال بمعنى مفعل أي ملزم كأنه آلة للزوم ، ولفظ لزومه كما قالوا لزاز خصم . وقال أبو عبد الله الرازي : لا شبهة أن الكلمة إخبار الله تعالى ملائكته وكتبه في اللوح المحفوظ أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوا يؤخرون ولا يفعل بهم ما فعل بغيرهم من الاستئصال . انتهى .

والأجل أجل حياتهم أو أجل إهلاكهم في الدنيا أو عذاب يوم القيامة ، أقوال : فعلى الأول يكون العذاب ما يلقى في قبره وما بعده . وعلى الثاني : قتلهم بالسيف يوم بدر . وعلى الثالث : هو عذاب جهنم . وفي صحيح البخاري ( أن يوم بدر هو اللزام وهو البطشة الكبرى ) والظاهر عطف ( وأجل مسمى ) على كلمة وأخر المعطوف عن المعطوف عليه ، وفصل بينهما بجواب ( لولا ) لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي ، وأجاز الزمخشري أن يكون ( وأجل ) معطوفا على الضمير المستكن في كان قال أي ( لكان ) الأخذ العاجل [ ص: 290 ] ( وأجل مسمى ) لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود ، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية