[ ص: 395 ] هذه السورة مكية بلا خلاف ، وفي الصحيح للحاكم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " قد أفلح المؤمنون ) إلى عشر آيات . ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة ; لأنه - تعالى - خاطب المؤمنين بقوله ( لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة " ثم قرأ ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا ) الآية ، وفيها ( لعلكم تفلحون ) وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله ( قد أفلح المؤمنون ) إخبارا بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح .
وقرأ طلحة بن مصرف ( وعمرو بن عبيد قد أفلح المؤمنون ) بضم الهمزة وكسر اللام مبنيا للمفعول ، ومعناه ادخلوا في الفلاح فاحتمل أن يكون من فلح لازما أو يكون أفلح يأتي متعديا ولازما . وقرأ طلحة أيضا بفتح الهمزة واللام وضم الحاء . قال عيسى بن عمر : سمعت يقرأ " قد أفلحوا المؤمنون " فقلت له : أتلحن ؟ قال : نعم ، كما لحن أصحابي ، انتهى . يعني أن مرجوعه في القراءة إلى ما روي وليس بلحن ; لأنه على لغة أكلوني البراغيث . وقال طلحة بن مصرف : أو على الإبهام والتفسير . وقال الزمخشري ابن عطية : وهي قراءة مردودة ، وفي كتاب ابن خالويه مكتوبا بواو بعد الحاء ، وفي اللوامح وحذفت واو الجمع بعد الحاء لالتقائهما في الدرج ، وكانت الكتابة عليها محمولة على الوصل نحو ( ويمح الله الباطل ) . وقال : وعنه أي عن الزمخشري طلحة ( أفلح ) بضمة بغير واو اجتزاء بها عنها كقوله :
فلو أن الأطباء كان حولي
انتهى . وليس بجيد ; لأن الواو في ( أفلح ) حذفت لالتقاء الساكنين وهنا حذفت للضرورة ; فليست مثلها . قال : قد تقتضيه لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه ، انتهى . الزمخشري
لغة الخضوع والتذلل ، وللمفسرين فيه هنا أقوال : قال والخشوع : هو السكون وحسن الهيئة . وقال عمرو بن دينار مجاهد : غض البصر وخفض الجناح . وقال مسلم بن يسار وقتادة : تنكيس الرأس . وقال الحسن : الخوف . وقال الضحاك : وضع اليمين على الشمال . وعن علي : ترك الالتفات في الصلاة . وعن : إعظام المقام ، وإخلاص المقال ، واليقين التام ، وجمع الاهتمام . وفي الحديث أبي الدرداء أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي رافعا بصره إلى السماء ، فلما نزلت هذه الآية رمى ببصره نحو مسجده ، ومن الخشوع أن تستعمل الآداب فيتوقى كف الثوب ، والعبث بجسده وثيابه ، والالتفات ، والتمطي ، والتثاؤب ، والتغميض ، وتغطية الفم ، والسدل ، والفرقعة ، والتشبيك ، والاختصار ، وتقليب الحصى . وفي التحرير : اختلف في الخشوع : هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين ، والصحيح الأول ومحله القلب ، وهو أول علم يرفع من الناس ; قاله . عبادة بن الصامت
وقال : ( فإن قلت ) : لم أضيفت الصلاة إليهم ؟ ( قلت ) : لأن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى له ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته فهي صلاته ، وأما المصلى له فغني متعال عن الحاجة إليها والانتفاع بها . الزمخشري
