( هؤلاء ) إشارة إلى المخاطبين قبل وهم كفار قريش ، ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع ( هؤلاء ) الكفار ( وآباءهم ) من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة ، وتدعسوا في الضلالة بإمهاله تعالى إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه ( أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ) تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد . واقتصر من تلك الأقوال على معنى أنا ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام قال : فإن قلت : أي فائدة في قوله : ( الزمخشري نأتي الأرض ) ؟ قلت : الفائدة فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها . انتهى .
وفي ذلك تبشير للمؤمنين بما يفتح الله عليهم ، وأكثر المفسرين على أنها نزلت في كفار مكة وفي قولهم : ( أفهم الغالبون ) دليل على ذلك إذ المعنى أنهم هم الغالبون ، فهو استفهام فيه تقريع وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم .
ثم أمره تعالى أن يقول : ( إنما أنذركم بالوحي ) أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي ، وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها ، ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به فالإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه ، ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسبا و ( الصم ) هم المنذرون ، فـ ( أل ) فيه للعهد وناب الظاهر مناب المضمر لأن فيه التصريح بتصامهم وسد أسماعهم إذا أنذروا ، ولم يكن الضمير ليفيد هذا المعنى ونفي السماع هنا نفي جدواه .
وقرأ الجمهور ( يسمع ) بفتح الياء والميم ( الصم ) رفع به و ( الدعاء ) نصب . وقرأ ابن عامر عن وابن جبير أبي عمرو وابن الصلت عن حفص بالتاء من فوق مضمومة وكسر الميم ( الصم الدعاء ) بنصبهما والفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم . وقرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت أي ( ولا يسمع ) الرسول وعنه أيضا ( ولا يسمع ) مبنيا للمفعول ( الصم ) رفع به ذكره ابن خالويه . وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو [ ص: 316 ] ( يسمع ) بضم الياء وكسر الميم ( الصم ) نصبا ( الدعاء ) رفعا بيسمع ، أسند الفعل إلى الدعاء اتساعا والمفعول الثاني محذوف ، كأنه قيل : ولا يسمع النداء الصم شيئا .
ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين صموا عن سماع ما أنذروا به إذا نالهم شيء مما أنذروا به ، ولو كان يسيرا نادوا بالهلاك وأقروا بأنهم كانوا ظالمين ، نبهوا على العلة التي أوجبت لهم العذاب وهو ظلم الكفر وذلوا وأذعنوا . قال : ( ابن عباس نفحة ) طرف وعنه هو الجوع الذي نزل بمكة ، وقال : نصيب من قولهم نفح له من العطاء نفحة إذا أعطاه نصيبا وفي قوله : ( ابن جريج ولئن مستهم نفحة ) ثلاث مبالغات لفظ المس ، وما في مدلول النفح من القلة إذ هو الريح اليسير أو ما يرضخ من العطية ، وبناء المرة منه ولم يأت نفح فالمعنى أنه بأدنى إصابة من أقل العذاب أذعنوا وخضعوا وأقروا بأن سبب ذلك ظلمهم السابق .
ولما ذكر حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب ، فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال ( ونضع الموازين ) وتقدم الكلام في الموازين في أول الأعراف ، واختلاف الناس في ذلك وهو قول الجمهور أو ذلك على سبيل التمثيل عن المبالغة في العدل التام وهو قول هل ثم ميزان حقيقة الضحاك وقتادة ؟ قالا : ليس ثم ميزان ولكنه العدل والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط ، أو على حذف مضاف أي ذوات ( القسط ) ويجوز أن يكون مفعولا لأجله أي لأجل ( القسط ) . وقرئ القصط بالصاد . واللام في ( ليوم القيامة ) قال : مثلها في قولك : جئت لخمس ليال خلون من الشهر . ومنه بيت الزمخشري النابغة :
ترسمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
انتهى . وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين ، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين ، وجعل من ذلك قوله ( القسط ليوم القيامة ) أي في يوم ، وكذلك لا يجليها لوقتها إلا هو أي في وقتها وأنشد شاهدا على ذلك لمسكين الدارمي :
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع
وكل أب وابن وإن عمرا معا مقيمين مفقود لوقت وفاقد
وقال ابن عطية على معنى : و ( أتينا ) من المواتاة ، ولو كان آتينا أعطينا لما تعدت بحرف جر ، ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف ، وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة . انتهى . وقرأ حميد : أثبنا بها من الثواب وأنث الضمير في ( بها ) وهو عائد على مذكر وهو ( مثقال ) لإضافته إلى مؤنث ( وكفى بنا حاسبين ) فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو [ ص: 317 ] العد والإحصاء ، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم . وقيل : هو كناية عن المجازاة ، والظاهر أن ( حاسبين ) تمييز لقبوله من ، ويجوز أن يكون حالا . ولما ذكر ما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم من الذكر وحال مشركي العرب معه ، وقال : ( قل إنما أنذركم بالوحي ) أتبعه بأنه عادة الله في أنبيائه فذكر ما آتى ( موسى وهارون ) إشارة إلى قصتهما مع قومهما مع ما أوتوا من الفرقان والضياء والذكر ، ثم نبه على ما آتى رسوله من الذكر المبارك ثم استفهم على سبيل الذكر على إنكارهم ثم نبه على ما آتى رسوله صلى الله عليه وسلم . و ( الفرقان ) التوراة وهو الضياء ، والذكر أي كتابا هو فرقان وضياء ، وذكر ويدل على هذا المعنى قراءة ابن عباس وعكرمة والضحاك ضياء وذكرا بغير واو في ضياء . وقالت فرقة : القرآن ما رزقه الله من نصره وظهور حجته وغير ذلك ، مما فرق بين أمره وأمر فرعون والضياء التوراة ، والذكر التذكرة والموعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف والعطف بالواو يؤذن بالتغاير .
وعن ( الفرقان ) الفتح لقوله ( يوم الفرقان ) . وعن ابن عباس الضحاك : قلق البحر . وعن : المخرج من الشبهات و ( الذين ) صفة تابعة أو مقطوعة برفع أو نصب أو بدل . ولما ذكر التقوى ذكر ما أنتجته وهو خشية الله والإشفاق من عذاب يوم القيامة ، والساعة القيامة وبالغيب . قال الجمهور : يخافونه ولم يروه . وقال محمد بن كعب مقاتل : يخافون عذابه ولم يروه . وقال : يخافونه من حيث لا يراهم أحد ورجحه الزجاج ابن عطية . وقال أبو سليمان الدمشقي : يخافونه إذا غابوا عن أعين الناس ، والإشفاق شدة الخوف ، واحتمل أن يكون قوله : ( وهم من الساعة مشفقون ) استئناف إخبار عنهم ، وأن يكون معطوفا على صلة ( الذين ) ، وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدد دائما كأنها إحالتهم فيما يتعلق بالدنيا ، والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة . ولما ذكر ما آتى موسى وهارون عليهما السلام أشار إلى ما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال ( وهذا ) أي القرآن ( ذكر مبارك ) أي كثير منافعه غزير خبره ، وجاء هنا الوصف بالاسم ثم بالجملة جريا على الأشهر وتقدم الكلام على قوله في الأنعام ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) وبينا هناك حكمة تقديم الجملة على الاسم ( أفأنتم له منكرون ) استفهام إنكار وتوبيخ وهو خطاب للمشركين ، والضمير في ( له ) عائد على ( ذكر ) وهو القرآن ، وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم إذا أنكر ذلك المشركون كما أنكر أسلاف اليهود ما أنزل الله على موسى عليه السلام .