( اللغو ) ما لا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل ، وما توجب المروءة اطراحه يعني أن بهم من الجد ما يشغلهم عن الهزل ، لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعهم الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف ، انتهى . وإذا تقدم معمول اسم الفاعل جاز أن يقوى تعديته باللام كالفعل ، وكذلك إذا تأخر ، لكنه مع التقديم أكثر فلذلك جاء ( للزكاة ) باللام ولو جاء منصوبا لكان عربيا ، والزكاة إن أريد بها التزكية صح نسبة الفعل إليها إذ كل ما يصدر يصح أن يقال فيه فعل ، وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير [ ص: 396 ] فيكون على حذف أي لأداء الزكاة ( فاعلون ) إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكي أو يضمن " فاعلون " معنى مؤدون ، وبه شرحه التبريزي . وقيل ( للزكاة ) للعمل الصالح كقوله ( خيرا منه زكاة ) أي عملا صالحا ; قاله أبو مسلم . وقيل : " الزكاة " هنا النماء والزيادة ، واللام لام العلة ، ومعمول ( فاعلون ) محذوف ، التقدير ( والذين هم ) لأجل تحصيل النماء والزيادة ( فاعلون ) : الخير . وقيل : المصروف لا يسمى زكاة حتى يحصل بيد الفقير . وقيل : لا تسمى العين المخرجة زكاة ، فكان التغيير بالفعل عن إخراجه أولى منه بالأداء ، وفيه رد على بعض زنادقة الأعاجم الأجانب عن ذوق العربية في قوله : ألا قال مؤدون ، قال في التحرير والتحبير : وهذا كما قيل لا عقل ولا نقل ، والكتاب العزيز نزل بأفصح اللغات وأصحها بلا خلاف . وقد قال : أمية بن أبي الصلت
المطعمون الطعام في السنة الأز مة والفاعلون للزكوات
ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا طعن فيه علماء العربية ، بل جميعهم يحتجون به ويستشهدون ، انتهى . وقال : وحمل البيت على هذا أصح لأنها فيه مجموعة يعني على أن الزكاة يراد بها العين وهو على حذف مضاف ، أي لأداء الزكوات ، وعلل ذلك بجمعها يعني أنها إذا أريد بها العين صح جمعها ، وإذا أريد بها التزكية لم تجمع ; لأن التزكية مصدر والمصادر لا تجمع ، وهذا غير مسلم بل قد جاء منها مجموعا ألفاظ كالعلوم والحلوم والأشغال ، وأما إذا اختلفت فالأكثرون على جواز جمعها وهنا اختلفت بحسب متعلقاتها فإخراج النقد غير إخراج الحيوان وغير إخراج النبات ، والزكاة في قول أمية مما جاء جمعا من المصادر ، فلا يتعدى حمله على المخرج لجمعه . الزمخشري
وحفظ لا يتعدى بعلى . فقيل : على بمعنى من ، أي إلا من أزواجهم كما استعملت من بمعنى على في قوله : ( ونصرناه من القوم ) أي على القوم ; قاله الفراء ، وتبعه ابن مالك وغيره والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن ( حافظون ) معنى ممسكون أو قاصرون ، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله : ( أمسك عليك زوجك ) وتكلف هنا وجوها . فقال ( الزمخشري على أزواجهم ) في موضع الحال ، أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك : كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلانا ، ونظيره كان زياد على البصرة أي واليا عليها . ومنه قولهم : فلان تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشا أو تعلق على بمحذوف يدل عليه " غير ملومين " ، كأنه قيل : يلامون ( إلا على أزواجهم ) أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم ( فإنهم غير ملومين ) عليه أو يجعله صلة لحافظين من قولك احفظ علي عنان فرسي ، على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك الله إلا فعلت ، بمعنى ما طلبت منك إلا فعلك ، انتهى . يعني أن يكون حافظون صورته صورة المثبت وهو منفي من حيث المعنى ، أي والذين هم لم يحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم ، فيكون استثناء مفرغا متعلقا فيه على بما قبله كما مثل بنشدتك الذي صورته صورة مثبت ، ومعناه النفي أي ما طلبت منك . وهذه التي ذكرها وجوه متكلفة ظاهر فيها العجمة .
وقوله ( أو ما ملكت ) أريد بها النوع كقوله ( فانكحوا ما طاب لكم ) ، وقال : أريد من جنس العقلاء ما يجري مجرى غير العقلاء ، وهم الإناث ، انتهى . وقوله وهم الإناث ليس بجيد ; لأن لفظ هم مختص بالذكور ، فكان ينبغي أن يقول وهو الإناث على لفظ ما أو هن الإناث على معنى ما ، وهذا الاستثناء حد يجب الوقوف عنده ، الزمخشري خاص بالرجال ولا يجوز للنساء بإجماع ، فلو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار . وقال والتسري النخعي والشعبي : يبقيان على نكاحهما ، وفي قوله ( وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة أو ما ملكت أيمانهم ) دلالة على تعميم وطء ما ملك باليمين وهو مختص [ ص: 397 ] بالإناث بإجماع ، فكأنه قيل ( أو ما ملكت أيمانهم ) من النساء . وفي ، وبين المملوكة وعمتها أو خالتها ; خلاف ، ويخص أيضا في الآية بتحريم الجمع بين الأختين من ملك اليمين والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر ، ويشمل قوله : " وراء ذلك " الزنا ، واللواط ، ومواقعة البهائم ، والاستمناء ، ومعنى " وراء ذلك " وراء هذا الحد الذي حد من الأزواج ومملوكات النساء ، وانتصابه على أنه مفعول بابتغى ، أي خلاف ذلك . وقيل : لا يكون وراء هنا إلا على حذف تقديره ما وراء ذلك . وطء الحائض
والجمهور على تحريم ويسمى الخضخضة وجلد عميرة يكنون عن الذكر بعميرة ، وكان الاستمناء يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة ، وسأل حرملة بن عبد العزيز مالكا عن ذلك فتلا هذه الآية ، وكان جرى في ذلك كلام مع قاضي القضاة أحمد بن حنبل أبي الفتح محمد بن علي بن مطيع القشيري ابن دقيق العيد ، فاستدل على منع ذلك بما استدل مالك من قوله : ( فمن ابتغى وراء ذلك ) فقلت له : إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر بذلك في أشعارها ، وكان ذلك كثيرا فيها بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ، ولم يكونوا ينكرون ذلك . وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيها ولا ذكره أحد منهم في أشعارهم فيما علمناه فليس بمندرج في قوله ( وراء ذلك ) ألا ترى أن محل ما أبيح وهو نساؤهم بنكاح أو تسر فالذي وراء ذلك هو من جنس ما أحل لهم ، وهو النساء ، فلا يحل لهم شيء منهن إلا بنكاح أو تسر ، والظاهر أن لا يندرج تحت قوله : ( نكاح المتعة فمن ابتغى وراء ذلك ) ; لأنها ينطلق عليها اسم زوج . وسأل الزهري عن المتعة ، فقال : هي محرمة في كتاب الله وتلا : ( القاسم بن محمد والذين هم لفروجهم حافظون ) الآية ، ولا يظهر التحريم في هذه الآية .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية " لأمانتهم " بالإفراد وباقي السبعة بالجمع ، والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد ، فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان قبل ، ويحتمل الخصوص في أمانات الناس . والأمانة : هي الشيء المؤتمن عليه ومراعاتها القيام عليها لحفظها إلى أن تؤدى ، والأمانة أيضا المصدر ، وقال تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ، والمؤدى هو العين المؤتمن عليه أو القول إن كان المؤتمن عليه لا المصدر . وقرأ الأخوان على صلاتهم بالتوحيد ، وباقي السبعة بالجمع . والخشوع والمحافظة متغايران بدأ أولا بالخشوع ، وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية ، وثنى بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيئاتها ، ويكون ذلك دأبه في كل وقت . قال : ووحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أي صلاة كانت ، وجمعت آخرا لتفاد المحافظة على أعدادها وهي : الصلوات الخمس ، والوتر ، والسنن المرتبة مع كل صلاة ، وصلاة الجمعة ، والعيدين ، والجنازة ، والاستسقاء ، والكسوف والخسوف ، وصلاة الضحى ، والتهجد ، وصلاة التسبيح ، وصلاة الحاجة ، وغيرها من النوافل . الزمخشري
( أولئك ) أي الجامعون لهذه الأوصاف ( هم الوارثون ) الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم ، ثم ترجم الوارثين بقوله : ( الذين يرثون الفردوس ) فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر ، ومعنى الإرث ما مر في سورة مريم ، انتهى . وتقدم الكلام في الفردوس في آخر الكهف .